وزير الخارجية الإيرانى عباس عراقجي؛ أكد أن التفاوض الذى سيجرى مع الولايات المتحدة فى سلطنة عمان، سيكون بآلية غير مباشرة، فى حين أكدت المتحدثة الرسمية باسم البيت الأبيض كارولين ليفيت أن المحادثات الأمريكية الإيرانية، ستكون مباشرة نافية ما أوردته إيران! ليس هذا بالتأكيد هو التناقض الوحيد بين واشنطن وطهران فى المسار المرتقب، الذى يعود ليفتح مجددا بعقول وذائقة الإدارة الأمريكية الجديدة، التى ترى بعيون الرئيس ترامب ـ وحده ـ أنها قادرة على صياغة اتفاقية جديدة تسهم فى بناء السلام والاستقرار الإقليمي.
الوزير عراقجى استبق هذه الجولة باستنساخ أدوات سلفه الشهير جواد ظريف، ونشر مقالا فى صحيفة «الواشنطن بوست» ليصل برسائله إلى الجانب الأمريكي، حاول أن يكشف من خلاله محددات إيران قبيل المضى فى هذه الجولة الجديدة، مع إدراكه أن الدرب التفاوضى الذى سار عليه الوزير ظريف يختلف إلى حد كبير، عن العوائق التى فرضت نفسها على ما ينتظره هو فى مسقط. لذلك كان أهم ما ذكره فى مقاله أن إيران مستعدة للدخول فى تفاعل جاد، وإجراء حوار بهدف التوصل لاتفاق، وشرح بأن المفاوضات غير المباشرة ليست تكتيكا ولا تعكس توجها أيديولوجيا، إنما تمثل خيارا إستراتيجيا، اتخذته طهران بناء على الخبرة التفاوضية السابقة. معللا بأنهم يواجهون جدارا كبيرا من انعدام الثقة، ولديهم شكوك جدية بشأن صدق النيات لدى الطرف الآخر. وأشار عراقجى الى أن عدم الثقة تفاقم مع إصرار الولايات المتحدة على استئناف سياسة الضغط الأقصى ضد إيران، قبل أى تفاعل دبلوماسى منتظر.
بالتأكيد طهران قلقة من التلويح الأمريكى باستخدام القوة العسكرية لحل المعضلة الإيرانية، وترى أن إقحام إسرائيل فى هذا الأمر أو فرض الأخيرة لنفسها على جدول أعمال تلك القضية، هو ملمح بارز لاستخدام سياسة الضغط الأقصى تجاه إيران. لهذا كان الوزير الإيرانى مباشرا فى التعبير عن ذلك من خلال مقاله، باعتبارها نقطة استدراكية رئيسية، بأن المضى قدما نحو المستقبل يلزمه أولا التوصل إلى فهم مشترك (أمريكي/ إيراني) لهذه الحقيقة المبدئية، بأنه لا يمكن أن يكون هناك «خيار عسكري» فضلا عن التفكير من الأساس بـ«حل عسكري». مؤكدا أن الرئيس الأمريكى يدرك ذلك فى حال نحى جانبا الضغوط الإسرائيلية، فإيران تأتى هذه المرة، وهى تحمل فرصة للولايات المتحدة وللرئيس ترامب شخصيا بأن يكون رئيسا للسلام، وتطلب منه أن يقدم لهم الاحترام كى يرد الإيرانيون بالمثل. ومسألة الاحترام والندية التى أوردها الوزير عراقجى فى مقال الواشنطن بوست، كانت نقطة جوهرية تحدث بها الوزير السابق جواد ظريف، واعتبرها مثلت مفتاحا رئيسيا لنجاح مفاوضات 2015. أهمية جواد ظريف فى خوضه وإنجازه الاتفاق السابق، يماثله فيه الرئيس السابق حسن روحانى الذى جرى الأمر فى عهده، لذلك هرعت إليه وسائل إعلام إيرانية رئيسية تستطلع رؤيته وتوقعاته للجولة الجديدة، ونقلت عنه بعض الإشارات المهمة منها أنه ينحاز للمفاوضات المباشرة عكس التوجه الرسمى الحالي. فمن وجهة نظره؛ أن المفاوضات السابقة لو أنها كانت «غير مباشرة»، لما تمكن التوصل إلى الاتفاق حتى فى 20 سنة، وليس فقط فى عامين، بحسب تعبيره. دون أن يغفل روحانى أن البيئة التفاوضية الحالية تمثل وضعا مختلفا، لكن التأكيد الأهم من جانبه جاء فى توصية للداخل الإيرانى بضرورة الحديث بصوت واحد فى مواجهة من أسماهم بـ«الأعداء».
البيئة التفاوضية المختلفة، هى الهاجس الإيرانى الأهم حاليا، فالمرة السابقة كان هناك إبعاد أمريكى صارم لإسرائيل عن غرفة التفاوض الثنائية، هذه المرة وبعد المياه التى جرت فى نهر التصادم العسكرى الإسرائيلى الإيرانى على هامش الحرب على غزة، صار الوجود الإسرائيلى ملحا ومناكفا للجانب الأمريكي. هذا يقلق طهران كثيرا، وترى أن أهداف إسرائيل ببساطة هى تخريب الوصول لاتفاق، ذلك اليقين يعطى الجناح المتشدد فى إيران مساحات أوسع للتداخل فى المشهد التفاوضى وهم فى القلب منه طوال الوقت، لكنه سمح بشكل واضح أن يضعوا خطوطا حمراء حول القدرات العسكرية الإيرانية، وأن تستبعد كليا من التفاوض وألا تمس من الجانب الأمريكى فى إشارة إلى برنامج الصواريخ الباليستية وخطوط إنتاج المسيرات. لذلك كان حديث الرئيس السابق روحانى بشكل رئيسى يستهدف ترميم هذا الاختلاف الجوهرى بين الأجنحة فى الداخل الإيراني، وهو بالمناسبة حقيقى هذه المرة، وقد ذكر نصا ماتداولته وسائل الإعلام الإيرانية بكثافة خلال الساعات التى سبقت الجولة الجديدة، أنه «كلما قللنا من الخلافات وزدنا من الوحدة والتماسك الوطني، زادت فرص نجاحنا فى المفاوضات، وسنتمكن من منع نيتانياهو من تحقيق أهدافه».
على الجانب الآخر؛ واشنطن تحاول فعليا ترويض الجموح الإسرائيلى للانقضاض الثنائى على إيران، وهو توجه معتمد منذ عهد الإدارة السابقة للرئيس بايدن، فقد تبين أن رئيس الوزراء نيتانياهو الذى كان موجودا فى البيت الأبيض منذ أيام، أبلغ بالمفاوضات قبل ساعات فقط من إعلان الرئيس الأمريكى عن الجولة المرتقبة، ولم يحصل على أى ضمانات بشأن ما سيحدث إذا فشلت المحادثات. بحيث اكتفى الرئيس الأمريكى بتصريح اعلامى غامض وفضفاض من وجهة نظر إسرائيل، بأن إيران ستدفع الثمن غاليا إذا فشلت فى التوصل إلى اتفاق. بينما مازال الجانب الأمريكى يعتمد سياسة فرض العقوبات على إيران، كما ذكرت وزارة الخارجية الأمريكية أن الرئيس أعاد فرض «عقوبات مشلة» على النظام الإيراني. هذا التوجه الأمريكى منتقدا بقسوة من إسرائيل، ويراه نيتانياهو شخصيا غير كاف، وأن أى اتفاق نووى محتمل لن ينجح إلا إذا تم تدمير «منشآت إيران» النووية فعليا وتفكيكها، على أن يتم ذلك تحت إشراف وتنفيذ أمريكى مباشر!
الهوة كبيرة بين الجانبين، لكن المعطيات تدل على أن ستيف ويتكوف مكلف من الرئيس الأمريكى بمهمة محددة، هى الذهاب إلى سلطنة عمان والعودة باتفاق شامل ملزم يضعه فى موقع الانتصار، لا يستتبعه تشويش من أى نوع بالأخص من الجانب الإسرائيلي. فهل يكون الملف النووى الإيرانى قد بات أخيرا على موعد مع أمتاره الأخيرة؟.
المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
