بتاريخ 29 أكتوبر2025، أعلنت وزارة الدفاع الأوكرانية أن القوات الروسية تمكنت من اختراق الدفاعات الأوكرانية في مدينة باكروفسك، وذلك بعد معركة طاحنة استمرت 18 شهرًا وأسفرت عن خسائر بشرية كبيرة في صفوف الطرفين. جاء هذا الاختراق نتيجة تركيز مكثف من الجيش الروسي على السيطرة على شرق أوكرانيا، وتحديدًا مقاطعتي دونيتسك ولوهانسك في إقليم دونباس. لم تكن هذه المعركة خاطفة، بل سلسلة من المواجهات الاستنزافية المتواصلة، استطاع خلالها الجيش الروسي التقدم تدريجيًا نحو خط دفاعي يتكون من مدن تُعرف محليًا باسم “قلاع الشرق الأوكراني”، والتي تتمثل مهمتها الأساسية في صد أي تقدم روسي نحو العمق الأوكراني وصولًا إلى نهر الدنيبرو.
ويُلاحظ أن تصاعد حدة المعارك في هذه الجبهة يتناسب طرديًا مع إصرار الجيش الأوكراني على الحصول على منظومات تسليحية نوعية، تُمكنه من إلحاق أكبر قدر ممكن من الضرر في العمق الروسي من جهة، ومن جهة أخرى التحضير لاستراتيجية هجومية جديدة.
القلاع الأوكرانية:
الوضع السيئ الحالي للقوات الأوكرانية لم يظهر بشكل مفاجئ، وإنما بدأ التدهور السريع في جبهة القتال الشرقية فعليًا منذ شهر مايو 2023 عند سقوط مدينة باخموت، أو القلاع الدفاعية، وبعدها مدينة “مارينكا” في شهر ديسمبر من السنة نفسها. وبدأ الضغط بقوة على باقي المواقع الأوكرانية بزخم قتالي كبير، فكان من القوات الأوكرانية القيام بمغامرة كبيرة في بدء حملتها في مدينة “كورسك” الروسية في شهر أغسطس 2024، والتوسع في المدينة بشكل متسارع مستغلةً انهيار الدفاعات الروسية في المنطقة، والدفع بزخم قتالي كبير في هذا القطاع. وكان الهدف واضحًا: هو تخفيف التركيز الروسي على الشرق من ناحية، وإيجاد موطئ قدم يمكن التفاوض عليه مع الجانب الروسي.

ولكن بمرور الوقت، تعاملت القوات الروسية بنقل وحدات نخبوية فرعية وليست أساسية لوقف التقدم الأوكراني، مع استمرار الضغط على الجبهة الشرقية، فاضطر الجيش الأوكراني إلى الانسحاب من “كورسك” والعودة لدعم الدفاعات الأوكرانية. وبدأ الوضع يسوء أكثر بالنسبة للقوات الأوكرانية في الجبهة الشرقية منذ أكتوبر 2024، والأسباب واضحة: هي عدم توفر العدد الكافي من الجنود، مع القليل من الدعم التسليحي، بالإضافة إلى المشكلة الدائمة وهي غياب التغطية الجوية في ذلك الاتجاه، لتبدأ التوغلات الروسية والهجوم على طول خط المواجهة من “كوبيانسك” شمالًا حتى “زيليني هاي” جنوبًا، ويتم تقسيم هذا الخط الدفاعي لتتولى حمايته عدة مدن محددة وهم:

- الجبهة الشمالية (محور خاركيف – كوبيانسك):
وغرض هذه المدن حماية مدينة خاركيف ومنع أي تقدم روسي غربًا من اتجاه مقاطعة لوهانسك.
- كوبيانسك وحزام سينكيفكا – بيتروباڤليفكا – كيفشاريفكا الحصين
- بوروفا – إيزيوم – بالاكليا: الخط الدفاعي الثاني وتعمل كمنطقة الدعم اللوجستي الخلفي.
2- جبهة دونباس الوسطى:
وغرض هذه المدن حماية مدينتي كراماتورسك وسلوفيانسك اللتين تُعدّان المركزين الصناعي والعسكري الرئيسيين في دونيتسك.
- ليمان: نقطة رئيسية تتحكم بالطرق القادمة من كريمنّا.
- سيفرسك: تحمي الجناح الشمالي لقطاع باخموت.
- تشاسيف يار: الحصن الأمامي الحالي، غرب باخموت مباشرة.
- كوستيانتينيفكا: مركز لوجستي ودفاعي غرب تشاسيف يار.
- دروژكيفكا – كراماتورسك – سلوفيانسك: نواة الدفاع الأوكراني في الشرق، مزودة بدفاع جوي متعدد الطبقات ومدفعية واحتياطيات عسكرية.
3- جبهة دونيتسك الجنوبية:
وغرض هذه المدن الدفاع عن طرق الوصول المؤدية إلى زابوريجيا ونهر الدينبرو.
- كوراخوفه – هيورهييفكا: الخط الأول غرب مارينكا.
- فوهليدار: مدينة مرتفعة تشرف على شبكة الطرق وتوفر مراقبة على الخطوط الروسية.
- ڤيليكا نوفوسيلك: مركز لوجستي خلفي يربط مع منطقة زابوريجيا.
4- غرب دونيتسك:
غرض هذه المدن تعمل كحاجز دفاعي لحماية وسط وشرق أوكرانيا.
- بوكروفسك: مركز لوجستي ومفتاح رئيسي لاختراق سلسلة الدفاعات الأوكرانية في المنطقة.
- ميرنوهراد – دوبروبيليا – بافلوهراد: الحزام الخلفي والخط الدفاعي الأخير للدفاع عن حوض نهر دنيبرو.

وتقع مدينة بوكروفسك على بُعد نحو 40–50 كيلومترًا شمال غرب مدينة دونيتسك، وتُعد مركزًا لوجستيًا محوريًا وتربط كوستيانتينيفكا وسلوفيانسك ودنيبرو. وهي جميعها خطوط حيوية لإمداد القوات الأوكرانية وتعزيزها. وإذا سيطرت روسيا على بوكروفسك ستُتيح لها توسيع نفوذها غربًا انطلاقًا من الجبهة الحالية (محور أفدييفكا–أوتشيريتينه)، وتهديد منطقة كراماتورسك–سلوفيانسك، التي تُعد المركز الدفاعي والإداري الرئيسي لأوكرانيا في إقليم دونيتسك. وستتمكن من تجاوز الدفاعات حول كراماتورسك دون الحاجة إلى الاشتباك معها والتوجه إلى مدينة بافلوهراد، التي تُعد آخر خط دفاع رئيسي قبل الوصول إلى دنيبرو.
تكيف روسي وتراجع أوكراني:
يمكن تفهم السبب الحقيقي لنجاح التقدم الروسي حاليًا باعتباره مرحلة متقدمة من التكيف الميداني. بدأت القوات الروسية الغزو في فبراير 2022 بواسطة المجموعات المختلطة BTG التي كانت تجمع عدة تشكيلات من مختلف الأفرع، وبالرغم من تنويعها وسرعة حركتها، فإنه بمرور المعارك تبين قصور هذه التشكيلات في تقديم قوة نيرانية كبيرة كافية لاقتحام الدفاعات القوية، وبالأخص مع وجود الصواريخ المضادة للدبابات المتطورة “جافلين”، وقيام الجيش الأوكراني باستغلال عربات “هيمارس” لتدمير الاحتياطي الروسي ومهاجمة خطوط الإمداد اللوجستي ومراكز القيادة لعزل القوات الروسية المتوغلة من الأمام، بالتعاون مع الدفاعات الجوية والمقاتلات الأوكرانية، ومن ثم يتم محاصرة القوات البرية وتحييدها. ولعبت المسيّرات الانتحارية الموجهة FPV دورًا كبيرًا في هذه المهمة.
في السنة الثانية من القتال، تبدلت التكتيكات الروسية للاعتماد على فرق المشاة الميكانيكية التي تتحرك ببطء مع قوة نيرانية كبيرة وتغطية من منظومات الحرب الإلكترونية لتحييد خطر المسيّرات الأوكرانية من ناحية، وإرباك القوات البرية الأوكرانية، مع تكثيف القصف المدفعي وفرض سيطرة جوية كاملة بواسطة المقاتلات والدفاع الجوي بالقرب من الخطوط الأمامية للمعركة، واستغلال القاذفات لرمي القنابل الانزلاقية بمدى 70–90 كم في عمق الخطوط الأوكرانية أيضًا لتدمير مراكز القيادة والسيطرة الأوكرانية والاحتياط والدفاعات، لمساعدة القوات البرية على الاختراق. وقد بدأت هذه التكتيكات في النجاح ولكن بمعدل بطيء مع خسائر كبيرة.
وبحلول منتصف عام 2025، قامت القوات الروسية بتعديل تكتيكاتها واستخدام مجموعات صغيرة تتسلل إلى المناطق الأوكرانية، وهذه المجموعات تقوم بمهمات المراقبة والاستخبارات لتوجيه الضربات إلى مواقع المراقبة والقيادة والنقاط الحصينة الأوكرانية، ومن ثم تتجمع لتقوم بمهاجمة المواقع الأوكرانية من الخلف. ونجح هذا الأسلوب بسبب هشاشة الدفاعات الأوكرانية، بسبب صغر المجموعات الدفاعية، مع عدم وجود دعم نيراني كافٍ في المنطقة، بالإضافة إلى فقدان قدرات الرصد المتمثلة في المسيّرات الاستطلاعية، بسبب منظومات الحرب الإلكترونية الروسية الموجودة بالقرب من خط المواجهة.
ومع الوضع الميداني الراهن، يمكن تفهم رغبة الأوكرانيين في المزيد من الذخائر الهجومية بعيدة المدى، وأبرزها صواريخ “توماهوك”، بسبب قدرتها على الوصول إلى أهداف بعيدة المدى في العمق الروسي لاستدامة التأثير على الجانب الروسي. ومن الممكن استغلال الصاروخ لمهاجمة مواقع القيادة والسيطرة البعيدة لعرقلة سلسلة اتخاذ القرار، أو لتعطيل الهجمات الجوية عبر مهاجمة مصانع الذخائر أو القواعد الجوية الخاصة بالقاذفات الروسية، والتي تقوم بمهاجمة المدن الأوكرانية يوميًا.
أيضًا، يتضح وجود نية واضحة لتقوية سلاح الجو الأوكراني بواسطة مقاتلات جديدة من الجيل الرابع المتقدم من طراز “جربين-إن جي”، وهذه المقاتلة تتفوق تقنيًا على كل المقاتلات الأوكرانية الحالية، بسبب قدرتها على إطلاق صواريخ الاشتباك الجوي بعيدة المدى من طراز “ميتيور”، والتي قد تغير المعادلة الجوية قليلًا عما نعرفه اليوم، وبالأخص إذا تم دعمها إلكترونيًا من منظومات إنذار مبكر أرضية وجوية.
ختامًا:
في الوقت الراهن تَظهر نية كبيرة للجيش الروسي بالسيطرة على الشرق الأوكراني، وقد يكون الأمر مرتبطًا بالدرجة الأولى بالمفاوضات الحالية بين الجانبين الروسي والأمريكي، التي تُصر فيها روسيا على التمسك بمطالبها دون تقديم أي تنازلات تخص الأراضي التي تسيطر عليها، في ظل العجز الحالي للجيش الأوكراني عن الدفاع الفعّال ضد الهجمات الروسية في الشرق، بعد مخاطرة غير محسوبة في “كورسك” و”بيلغورود”، يفتقر بسببها حاليًا إلى الدعم العددي والتسليحي المطلوب لإعادة الاتزان لهذه الجبهة. ومن ثم، يحاول الحصول على التفوق النوعي عبر منظومات تسليحية هجومية بمدى أبعد، وقادرة على إحداث ضرر كافٍ من شأنه أن يُقنع الجانب الروسي بتخفيف مطالبه السياسية أو إيجاد فرصة للمقايضة.

