شهدت موريتانيا في الثاني والعشرين من يونيو الجاري (2019)، إجراء انتخابات رئاسية لاختيار الرئيس التاسع في تاريخ البلاد بعد انتهاء الولاية الثانية للرئيس “محمد ولد عبدالعزيز”. وتنافس في هذه الانتخابات ستة مرشحين، تقدمهم مرشح الحزب الحاكم وزير الدفاع السابق الجنرال “محمد ولد الغزواني”، بينما فشلت أحزاب وقوى المعارضة في التوافق حول مرشح واحد، لتتلقى اللجنة المستقلة للانتخابات طلبات خمسة مرشحين لخوض الانتخابات، جاء على رأسهم: الوزير الأول والسفير السابق سيدي “محمد ولد بوبكر”، مرشح حزب “تواصل” (الذراع السياسية لجماعة الإخوان في موريتانيا). والناشط الحقوقي وزعيم حركة “إيرا” المدافعة عن حقوق الإنسان “بيرام الداه اعبيد”. بالإضافة إلى رئيس حزب “اتحاد قوى التقدم” “محمد ولد مولود” المدعوم من بعض أحزاب المعارضة التقليدية. إضافة إلى الصحفي “بابا حميدو كاني”، و”محمد الأمين المرتجي” أحد الموظفين بوزارة المالية.
وقد بلغ عدد الناخبين المسجلين قرابة 1.544 مليون ناخب، يتوزعون على 15 دائرة انتخابية داخل البلاد وخارجها، ضمت 3870 مقرًّا انتخابيًّا. شارك منهم بالتصويت في الانتخابات نحو 967 ألف ناخب. وأشارت النتائج الأولية إلى فوز المرشح “محمد الشيخ محمد أحمد الشيخ الغزواني” من الجولة الأولى بعدما حصل على أكثر من 52% من أصوات الناخبين. وجاء في المركز الثاني “بيرام الداه الداه اعبيد”، الذي حصل على 18.5% من إجمالي الأصوات، يليه سيدي “محمد بوبكر بوسالف” بنسبة 17.87%.
مستجدات مهمة
جرت هذه الانتخابات في ظل مجموعة من المستجدات المهمة التي شهدتها موريتانيا خلال الفترة السابقة على الانتخابات، والتي خلقت حراكًا ومناخًا سياسيًّا أكثر انفتاحًا. وقد جاء في مقدمة هذه المستجدات رفض الرئيس المنتهية ولايته “محمد ولد عبدالعزيز” جميع المطالب بالترشح لولاية ثالثة، الأمر الذي شكل زخمًا سياسيًّا وشعبيًّا مهمًّا، لعب دورًا في تشجيع القوى السياسية والمواطنين على المشاركة في هذه الانتخابات.
من ناحية أخرى، شكّل تفعيل المادة (20) من القانون رقم 024 لسنة 2012 (المعدل في سنة 2018) عاملًا مهمًّا في إكساب المنافسة الانتخابية طابعًا جديًّا من خلال حل الأحزاب الصغيرة غير المؤثرة في الحياة السياسية، بهدف تجنب تفتيت الأصوات. فقد نص القانون على حل أي حزب سياسي سبق له أن قدم مرشحين لاقتراعين بلديين اثنين وحصل على أقل من 1% من الأصوات في كل اقتراع، وكذلك حل أي حزب سياسي لم يشارك في اقتراعين بلديين اثنين متواليين. وقد أسفر تطبيق القانون عن حل 76 حزبًا سياسيًّا من أصل 105 أحزاب سياسية معترف به رسميًّا في موريتانيا.
وجاءت هذه المستجدات، بجانب عوامل أخرى، لتمكن مرشح الحزب الحاكم “محمد ولد الغزواني” من حسم الانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى. وبشكل عام، يمكن تفسير نجاح “الغزواني” في حسم الانتخابات استنادًا إلى العوامل التالية:
1- حالة الدعم والتوافق من قِبل حزب الاتحاد من أجل الجمهورية (الحزب الحاكم) في موريتانيا، وعلى رأسه الرئيس “محمد ولد عبدالعزيز” المنتهية ولايته، حول ترشيح وزير الدفاع “محمد ولد الشيخ الغزواني”، بالإضافة إلى دعم قواعد الحزب في مختلف المدن الموريتانية التي تُعد الأكبر في البلاد على النحو الذي أكده فوز الحزب قي العام الماضي بحصوله على 98 مقعدًا من أصل 157 تنافس عليها المرشحون في الانتخابات النيابية.
2- فشل قوى المعارضة في الوصول إلى توافق حول مرشح واحد لخوض الاستحقاق الرئاسي، الأمر الذي خلق حالة من الارتباك داخل تلك القوى. وكانت النتيجة هي خوض خمسة مرشحين من المعارضة للانتخابات الرئاسية، ما أدى في النهاية إلى تفتيت الأصوات، وعدم قدرة أي منهم على تخطي الجولة الأولى من الانتخابات.
3- أداء “ولد الغزواني” خلال الحملة الانتخابية، حيث عالج عددًا من أهم الملفات التي تشغل الرأي العام الموريتاني، جاء في مقدمتها الملف الأمني، مستفيدًا من تاريخه الطويل كقائد عسكري شارك في جهود المؤسسة العسكرية لدحض الإرهاب وتقويض انتشار الجماعات المسلحة في ظل أوضاع إقليمية جعلت من دول الجوار الموريتاني مصدرًا محتملًا للتهديدات الأمنية. كما اهتمت الحملة الانتخابية لولد الغزواني بقضية تعزيز الاقتصاد الوطني، وخلق المزيد من فرص العمل، والتوجه لتطوير البنية التحتية.
4- لعبت التطورات والإصلاحات السياسية المعتمدة خلال الحوار الوطني الشامل الذي نُظم خلال عامي 2011-2013 والتي استهدفت إرساء قيم النزاهة والشفافية في الاستحقاقات المختلفة، دورًا مهمًّا في تشجيع الناخبين الموريتانيين على المشاركة في الانتخابات. ونتيجة لذلك، بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات أكثر من 62%.
ظواهر جديدة
دشّنت الانتخابات الرئاسية الأخيرة عددًا من الظواهر السياسية المهمة في موريتانيا. وأول تلك الظواهر هو حدوث أول عملية انتقال للسلطة من رئيس انتهت ولايته إلى آخر منتخب. وعلى الرغم من تشابه الانتخابات الرئاسية الأخيرة مع الانتخابات السابقة التي أُجريت في عام 2014 من حيث عدد المرشحين المعارضين الذين خاضوا الانتخابات، إلا أن هناك مستجدات طرأت على طبيعة المرشحين في الانتخابات الأخيرة، وفي مقدمتها خروج بعض المرشحين التقليديين وظهور مرشحين جدد.
كما غابت عن انتخابات عام 2019 ظاهرة مقاطعة أحزاب المعارضة، على النحو الذي تكرر في مناسبات سابقة، بما في ذلك مختلف أحزاب المعارضة ومن بينها أحزاب “المنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة” الذي يضم حزب “تكتل القوى الديمقراطية” و”حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية” “تواصل”، إلى جانب “حزب التحالف الشعبي التقدمي”.
لكن هذه التطورات الإيجابية لم تَحُلْ دون تشكيك المعارضة الموريتانية في نزاهة وشفافية العملية الانتخابية، حيث ندد مرشحو المعارضة، وعلى رأسهم المرشحان “ولد بوبكر” و”بيرام الداه اعبيدي”، بوقوع مخالفات إجرائية وطرد المندوبين التابعين لهم من بعض مراكز الاقتراع، وذلك على الرغم من نفي الهيئة المستقلة للانتخابات تسجيل مثل تلك الادعاءات.
وفي المقابل، جاءت مشاركة العديد من البعثات الخارجية لمراقبة الانتخابات والممثلة لمؤسسات إقليمية ودولية لتُكسب العملية الانتخابية الكثير من الموثوقية، وتؤكد كونها تعبيرًا صادقًا عن توجهات الناخبين في موريتانيا.
وتفاوتت بعثات المراقبة من حيث الحجم، كان من أكبرها بعثة الاتحاد الإفريقي التي ضمت 35 مراقبًا يمثلون 22 دولة إفريقية لمتابعة عملية الاقتراع التي أكدت في تقاريرها عدم تسجيل أي خروقات خلال عملية الاقتراع. كما جاءت تقارير بعثة الاتحاد الأوروبي قريبة من تقارير بعثة الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي دفع الناطق باسم الاتحاد الأوروبي للإشادة بنسبة المشاركة المرتفعة في الاقتراع الذي اعتبره “جرى في جو من الهدوء، وفي ظروف مرضية بشكل عام”.
كما شاركت مؤسسات دولية عديدة ومنظمات المجتمع المدني في مراقبة الانتخابات، مثل: المنظمة العربية للإدارات الانتخابية، ومؤسسة جيمي كارتر الأمريكية، والمنظمة الفرانكفونية الدولية، والتي لم تصدر أي بيان حول تلك الانتخابات، ولم تصدر أي تصريحات تدلل على وقائع للتزوير.
في النهاية، يمكن القول إن الانتخابات الرئاسية الموريتانية الأخيرة مثلت نقطة تحول مهمة في سياق عملية التحول السياسي في موريتانيا، من خلال ما أكدته من تأكيد التداول السلمي للسلطة، وما أكدته نتائج الانتخابات من صلابة النظام، وقدرته على الصمود في وجه محاولات ضربه من الداخل، بجانب ما أبرزته من رغبة الشعب الموريتاني في المحافظة على حالة الاستقرار السياسي وعيًا منه بحجم التحديات التي تواجه الدولة، وكذلك بطبيعة التحولات التي تدور داخل دول الجوار الإقليمي.