شهد العقدان الأخيران تحولات جوهرية في ميزان القوى العالمي، وقد برزت الصين خلالهما كقوة عسكرية وتكنولوجية صاعدة تنافس الولايات المتحدة وروسيا في مجالات متعددة منها التكنولوجيا العسكرية. فلم يعد الحضور الصيني مقصورًا على القوة الاقتصادية، بل امتد إلى تطوير صناعات عسكرية متقدمة؛ مما أثّر في توازنات الصراعات الدولية، وغيّر من حسابات الردع ولا سيما بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين في آسيا والمحيط الهادئ، كما يعزز سياسات تنويع السلاح لدى دول في أفريقيا والشرق الأوسط لمواجهة المشروطيات الغربية في صادرات السلاح.
ملامح بارزة
برز استخدام الأسلحة الصينية في عددٍ من الصراعات الدولية من أبرزها ما يلي:
– الصراع بين الهند وباكستان: لعبت الصين دورًا غير مباشر وإن كان مؤثرًا في الصراع بين الهند وباكستان عبر دعمها العسكري والتكنولوجي لباكستان التي أشادت باستخدام طائراتها الصينية (J-10Cs) لإسقاط خمس مقاتلات هندية، ردًا على الضربات العسكرية الهندية. نتيجة لذلك، شهدت أسهم شركة (AVIC Chengdu Aircraft) الصينية المُصنّعة للطائرة ارتفاعًا في قيمتها السوقية بأكثر من 55 مليار يوان وبنسبة 40%. كما خضعت الأسلحة الصينية، ولا سيما الطائرات المقاتلة والصواريخ ومنظومات الرصد والتشويش، لمقارنات مع الأسلحة الغربية بعد أن أثبتت فاعليتها في أول استخدام قتالي معروف لها، على نحو مغاير للصورة النمطية الشائعة عنها كونها محدودة القدرات مقارنة بالأسلحة الغربية والروسية.
– الحرب الروسية-الأوكرانية: زودت الصين روسيا بالبارود والمدفعية لتعزيز قدراتها الدفاعية، كما شارك صينيون في إنتاج الأسلحة على الأراضي الروسية. ومن الشواهد على ذلك إعلان موسكو وبكين عن “اتفاقية شراكة بلا حدود” في فبراير 2022 اتُّهمت بكين على خلفيتها بتزويد روسيا سرًا بأسلحة ومكونات لإنتاج الطائرات المُسيّرة، بينما قطعت إمدادات الطائرات المُسيّرة عن أوكرانيا. وقد ألقت الأخيرة في إبريل 2025 القبض على مواطنين صينيين في أوكرانيا أثناء قتالهما إلى جانب القوات الروسية، وذلك من بين 155 صينيًا على الأقل من القوات المسلحة الروسية.
– اليمن: وفقًا لقاعدة بيانات معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، فإن اليمن لم يكن من بين المستوردين الرئيسيين للأسلحة الصينية في السنوات الأخيرة. فقد شكّلت الصين 1.2% فقط من واردات الأسلحة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال الفترة من 2020 إلى 2024، بانخفاض عن 3.0% في الفترة من 2015 إلى 2019. وعلى الرغم من عدم توفر أرقام دقيقة لصادرات الأسلحة الصينية إلى اليمن، فإن التقارير تشير إلى أن هذه الصادرات كانت محدودة، خاصة بالمقارنة مع صادرات الصين إلى دول أخرى في المنطقة مثل باكستان وإيران، كما تشير إلى تورط الصين بشكل غير مباشر في دعم جماعة الحوثي من خلال توفير مكونات تكنولوجية متقدمة. فعلى سبيل المثال، اتهمت الولايات المتحدة شركة صينية بتزويد الحوثيين بصور أقمار صناعية ساعدتهم في تنفيذ بعض هجماتهم العسكرية، كما تم ضبط شحنات تحتوي على مكونات صينية تُستخدم في تصنيع طائرات بدون طيار؛ مما يشير إلى وجود شبكة لوجستية معقدة تدعم الحوثيين بتكنولوجيا متقدمة.
– ليبيا: رغم الحجم المحدود لصادرات الأسلحة الصينية إلى ليبيا، تشير بعض التقارير إلى تورط غير مباشر للصين في دعم بعض أطراف الصراع الليبي. فقد كشف تقرير لصحيفة “التلغراف” البريطانية -على سبيل المثال- عن خطة صينية سرية لإرسال 92 طائرة مُسيّرة بقيمة مليار دولار إلى الشرق الليبي مقابل نفط خام وبأسعار منخفضة عبر شركات وهمية مقرها المملكة المتحدة ودول أخرى. وفي يونيو 2024، اعترضت السلطات الإيطالية شحنة من الطائرات المُسيّرة الصينية من طراز “وينغ لونغ” كانت متجهة إلى بنغازي بعد أن تم إخفاؤها داخل حاويات تم تصنيفها على أنها أجزاء من توربينات رياح.
– السودان: في مايو 2025، كشفت منظمة العفو الدولية عن استخدام أسلحة صينية متطورة في النزاع السوداني، وبخاصة في الخرطوم ودارفور، ومنها قنابل مُوجّهة من طراز (GB50A) ومدافع هاوتزر 155 ملم من طراز (AH-4). كما تُعد الصين المصدر الرئيسي للبنادق الهجومية والرشاشات في السودان، بما في ذلك البنادق من طراز (Type 56). وقد استُخدمت هذه الأسلحة بشكل واسع؛ ومن ذلك -على سبيل المثال- استخدام القوات السودانية مدافع رشاشة ثقيلة صينية من طراز ((W85 التي تُركّب عادة على العربات القتالية وتُستخدم للدفاع الجوي أو الدعم الناري. كما استُخدمت منظومات الدفاع الجوي الصينية المحمولة على الكتف (FN-6) من قِبل بعض التشكيلات المسلحة في السودان خلال الاشتباكات الجوية؛ حيث أُسقطت طائرات باستخدام هذه المنظومة.
دلالات كاشفة
تُعدّ الصين رابع أكبر مُصدّر للأسلحة في العالم، وتشهد مبيعات الأسلحة الصينية رواجًا ملحوظًا نتيجة كثافة توظيفها في مختلف الصراعات المسلحة؛ حيث تضاعف متوسط صادراتها من الأسلحة على مدى خمس سنوات بأكثر من ثلاثة أضعاف في الفترة 2020-2024 مقارنةً بالفترة 2000-2004، وفقًا لمعهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام. كما تشهد الشركات العسكرية الصينية رواجًا متزايدًا، وبخاصة مجموعة “نورينكو” (إحدى أكبر الشركات الصينية الحكومية التي تُصنّع المركبات المدرعة وأنظمة الدفاع الصاروخي)، وشركة صناعة الطيران الصينية التي تتبع لها شركة (AVIC Chengdu Aircraft) السابق الإشارة إليها، بالإضافة إلى شركة بناء السفن الحكومية المُصنعة للفرقاطات والغواصات.
ومن المتوقع أن تؤدي الاشتباكات العسكرية الأخيرة بين الهند وباكستان إلى تزايد الطلب على الأسلحة الصينية، وبخاصة من دول الجنوب العالمي التي تعتبر الصين شريكًا تجاريًا رئيسيًا بعد أن تزايدت جاذبية أسلحتها. كما أدت تلك الاشتباكات إلى إعادة تقييم الأسلحة الصينية ومقارنتها بالأسلحة الغربية، بما يدفع الولايات المتحدة -على سبيل التحديد- إلى إعادة تقييم القدرات القتالية الجوية لجيش التحرير الشعبي في الصين. كما ستخضع الأسلحة الصينية التي تستخدمها باكستان لتدقيق مكثف من قبل خصوم بكين، ولا سيما تايوان التي راقبت الاشتباكات العسكرية بين باكستان والهند؛ مما قد يسفر عن مطالبة الولايات المتحدة بأنظمة أكثر تطورًا.
فلم تَخُضْ الصين حربًا كبرى منذ أكثر من أربعة عقود، ورغم ذلك دأبت بكين، في عهد الرئيس الصيني “شي جين بينغ”، على تحديث قوتها العسكرية، وتوسعت في صادراتها العسكرية وبخاصة إلى باكستان التي تحصل منها على 81% من أسلحتها المستوردة، وفقًا لتقديرات معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI). وتشمل هذه الصادرات طائرات مقاتلة متطورة وصواريخ ورادارات وأنظمة دفاع جوي، يتوقع أنها ستلعب دورًا محوريًا في أي صراع عسكري بين باكستان والهند. مما يجعل الصراع بين هاتين الدولتين بيئة اختبار فعلية للصادرات العسكرية الصينية؛ لأنه يقدم لمحة حقيقية عن أداء التكنولوجيا العسكرية الصينية المتقدمة في مواجهة المعدات الغربية، ولمحة مماثلة عن الكيفية التي يمكن بها للصادرات العسكرية الصينية أن تُعيد تشكيل توازنات القوى وحسابات الردع الإقليمية، ولمحة ثالثة عن مدى فاعليته المتوقعة حال اتسع الصراع مع تايوان.
فلطالما استُخدمت طائرات (J-10) التي تُلقبها وسائل الإعلام الصينية باسم “مقاتلة الفخر الوطني” (Fighter of National Pride) في التدريبات العسكرية الصينية لردع وتهديد تايوان دون أن تُختبر تلك الطائرات ميدانيًا؛ مما شكك في طبيعة أدائها عند استخدامها الفعلي. وعليه، دفعت بعض التحليلات -ومنها تلك المنشورة في صحيفة “جلوبال تايمز”- بأن الجيش التايواني لا يملك أي فرصة ضد تلك الطائرة. فلا شك أن نجاح تلك الطائرات سيعزز ثقة الصين في النزاعات الإقليمية المستقبلية حول تايوان وبحر الصين الجنوبي في ظل التطور المطّرد في صناعة الدفاع الصينية.
وعلى صعيد موازٍ، فإن تزايد استخدام الأسلحة الصينية في صراعات دولية عدة أثار تساؤلات عن الجاهزية القتالية للقوات الصاروخية الصينية؛ ومن بين تلك التساؤلات، كيف سيكون أداؤها ضد المقاتلات الأمريكية مثل (F-16) التي تُشكل الجزء الأكبر من طائرات تايوان، خاصة مع العيوب والتشققات الهيكلية التي تعاني منها صادرات الأسلحة الصينية التي تُكبّد مُقتنيها نفقات صيانة مرتفعة في ظل انخفاض أسعارها نسبيًا؛ ومن ذلك اضطرار ميانمار إلى إيقاف أسطولها من الطائرات الصينية المقاتلة في عام 2022، وشكاوى بنجلاديش من جودة المعدات العسكرية الصينية في عام 2024. فقد دفعت هاتان الحالتان وغيرهما إلى التشكك في قدرة الصين على توسيع صادراتها العسكرية.
ختامًا، شهدت الصناعات العسكرية الصينية تحولات كبرى من التركيز على الإنتاج الكمي للسلاح إلى تحسين الكفاءة النوعية؛ مما يمنح بكين ميزة تنافسية في الحروب الحديثة، ويعزز موقفها في صراعات مثل تايوان وبحر الصين الجنوبي، ويفرض معادلات ردع جديدة أمام واشنطن وحلفائها الإقليميين، ويجعل الصين من كبار موردي السلاح لبعض الدول الأفريقية والآسيوية. وعليه، يمكن الدفع بأن القدرات العسكرية الصينية، في ظل انخفاض أسعارها نسبيًا وتراجع القيود السياسية المصاحبة لاستيراد الأسلحة الصينية، سيضاعف الجهود الغربية لاحتواء الصين ومواجهة نفوذها العسكري.






