بدأ الردع تقليديًا في قواه وأدواته اعتمادًا على وسائل القتال التقليدية، وعلى التهديد باستخدام الأسلحة التقليدية، وهو ما يدلل عليه المثل الروماني “إذا كنت تريد السلم فكن متأهبًا للحرب”. وأكثر أشكال الردع التقليدي شيوعًا هو المتمثل في توعد الخصم بضربة عقابية موجعة في حال حدوث اعتداء من جانبه، وهو ما يسمى الردع عن طريق الترهيب أو التخويف بالعقاب. فالردع التقليدي يعني التهديد باستخدام الأسلحة التقليدية، في حين يقتصر الردع النووي على التلويح باستخدام السلاح النووي سواء أكان هذا الاستخدام جزئيًا أو كاملًا، محدودًا أو شاملًا. وقد نبعت أهمية ذلك المفهوم لدوره البارز في فهم وتفسير تفاعلات القوى الكبرى، وإن همش في المقابل الدول المتوسطة والصغرى بجانب الأنظمة الإقليمية على اختلافها.
أولًا- مفهوم الردع والمفاهيم ذات الصلة:
لا يوجد اتفاق بين الأدبيات المختلفة على تعريف محدد للردع على الرغم من قدم المفهوم كظاهرة وممارسة سياسية ونظرية، ولعل التعريف الأبرز له هو ذلك الذي يعرفه بأنه عملية إفهام الخصم المحتمل بأن الثمن الذي سيدفعه نتيجة عمل عدائي أكبر بكثير من المغانم التي يُمكن أن يحصل عليها. كما يُعرّف الردع سياسيًا أيضًا بأنه حالة محسوبة تهدف إلى دفع الخصم على الإقدام على عمل ما أو منعه من الإقدام عليه بالتهديد بالعقاب الحازم أو المساومة والابتزاز السياسي واحتواء النزاع، أو هو موقف يفكر في إطاره أحد أطرافه في مهاجمة الطرف الأخر الذي يعلم بذلك، ويهدد الطرف الأول بعواقب جمة إذا ما أقدم على هذا الهجوم. ويُقصد به أيضًا غياب الحرب بين بلدين أو تحالفين؛ ذلك أن غياب الحرب يعنى أن كل طرف تمكن من ردع الأخر بشرط توافر القدرات العسكرية التي تمكن من إرغام الطرف الآخر على التراجع عن سلوك عسكري ما.
وفي سياق متصل، يُعرفه الجنرال “أندريه بوفر” على أنه “منع دولة معادية من اتخاذ قرار باستخدام أسلحتها -أو بصورة أعم- منعها من العمل أو الرد إزاء موقف معين باتخاذ مجموعة من التدابير والإجراءات التي تشكل تهديدًا كافيًا حيالها، والنتيجة التي يراد الحصول عليها بواسطة التهديد (التأثير) هي نتيجة سيكولوجية نفسية. ويتضح من ذلك التعريف أن الردع يُستخدم كسياسة وأسلوب في العمل الاستراتيجي. وعلى الرغم من الذيوع الذي يتمتع به تعريف “بوفر”، فإنه يقصر الردع على الجانب العسكري أو استخدام القوة المسلحة فقط بغية الحصول على التأثير المطلوب، في حين لا يقتصر الردع على القوة العسكرية فحسب؛ وذلك وفقًا لكل من “بول هاث” وبروس” اللذين يعرفانه بأنه محاولة من صانعي القرار في دولة ما لإجبار صانعي القرار في أخرى على التجاوب مع مطالبهم. ويُلاحظ على هذا التعريف أنه يُقدّم خيار الصراع على خيار التعاون من خلال إشارته إلى “الإجبار”، لأنه من المفترض وجود طرف/أطراف لها القدرة الفعلية على إجبار الآخرين على القيام بفعل ما أو الامتناع عن القيام به.
وبشكل عام، يعتمد الردع على ركنين أساسيين: أحدهما مادي، والآخر معنوي؛ ففي حين ينطوي الركن الأول على تأمين كل مقتضيات القدرة ومستلزماتها على إنزال العقاب على نحو لا يقبل الشك في استخدام القوة، يتضمن الركن الثاني شقًا سيكولوجيًا-نفسًيا غايته إيقاع التأثير النفسي في الخصم من خلال إقناعه بجدوى الانصياع للطرف الرادع. وبخلاف ذلك، فإن الخصم سيتلقى عقابًا لن يكون بمقدوره تحمل تكلفته. وبذلك، ينطوي الردع على عملية حسابية أو موازنة عقلانية تقارن بين المغانم التي يمكن الحصول عليها والخسائر المتكبدة جراء الإقدام على عمل لا يرضى عنه الرادع.
وانطلاقًا من المعاني والتعريفات السابقة، تجدر الإشارة إلى تعدد المفاهيم ذات الصلة بمفهوم الردع، ومن أمثلة ذلك الردع السيبراني الذي يشير إلى منع الأعمال الضارة ضد الأصول الوطنية في الفضاء والأصول التي تدعم العمليات الفضائية بأي وسيلةٍ كانت، وكذا الردع غير المباشر بالضغط على الأطراف الثالثة التي تُدعم الإرهاب بدلًا من ردع الإرهابيين، والردع بالإنكار من خلال درء أو تقليل الضرر في حال الهجوم والتخفيف من الآثار المحتملة جراء أي هجوم إرهابي، والردع بالعقاب من خلال تحديد أهداف ذات قيمة عالية تجعل القادة الأكثر تطرفًا يحسبون التكاليف والفوائد المحتملة، والردع التكاملي الثلاثي وهو استخدم دولة واحدة للتهديدات والعقوبات ضد دولة أخرى لردع الفاعلين من غير الدول من شن هجمات من أراضي دول أخرى، وردع الفاعل الجماعي الذي يُشير إلى الدور الذي تلعبه المنظمات الدولية ونظام الأمن الجماعي وحلف الناتو في ردع بعض الدول من الإقدام على بعض الأفعال العدوانية بسبب الخوف من العقاب الجماعي، والردع المتبادل بينقوتين نوويتين على شاكلة الهند وباكستان، والردع المتبادل المؤكد أيقدرة كل طرف على تدمير الطرف الآخر حتى بعد التعرض لهجوم نووي.
ثانيًا- تطور مفهوم الردع:
تتمثل الفكرة الكامنة من وراء نظام توازن القوى في حتمية الصراع الذي لا تمليه المصالح القومية النسبية للدول فحسب، وإنما ينبع بالأساس من محاولة كل دولة زيادة قوتها القومية على حساب غيرها من الدول أيضًا؛ فإذا حققت دولة ما تفوقًا ساحقًا في قواها، هددت استقلال الدول الأخرى وحرياتها، ما يدفع الأخيرة إلى اللجوء إلى القوة ردًا على العدوان. فقد وُصف الردع في تلك المرحلة بالتقليدي، وذلك وفقًا لنوعية وطبيعة الأسلحة المستخدمة فيها، وتمييزًا له عن الردع النووي القائم على الأسلحة النووية. لذا، كان الردع في ظل نظام توازن القوى التقليدي قائمًا على القدرة على تحقيق الانتصار في الحرب -إذا ما قُدّر لها أن تندلع- بإلحاق هزيمة ساحقة بالعدو ودحره وتدمير جيوشه بل واحتلال أرضه، أو على الأقل فرض الإرادة السياسية بعد الانتصار عليه عسكريًا إذا لم يستجب الطرف للطرف الرادع.
وعليه كان الخوف من العقاب -إذا ما تم تجاهل تهديدات الطرف الرادع- يتوقف إلى حد بعيد على تقدير الطرف الذي يملك القدرة على الانتصار في الحرب. ولذلك أيضًا، كان التهديد بالعقاب -الذي يعتمد تنفيذه على إلحاق الهزيمة في الحرب- رادعًا للعدو. فالردع يتحقق عندما يتأكد الفارق النوعي والكمي للعوامل التي تتشكل منها القوة المادية وغير المادية بحوزة أي من الطرفين المتقابلين عندما تترجم إلى قدرة فعلية لممارسة تأثير ناجح أو سلوك ضاغط على الطرف الآخر. وعليه، كانت قيمة الردع وآلية عمله وشروط نجاحه تعتمد جميعها على تلك العوامل التي تزيد من حالة الاقتدار العسكري التي يملكها طرف معين، لتجعل من مسألة الحرب قضية خاسرة لغيره، ومقترنة بثبوتية الانتصار وحتميته بالنسبة إليه. ولا شك أن التوزيع المتكافئ للقوة بصيغة الأحلاف والأحلاف المضادة يُشكل رادعًا ضد إرادة الدول الراغبة في شن الحرب، كذلك نظام الأمن الجماعي الذي يهدف إلى دعم الصالح العام للنظام العالمي والأنظمة الإقليمية، وذلك على عكس التحالفات التقليدية وإدارة الأمن والسلام وحمايتهما بالقوة إذا دعت الحاجة إلى ذلك. وإن ظل الهدف النهائي هو الحيلولة دون الاستخدام الفعلي للقوة العسكرية.
وعليه، يمكن القول إن نظامي توازن القوى والأمن الجماعي قاما في جوهرهما على فكرة الردع، بل إنهما شكلا إحدى الركائز القوية لاستراتيجية الردع التقليدي، ذلك أنهما يحولان دون إقدام دولة ما على استخدام قواها بهدف الإخلال بالأوضاع القائمة، وهو ما يمكنه تحقيق الأمن من خلال مواجهة العدوان بقوة أكبر. وترتبط تلك النتيجة بالافتراض الذي يتبناه نظام توازن القوى والأمن الجماعي والذي يُشكل أساس فكرة الردع، وهو أن السلوك الدولي يُبني على عنصر “الترشيد“، أي الميل إلى إجراء موازنات مستمرة بين جانبي المخاطرة المحتملة والمزايا المتوقعة؛ حتى إذا ما كانت حسابات المخاطرة أعلى من حسابات المنافع المتوقعة امتنعت الدول وأحجمت عن العدوان.
وفي ظل نظام توازن القوى النووي، اكتسب الردع في ظل الأسلحة النووية معنًا أكثر عمقًا عما كان عليه في عصر الأسلحة التقليدية؛ وتكفي الإشارة إلى أن الردع التقليدي -رغم أهمية العناصر والمكونات التي شكلته- لم يمنع القوى الأوروبية من الدخول في حروب طاحنة، ولكن مع ظهور السلاح النووي لم تشهد أوروبا لا بقواها الرئيسة ولا بالقوتين العظميين (الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية) حروبًا كتلك التي كان يعج بها المسرح الأوروبي ومناطق أخرى من العالم قبل الحقبة النووية رغم تنوع وتعدد المصالح وتعقدها وتضاربها، ورغم حدة الضغوط التي فرضتها بعض الأيديولوجيات المتعصبة التي على مبدأ حتمية الصراع وإقصاء الآخر بالقوة العسكرية. فرغم ذلك كله، لم تندلع الحروب على مستوى القوتين العظمتين النوويتين بسبب إدراك كلتيهما للطبيعة المدمرة للسلاح النووي.
إن الآثار المترتبة على الحرب النووية -إذا ما قُدّر لها أن تقع- ستكون شاملة ومتبادلة. وعند ذلك، يُلغي التمييز بين طرف منتصر وآخر منهزم، وتلك النتيجة فرضت على القوى النووية قيودًا متبادلة، ذلك أن الردع بقدر ما أصبح متبادلًا، جعل من مسألة الحرب خيارًا غير عقلاني. ومن ثم، يُمكن حل الصراع الدائر بين الأطراف المتصارعة بالطرق والأساليب السلمية والدبلوماسية بعيدًا عن مخاطر استخدام السلاح النووي. وبعبارة أخرى، دار الردع النووي حول التهديدات النووية استنادًا إلى التدمير المتبادل لكلا طرفي الصراع.
لقد قام الردع النووي في بدايته على أفكار القوة والتهديد، بمعنى قدرة كل خصم من الخصوم على تدمير الآخر تدميرًا تامًا، بجانب مبدأ القدرة على التدمير بالضربة الأولى، أي بقدرة أي من الطرفين الأمريكي والسوفيتي على توجيه ضربة نووية استباقية لخصمه تفقده القدرة على الرد النووي. ولتأمين عجز الخصم عن الرد، كان يُفترض أن تكون الضربة الأولى ساحقة وشاملة لكل أسلحة العدو النووية. وتبعًا لذلك، كان الردع المتحقق هو نتاج الخوف المتبادل من أن يقدم أي من الطرفين على توجيه ضربة نووية استباقية ساحقة.
وعندما تجلت نظرية استراتيجية بديلة قائمة على فكرة القدرة على التدمير بالضربة الثانية، أصبح الردع مُمثلًا في الردع النووي المتبادل؛ أي قدرة كل من الطرفين الأمريكي والسوفيتي على تدمير بعضهما تدميرًا كاملًا ونهائيًا في حالة وقوع حرب نووية بينهما -وتحت أي ظرف من ظروف المبادأة- بفعل امتلاكهما المقدرة الثأرية أو الرد الانتقامي بالضربة الثانية، وتلك الحقيقة المهمة هي التي جعلت من الحرب النووية تُمثل حربًا انتحارية لكلا طرفيها. وبعبارة ثانية، تجلت أبرز الدلائل على نجاح الردع النووي في فترة الحرب الباردة في تجنب اندلاع الحرب العسكرية الشاملة بفعل التدمير المتبادل المؤكد؛ فالتهديدات الجادة بالهجوم النووي، تسهم في تجنبه. كما ساهم الردع في خلق مناخ من الاستقرار في ظل الأزمات الدولية وفي إطار من الصراع الدولي بين القوى الكبرى. وإلى جانب الأمن والاستقرار، ساهم الردع النووي أيضًا في توفير الحماية ضد الهجمات بالأسلحة النووية والتقليدية، لكنه لم يمنع الحروب الصغرى.
فقد قامت الاستراتيجية النووية على فكرة “الردع النووي المتبادل”، وخلقت بالتالي وضعًا استراتيجيًا عُرف باسم “توازن الرعب النووي”، وهو العملية المركزية التي حكمت حركة القوى الدولية خلال النصف الثاني من القرن العشرين. ويُقصد به “علاقة تمتلك فيها الدول القدرة على شن ضربة ثانية مضادة تلحق بالطرف البادئ بالحرب خسائر لا يمكن تحملها”، أي أنه موقف تنعدم فيه قدرة أي دولة على شن ضربة أولى ساحقة. وقد استمد هذا النظام فاعليته من حقيقة مهمة، تمثلت في نجاح القوتين العظمتين في تنمية قدراتهما النووية بشكل هائل والوصول بها إلى مستوى القدرة على التدمير بالضربة الثانية، بعد أن كان جوهر الاستراتيجية قائمًا على مبدأ القدرة على التدمير بالضربة الأولى؛ أي إذا تعرضت الولايات المتحدة الأمريكية لهجوم نووي سوفيتي -مهما كان عنفه وشموله- يظل بمقدورها أن تستوعب صدمات الضربة الأولى التي وُجهت إليها، ومن ثم الرد بضربة ثأرية انتقامية ساحقة ضد الاتحاد السوفيتي مستهدفةً مختلف مراكزه الصناعية والسكانية والاستراتيجية.
وإن تراجع ذلك، بطبيعة الحال، في أعقاب “مبادرة حرب النجوم” أو “مبادرة الدفاع الاستراتيجي” التي أنشائها الرئيس الأمريكي الأسبق “رونالد ريجان” في مارس 1983، بهدف استخدام الأرض والنظم الفضائية لحماية الولايات المتحدة من أي هجوم متوقع بالصواريخ الباليستية النووية الاستراتيجية. ومن ثم،تم اعتماد مبادرة الدفاع الاستراتيجي بدلًا من استراتيجية التدمير المتبادل المؤكد. واستجابة لذلك، استثمر الاتحاد السوفيتي الوقت والموارد لتطوير رد مضاد على مبادرة الدفاع الاستراتيجي في شكل الدفاع الاستراتيجي السوفيتي، على نحو دفع بموجة جديدة من سباق التسلح (1985-1991) أدت إلى تصفية الثنائية القطبية.
ثالثًا- مفهوم الردع في نظريات العلاقات الدولية:
تجد نظرية الردع جذورها في الفكر الواقعي وفي سياسات توازن القوى، وقد لعبت النظرية دورًا هامًا في إدارة التهديدات الأمنية التي تتعرض لها الدول، وحظيت باهتمام بالغ في فترة الحرب الباردة كما سبق القول. وعمومًا، يستدعي التنظير للردع -من منظور واقعي- عدة أبعاد أساسية كتلك التي تتصل بافتراضات النظرية وشروط الردع ومتطلباته وأنواعه وما يرد على النظرية من انتقادات؛ حيث تتأسس نظرية الردع على سلسلة منالافتراضات حول كيفية فهم وتفسير وإدراك الخصوم المحتملين لمخاطر الانتقام. ولعل الافتراض الأساسي الذي تنهض عليه النظرية هو أن الفهم الصحيح للتفاعلات الدولية سيؤدى إلى رفض بعض السلوكيات أو الأفعال التي تتزايد خطورتها أو تكلفتها. وبعبارة ثانية، تثني عقلانية الفاعل من ناحية وتهديد هذا الفاعل من ناحية أخرى أي سلوك مرغوب لتعديل الوضع الحالي، وبخاصة في ظل ارتفاع تكلفة هذا الفعل بالمقارنة بالمكاسب المتوقعة منه. ولكي يثمر هذا التهديد لابد أن يستند على قدرات قومية فعلية يمكنها تحويل هذا التهديد المعلن إلى تهديد حقيقي.
وجنبًا إلى جنب مع هذا الافتراض، تتأسس نظرية الردع على مجموعة من الافتراضات منها -على سبيل المثال- سعي الدول التي تمتلك القوة إلى استخدامها فعليًا -عندما تسنح الفرصة- ضد الدول الضعيفة أو دفاعًا عن مصالحها الاستراتيجية، وسعي الدولة الضعيفة أو متوسطة القوة -في المقابل وعندما تدرك هذا التهديد- لزيادة قوتها ردًا على هذا التهديد، استنادًا إلى عقلانية الخصم الذي يعتمد على حساب المكسب والخسارة لحساب النتائج المتوقعة من سلوكه. ولكي يتحقق الردع بهذا المعنى، لا بد من توافر قدرات استخباراتية وعسكرية ودبلوماسية هائلة، جنبًا إلى جنب مع معرفة صانع القرار بتلك القدرات بدقة متناهية، ودرايته بالعوامل المؤثرة في عملية صناعة القرار في دولته وفي خصمه.
بيد أن تلك الافتراضات تنصب بالأساس على الدول القومية وعقلانية تلك الدول والقوة العسكرية، على نحو يعجز عن تفسير كيفية ردع الفاعلين من غير الدول أو الهجمات السيبرانية على سبيل المثال. ولذا دفع البعض بضرورة دراسة تأثير السياق الدولي بما له من تأثير على سلوك الفاعلين ومن ثم فهمهم للردع، ما يعني ضرورة إيلاء العوامل المعرفية اهتمامًا بالغًا، وقد حاول البعض الجمع بين الردع والهوية وبين الردع والمعايير (Norms)، باعتبار أن الأخيرة تُعد بمثابة هياكل تزيد من نجاح الردع في تحقيق أهدافه.
وعمومًا، تدور الإسهامات البنائية والنقدية حول أربع ملامح رئيسة: أولها، أن الردع يمكن تعلمه؛ فنجاح استراتيجية الردع رهن بمدركات الفاعلين. وعليه، يعد الردع نتاجًا “لعملية تعلم” (Processes of Learning)، بحيث يزاد فعاليته كلما تعمق فهمه وفهم ممارسته على نحو أفضل. وثانيها، أن ممارسات الردع تتأثر بعمليات التنشئة(Socialization) ؛ فعلى الرغم من إلمام الفاعل بالتوازن الاستراتيجي بينه وبين خصمه ورغم إدراكه التام للردع والهدف منه قد يقرر لأسباب عدة أن يلجأ للعنف، ذلك أن خبرات الفاعل ومعارفه المتراكمة تؤثر في قراراته. وثالثها، أن الردع يتأثر بالهياكل الاجتماعية مثل العقلانية والتهديد والأمن. ورابعها، أن الخطاب الذي يصيغ ويحدد معارف الفاعل والأسلوب والطريقة التي يتواصل بها الفاعلون مع بعضهم البعض في مواقف الردع لا يمكن تجاهله. وخلاصة ذلك أن السياق الاجتماعي يتكون من خلال عملية تعلم، كما أن إدراك أهمية ذلك السياق يسمح بإيجاد علاقة سببية بين الردع وتجنب العنف، كما يسمح بإزالة بعض التناقضات الداخلية في النظرية، على نحو يقدم إطارًا يمكن من خلاله فهم كيف يؤثر الردع في سلوك الفاعلين من الدول وغيرها، وعلى نطاق قضايا أكثر اتساعًا من القوة العسكرية فحسب.
رابعًا- فاعلية الردع وحدود تأثيره:
إن فاعلية الردع رهن بجملة من الشروط التي يمكن إجمالها في النقاط التالية:
1- القدرات (Capabilities): ويُقصد بها تلك الأدوات والوسائل المهيأة والجاهزة لحمل رسالة الردع، ناهيك عن إمكانات استخدامها والسيطرة عليها بوسائل عالية الكفاءة، بحيث يتم اختراق دفاعات العدو. ولعل العامل الحاسم في تحديد مصداقية وإدراك الإمكانات والقدرات هو الحسم والاقتدار على إحداث الفعل في المكان والوقت المناسبين، وأن يكون هذا الفعل قادرًا على إحداث درجة من الأذى تجعل الخصم في حالة ذهنية يقرر بموجبها درجة الاستجابة لهذا الفعل، والتي ستكون ذات أوجه متعددة، أعلاها هو التلويح بشكل يمنع الخصم من تشغيل عناصر الفعل، وذلك ما يؤدي إلى تغيير قواعد المواجهة، وتحويلها إلى وسائل أخرى أقل حدة.
2- المصداقية (Credibility): يُمثل هذا الشرط البعد السيكولوجي لاستراتيجية الردع، ويشير إلى مدى تمكن الرادع من تنبيه الخصم وإقناعه بأن تبعات عمله غير المرغوب فيه قد تكون باهظة. وهو الأمر الذي يرتهن بأمرين أساسيين هما: قدرة الطرف (أ) على إظهار احتمالية التكلفة الباهظة بكل وضوح، وتصديق الطرف (ب) للطرف (أ). وعمومًا، تتعدد العوامل التي تُؤثر في مصداقية الردع، ومنها: سبل إدارة الحرب، وخصائص الدولة الرادعة، والفجوة بين حجم التهديد المطلوب ردعه والعقوبة التي تنذر الدولة الرادعة بإيقاعها على الطرف الثاني، وسمعة الدولة المهددة، وطبيعة صناع القرار، وغير ذلك. وتعتمد المصداقية على طبيعة التهديد ضمنيًا كان أو جهريًا، غامضًا أو جليًا، ضبابيًا أو واضحًا، آتيا من مركز سياسي في قمة السلطة أو من مراتب أدنى، وبذلك تعتمد المصداقية على ثلاث دعائم أساسية هي: القابلية لتنفيذ التهديد، وطبيعته، والعزم على جعله واقعيًا.
3- العقلانية: تكمن في إدراك كل طرف أن الحرب عمل انتحاري غير أخلاقي يجب تجنبه، ولتحقيق ذلك فإن تصعيد الأزمات الإقليمية والدولية يجب أن يقف عند سقف محدد لا يجوز تجاوزه، لأن تجاوزه يعني الحرب وانهيار الردع. فمن شروط نجاح الردع افتراض أن المعتدي أو الطرف المُهاجم يتصرف بطريقة عقلانية قائمة على الترشيد والتمييز والتقدير السليم وتحقيق هذا الوضع يُكسب الردع جانبًا من قوة التأثير، أما إذا كان الطرف المهاجم يتصرف تحت ضغوط نفسية أو عاطفية أقوى من تلك الحسابات، فمن المؤكد أن الردع لن ينتهي إلى نتيجة إيجابية للدولة الرادعة.
4- المعلوماتية: تُعدّ المعلومات شرطًا أساسيًا للنجاح ومضاعفة الفاعلية، فلا يجوز أن تبقي سرًا دائمًا، ولا بد من السماح بانتقال كمّ كاف من المعلومات إلى الخصم، فإذا تمكن أحد الأطراف من زيادة أسلحته أو تحديثها وأبقى ذلك في إطار السرية، فإن ذلك لا يزيد من قدراته الرادعة.
وعمومًا، يتطلب الردع كشرط مسبق لفاعليته وتمكينه من تحقيق أهدافه، إبلاغ الخصم بصورة قاطعة لا لبس فيها بوجود تصميم أكيد على معاقبته والانتقام منه في حالة عدم إذعانه لما يُراد منه الانصياع له أو القبول به، وكذلك إفهامه أن الخسارة التي سيُمنى بها إذا خاطر بخسارة الحرب ستكون أفدح بكثير من أي كسب يأمل أن يحققه من ورائها، وهذا هو صميم عملية الردع برمتها. وعمومًا، يُعد جدوى الردع وفعاليته من أهم الموضوعات الكبرى التي دار حولها النقاش؛ وأولى المسائل التي تُطرح في هذا الصدد هي: تضاؤل فعاليته في مواجهة الإرهابيين، والهجمات السيبرانية بسبب صعوبة تحديد من هو المهاجم، فضلًا عن تزايد تكلفة الردع المتبادل لأنه يتطلب تحديثًا مستمرًا وإنتاج وتطوير أسلحة جديدة، جنبًا إلى جنب مع صعوبة التحقق من فاعلية استراتيجية معينة، وبخاصة فيما يتصل بالردع النووي.
فالردع لا يمنع الحروب التقليدية؛ وقد تعددت النماذج والحالات التي شاركت فيها القوى النووية في حروب تقليدية. ولعل المثال على ذلك حرب الأرجنتين وبريطانيا “حرب الفوكلاند”، وحرب الصين ضد كوريا، وكذا الفيتكونج (Vietcong) في فيتنام، وأيضًا الولايات المتحدة ضد كل من العراق وأفغانستان. كما هاجمت الدول العربية إسرائيل في حرب 1973 في توقيت كانت تحوز فيه الأخيرة بالفعل السلاح النووي، وقد تعددت الحروب بين الهند وباكستان على الرغم من كون كلتيهما نوويتين. كما يقود الاعتماد على الردع النووي المتبادل إلى التخصيب النووي وسباقات التسلح. وقد اتضح ذلك جليًا في مرحلة الحرب الباردة بين القطبين الكبيرين، وانطبق ذلك على المستوى الإقليمي أيضًا كما في حالة الهند وباكستان. وقد يُسفر الردع عن عدم الاستقرار، وقد يتولد عنه مواقف حرجة، كتلك التي تنتج عن الحسابات الخاطئة، وسوء الفهم، والحوادث التقنية. كما يُعزز الردع من العداء وانعدام الثقة عندما يتكرر تهديد الخصوم لبعضهم البعض بشكلٍ دائم. وقد يُسفر فشل الردع عن اندلاع حرب نووية شاملة، ففشل الردع يعني كارثة عالمية.
ختامًا، تعالت الدعوات التي طالبت بمراجعة النظرية وإعادة تكييف مقولاتها وفقًا للتغيير في السياق الدولي، وتعدُد مصادر التهديدات غير التقليدية، واتساع ظاهرة الانتشار النووي، وتجدُد الاهتمام بالأنظمة الإقليمية التي سبقت وأن همّشتها النظرية. ولذلك، تظل الأخيرة بحاجة إلى مزيد من البحث والدراسة، وإن ظل الأساس الذي بُني عليه الردع كما هو دون تغيير، ولكن لم يعد ممكنًا أن تقتصر تعريفات الردع على الدول القومية ذات السيادة فحسب باعتبارها الفاعل الرئيسي في العلاقات الدولية. كما لم يعد ممكنًا اختزال تعريفات الردع في استخدامات القوة العسكرية، والأصح الحديث عن القوة الشاملة للرادع بما تشمله من قوة صلبة وناعمة. فالقوة العسكرية لم تعد هي السبيل الوحيد لإحداث الأثر المطلوب لدى المرتدع.