منذ سقوط نظام “البشير” وتولّي المجلس الانتقالي العسكري مقاليد وزمام الأمور في السودان، أُثيرت مجموعة من القضايا والملفات بين عددٍ من القوى والفواعل السودانية. وقد حظيت قضية التعامل مع الميليشيات المحسوبة على المؤتمر الوطني ونظام “البشير” بمساحة كبيرة من هذا النقاش، الأمر الذي يمكن تتبعه عبر مجموعة من البيانات والحوارات، سواء من قبل قيادات المجلس الانتقالي العسكري أو قوى إعلان الحرية والتغيير.
فمنذ بداية الاحتجاجات، طالبت قوى الحرية والتغيير بحل الميليشيات التابعة للمؤتمر الوطني على اختلافها. وفي استجابة مباشرة لمطالب الحركة الاحتجاجية السودانية، أعلن الفريق أول “عبدالفتاح البرهان” في لقاء تلفزيوني (21 أبريل 2019) عن أن هذه العناصر ستئول أصولها للقوات المسلحة، وسيتم إعفاء وتسريح باقي الموظفين التابعين لها، وهو ما يعني أن المقاتلين التابعين لهذه العناصر سيصبحون جزءًا من العناصر النظامية في القوات المُسلحة.
وانطلاقًا مما سبق، نتناول أبرز العناصر والميليشيات المسلحة التابعة للمؤتمر الوطني، ومن ثم الوقوف على مستقبل هذه الميليشيات في ظل الدعوات والتفاعلات القائمة بشأنها.
خريطة أبرز الميليشيات التابعة للمؤتمر الوطني
استحدث نظام “البشير” مجموعة من الميليشيات والقوات شبه العسكرية، سعى لتوظيفها للقيام بدور الدولة في حفظ الأمن، وكذا استغلالها في حماية النظام. ونعرض فيما يلي أهم هذه الميليشيات.
1- قوات الدفاع الشعبي
تشكّلت هذه القوات وفقًا لقانون قوات الدفاع الشعبي عام 1989 باعتبارها قوة شبه عسكرية. كما يتم تصنيف هذه القوات ضمن الميليشيات المسلحة الموالية للحكومة، باعتبارها أحد الأجهزة الأمنية التابعة لمؤسسات الدولة، ناهيك عن أن هذه القوات كانت بمثابة جناح عسكري للحركة الإسلامية في السودان.
وتعمل هذه القوات على تدريب المواطنين على أعمال الدفاع المدني والعسكري، ورفع درجة “الوعي الأمني” و”الانضباط العسكري”، بحيث تصبح هذه العناصر بمثابة قوة احتياطية للقوات النظامية. وقد سعت هذه القوات في البداية إلى استقطاب وتجنيد الشباب والطلاب الناشطين في الحركة الإسلامية، حيث تذهب بعض التقديرات إلى أن الطلبة يمثلون نحو 60% من متدربي ميليشيا الدفاع الشعبي. وبمرور الوقت أصبح التدريب في معسكرات الدفاع إجباريًّا للشباب من سن 16 عامًا ضمن نظام الخدمة المدنية التي بدونها لن يتمكن المواطن من العمل أو السفر للخارج. وقد ذهبت بعض التقديرات إلى أن قوات الدفاع الشعبي بلغت نحو 10 آلاف عضو نشط مقابل 85 ألف احتياطي خلال عام 2004. وقد لعبت هذه القوات طيلة حكم “البشير” دورًا بارزًا في الحرب ضد المتمردين في الجنوب.
وفيما يتعلق بموقف قوات الدفاع الشعبي من الاحتجاجات والتظاهرات ضد “البشير”، فقد دعا الفريق أول “عوض بن عوف” (وزير الدفاع آنذاك) قوات الدفاع الشعبي للجاهزية القتالية من أجل التصدي لأي أعمال عدائية. كما أكد على ضرورة تجهيز كتائب الإسناد المدني للتصدي لأعمال الشغب المتوقعة. جاء ذلك خلال كلمته في ملتقى التدريب والعمليات لقوات الدعم الشعبي مطلع أبريل 2019.
وحول إمكانية حل هذه القوات، فقد أكد الفريق أول “عمر زين العابدين”، رئيس اللجنة السياسية العسكرية المكلفة من المجلس العسكري الانتقالي بالسودان، “أن قوات الدفاع الشعبي قامت بقانون وليس عبثًا، وهي مؤسسات إلزامية وتمت الاستعانة بها، وإذا كان هناك خطأ بها فسوف يتم تصحيحه”، في إشارة إلى أن مطالب قوى إعلان الحرية والتغيير بشأن حل كافة الميليشيات قد لا تجد صدى في حالة قوات الدفاع الشعبي. وقد يفتح هذا الاختلاف في الرؤى مجالًا للتشابكات والتباينات في الفترات القادمة.
2- قوات الأمن الشعبي
تأسست هذه القوات تنفيذًا لأهداف وأجندة “الجبهة الإسلامية” بالسودان بقيادة “حسن الترابي” في ثمانينيات القرن العشرين، وكانت تُعرف -آنذاك- بـــ”أمن الجبهة”، وتحولت في أعقاب عام 1989 إلى “قوات الأمن الشعبي”. وقد تعاقب على قيادة هذه القوات عدد من الشخصيات البارزة، حيث تولى إدارتها في وقت ما “حسن الترابي”، كما تولّى “علي عثمان طه” (النائب الأول السابق لرئيس الجمهورية) الإشراف عليها في مرحلة تالية.
وقد تكونت هذه القوات من عناصر النظام في الخدمة المدنية، وعملت على رصد المعارضين والمناهضين لنظام “البشير”؛ إلا أن دورها قد تقلص بشكل كبير، خاصة في مرحلة ما بعد 2005 وعقب توقيع اتفاقية السلام الشامل بين الشمال والجنوب. ويشير عدد من التقارير إلى أن هذه القوات لا تمتلك سلاحًا ولا مقرًّا خاصًّا بها. وقد نُسب إليها الضلوع في محاولة اغتيال الرئيس المصري السابق “محمد حسني مبارك” في أديس أبابا عام 1995 بمساعدة جهات وعناصر خارجية.
3- كتائب الظل
يُنسب تأسيس “كتائب الظل” إلى “حسن الترابي” في تسعينيات القرن الماضي، وذلك بغرض حماية الحركة الإسلامية وكبار رجال الدولة ورجال الأعمال الأعضاء في حزب المؤتمر الوطني. كما عملت هذه الكتائب على تجميع المعلومات وتنفيذ بعض المهام ضد خصوم النظام. وتعاقب على تدريب عناصر الظل عدد من القيادات في حزب المؤتمر الوطني، من بينهم “نافع علي نافع” و”قطبي المهدي”، بالإضافة إلى “علي عثمان طه” نائب الرئيس السوداني السابق “عمر البشير”.
وعلى الرغم من غياب التقديرات حول حجم القوة البشرية والتسليحية لكتائب الظل، فقد جاء تصريح “علي عثمان طه” (يناير 2019) حول وجود “كتائب ظل” يمكنها أن تحمي الرئيس السوداني ونظامه وتدافع عنه بأرواحها ضد أي محاولات من شأنها أن تزعزع من استقراره، ليؤكد بشكل رسمي وجود مثل هذه العناصر وما يمكن أن تفعله تجاه المتظاهرين والمُحتجين، الأمر الذي اعتبره البعض تهديدًا مباشرًا للمُحتجين والمُتظاهرين. وقد لعبت هذه العناصر دورًا في استهداف المتظاهرين والنيل منهم، وارتكاب أعمال تخريب وشغب، ومن ثم إلقاء اللوم على المعارضة، وهو ما بدا واضحًا في تظاهرات سبتمبر 2013، وكذا في مراحل مختلفة من الاحتجاجات الراهنة.
4- عناصر الشرطة الشعبية
تأسست “الشرطة الشعبية” في عام 1992، ونظم عملها قانون الشرطة بغرض إشراك المواطن في منع الجريمة، وتعزيز دور اللجان الشعبية في حفظ الأمن. كما تعمل على تأمين المؤسسات، ويخول إليها مهام ترتبط ببرامج الدفاع المدني ومكافحة المخدرات والتسرب الدراسي وتأمين المؤسسات. وفي أعقاب اتفاق السلام الشامل تغير اسم هذه القوات في عام 2007، إلى “الشرطة الشعبية والمجتمعية”.
وقد عمدت الشرطة الشعبية إلى الدخول في عدد من الشراكات الأمنية بغرض تطوير وتعزيز قدراتها، وهو ما أسفر عن توقيعها بروتوكول تعاون وشراكة مع البعثة الإفريقية المشتركة في دارفور “يوناميد” بداية من عام 2013، تحت اسم “التدريب الأهلي”.
وتقوم “الشرطة الشعبية والمجتمعية” بمهامها من خلال تشكيل عدد من اللجان المجتمعية التي تتواجد في كافة الولايات السودانية. وفي هذا السياق، أشار المنسق العام لقوات الشرطة الشعبية بولاية جنوب دارفور الدكتور “بهاء الدين حسين” في حوار صحفي لجريدة “السودان اليوم” (أغسطس 2016)، إلى أن الشرطة المجتمعية تقوم بعدد من التدابير الأمنية للحيلولة دون وقوع الجريمة، مؤكدًا أن لدى الشرطة المجتمعية في جنوب دارفور نحو 3500 لجنة مجتمعية على مستوى 21 محلية تقوم بحفظ الأمن وتقديم دعم لقوات وعناصر الشرطة، ناهيك عن وجود 2450 عنصرًا لمساعدة الشرطة في العملية الأمنية.
احتمالات قائمة
في ضوء العرض السابق، يمكن القول إن توظيف وتجنيد هذه الميليشيات من قبل المؤتمر الوطني ساهم في غياب دور الدولة بشكل كبير، إذ لم تعد الدولة تحتكر وحدها حق استخدام القوة، ومن ثم تبقى كافة الاحتمالات بشأن مستقبل هذه الميليشيات قائمة، خاصة في ظل التفاعلات والتباين في وجهات النظر بين مختلف القوى السياسية والمجلس العسكري بشأن سبل التعامل مع هذه العناصر.
الاحتمال الأول: حل الميليشيات، وينطلق هذا الاحتمال من رفض الحركة الاحتجاجية والقوى الفاعلة في المشهد السوداني إجراءات المجلس العسكري الانتقالي بشأن دمج هذه العناصر داخل القوات المُسلحة، حسبما أعلن الفريق أول “عبدالفتاح البرهان” في لقاء تلفزيوني (21 أبريل 2019)، الأمر الذي من شأنه أن يخلق حالة من التباين بين الطرفين، ومن ثم يستمر الضغط من قبل المُحتجين على المجلس العسكري لحل هذه الميليشيات وتفكيكها. وهنا قد يضطر المجلس -استجابة لهذه الضغوط- إلى حل هذه الميليشيات وإقصائها من المشهد ومن ثم خروجها نهائيًّا من المعادلة.
الاحتمال الثاني: الدمج والتطويع، وينطلق هذا الاحتمال من تمسك المجلس العسكري الانتقالي بموقفه من دمج العناصر القتالية التابعة للمؤتمر الوطني في القوات المسلحة، انطلاقًا من أن هذه الميليشيات قد نشأت بقانون، وبالتالي يُصبح من المُحال تفكيكها أو حلها. وفي هذه الحالة قد يلجأ المجلس الانتقالي إلى استغلال وتطويع هذه العناصر لتحقيق مجموعة من الأغراض والأهداف طيلة فترة المرحلة الانتقالية، سواء في التعامل مع المُحتجين أو التعاطي مع أي أعمال شغب يمكن أن تحدث مستقبلًا.
الاحتمال الثالث: التغيير الصوري، يفترض هذا الاحتمال التراجع الشكلي والتغيير الصوري في بنية وهيكل هذه الميليشيات، مع استمرار عمل هذه العناصر لصالح قيادات المؤتمر الوطني، خاصة في ظل صعوبة القضاء التام على أنشطة هذه العناصر نظرًا لتغلغلها في مؤسسات الدولة السودانية وامتلاكها النفوذ، ومن ثم يصعب السيطرة عليها بشكل تام. ونظرًا لأن هذه العناصر لا تزال تدين بالولاء والانتماء لقيادات المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية في السودان فقد يمكن توظيفها واستغلالها في إرباك مؤسسات الدولة كمقدمة لعودة تيارات الإسلام السياسي للمشهد والساحة السودانية.
إجمالًا، تظل كافة الاحتمالات واردة، وتبقى التساؤلات حول إمكانية حل هذه الميليشيات أو دمجها في المؤسسات والأجهزة الأمنية السودانية قائمة، كما تظل فرص استغلال الحركة الإسلامية وحزب المؤتمر لهذه العناصر للعودة مرة أخرى للمشهد ممكنة، وهو ما ستُجيب عنه التفاعلات والتحولات في المشهد السياسي السوادني في المراحل القادمة.