وافق يوم الثلاثاء الماضي (3 سبتمبر 2019) أعضاء حركة “خمسة نجوم” الشعبوية اليسارية الإيطالية على تشكيل حكومة ائتلاف مع حزب وسط اليسار “الحزب الديمقراطي”. ونظريًّا تستطيع هذه الحكومة البقاء في الحكم إلى سنة ٢٠٢٣ ما لم يختلف الشريكان وما لم توثر الانقسامات الداخلية عليهما أو على أحدهما. وشارك في التصويت ٨٠ ألف عضو، بنسبة تأييد فاقت ٧٩٪. وبهذا الاتفاق نجحت النخب السياسية الإيطالية في تفادي إجراء انتخابات تشريعية مباشرة توقع الكثيرون نجاحًا ساحقًا لليمين الشعبوي فيها.
رسالة تطمين لأوروبا
لم يقتصر الأمر على الداخل الإيطالي، فقد حمل نجاح التيارات السياسية الإيطالية في تجاوز هذه الأزمة وتشكيل هذه الحكومة أخبارًا جيدة بالنسبة للعواصم الأوروبية التي تنفست الصعداء لأسباب عدة، أهمها ما يلي:
1- موقف زعيم اليمين الشعبوي “سالفيني” من الاتحاد الأوروبي ومن معاييره الحاكمة لعجز الميزانيات: فهو من أنصار سياسة تنشيط الطلب عبر زيادة الإنفاق والعجز والدين وخفض الضرائب. ويلاحظ بصفة عامة أن الرأي العام الإيطالي تحول في العقد الأخير من مؤيد للمشروع الأوروبي إلى معادٍ له بأغلبية كبيرة بل ساحقة (كما هو معلوم تلعب طبيعة السؤال وأدوات القياس دورًا كبيرًا في تحديد نتائج استطلاعات الرأي، لكن نسبة المعادين للاتحاد تتراوح بين ٥٩٪ و٩٥٪ من الرأي العام الإيطالي. النسبة الأولى تمثل نسبة التصويت لقوى سياسية صريحة العداء للاتحاد، والنسبة الثانية تمثل الموافقة على مقولات تنتقده). وقد أجبر ذلك الجميع، بمن فيهم المؤيدون للمشروع، على توجيه سهام النقد لبروكسل، وعلى التشديد على ضرورة الدفاع عن المصالح الإيطالية؛ إما من خلال البقاء في الاتحاد للتأثير عليه وهو الرأي السائد، أو من خلال تركه. وهناك ثلاث أفكار تتمتع بقبول شعبي واسع، هي أن الاتحاد ترك إيطاليا وحدها دون مساعدة تواجه ارتفاع عدد المهاجرين، وأن السياسة النقدية والمالية الأوروبية تفرض قيودًا يجب التحرر منها إن أرادت الحكومة حل مشكلة البطالة وغيرها، وأن الاتحاد لا يعير إيطاليا الاهتمام الكافي واللائق. ويضاف إلى ذلك استياء اليمين الإيطالي من الضغوط الأوروبية التي أدت سنة ٢٠١١ إلى إقصاء السيد “برلوسكوني” من رئاسة الحكومة وفرضت تشكيل حكومة جديدة وسياسة تقشفية صارمة وقاسية لم تعترض عليها سوى قوتين –حركة خمسة نجوم وحزب رابطة الشمال (حزب سالفيني)- وهما الحزبان اللذان شكّلا معًا الحكومة سنة ٢٠١٨.
2- موقف “سالفيني” من الرئيسين “ترامب” و”بوتين”: تقليديًّا يرى قطاع يُعتد به من جماعة السياسة الخارجية الإيطالية أن الاتحاد يحكمه محور ألماني-فرنسي، ومعهما أحيانًا بريطانيا، وأن على إيطاليا التقارب مع الولايات المتحدة لموازنة هذا المحور. وتقليديًّا، هناك تعاطف مع روسيا، لأسباب عديدة منها ما سلف ذكره من استياء إيطالي من برلين وباريس. وتشير تقارير صحفية إلى أن الأمريكيين مارسوا ضغوطًا على إيطاليا لتلتزم بالعقوبات المفروضة على روسيا، لكن موقف “سالفيني” يغالي في هذا الاتجاه، وهو مثلًا كان قد زار واشنطن في مطلع الصيف وقدم نفسه قائلًا إنه أقرب سياسي أوروبي لـ”ترامب” وأفضل حليف له. وبعض المقربين له متورط في قضية تمويل روسي لحزبه.
3- أن مزيج عداء “سالفيني” للاتحاد الأوروبي وسياساته الاقتصادية، وعدائه لألمانيا وفرنسا، وعدم استقرار الحكومات في إيطاليا ومديونتها، وضعف معدلات الإنجاب، ومشكلات تحصيل الضرائب، ووجود اقتصاد غير رسمي؛ هذا المزيج سيترتب عليه رفع الفوائد على إقراض وتمويل إيطاليا مما يتسبب في إثقال ميزانية تعاني أساسًا من المشكلات، ويعرض إيطاليا لشبح الإفلاس، وهي صدمة لن يستطيع الاتحاد تحملها.
جذور الأزمة وتطورها
باختصار شديد، شهدت المرحلة التي بدأت بإقصاء “برلوسكوني” سنة ٢٠١١ وتبني سياسة تقشفية من قبل خلفه “مونتي” تآكلًا مطردًا لمصداقية وشعبية القوى السياسية التقليدية التي أيدت هذا التوجه، ومن بينها حزب برلوسكوني نفسه والحزب الديمقراطي. وعلى العكس، شهدت صعودًا، بدأ بطيئًا ثم تسارع، للقوتين اللتين رفضتا سياسة “مونتي”. أولهما، حركة “خمسة نجوم” التي نشأت سنة ٢٠٠٩ انشقاقًا -يساريًّا- على الحزب الديمقراطي، واتهمته بعدم التمتع بحس بيئي، وبتبنيه سياسة غير ديمقراطية ومنافية للعدالة الاجتماعية وبالفساد. وتقوم المبادئ الحاكمة لعمل تلك الحركة على اللا مركزية الشديدة، وعدم وجود بيروقراطية حزبية قوية، وطرح كل القرارات المهمة على تصويت الأعضاء، إلا أن نتيجة عمليات التصويت ليست حسابًا مباشرًا لأعداد الموافقين والرافضين، بل تخضع لخوارزمية algorithme غامضة غير شفافة قد تتسبب في أزمات في المستقبل. وقبل السنة الماضية رفضت الحركة الدخول في أي ائتلاف أو تحالف، ومعقلها في الجنوب الفقير. وجمهور ناخبيها من الشباب، لا سيما الذكور، إما فقير غير متعلم أو من حاملي الشهادات العليا ولم يعثر على وظيفة تناسب طموحه. هذه الحركة هي الحزب الأول في إيطاليا خلال الفترة من عام ٢٠١٣ إلى ٢٠١٨ وإن منعها تكتل القوى التقليدية ضدها من الدخول في الحكومة قبل سنة ٢٠١٨، وأخيرًا فإن موقف الحركة من المشروع الأوروبي متحفظ جدًّا قائم على مبدأ “نوافق على ما يتفق ومصلحتنا ونرفض الباقي” (أغلب معلومات تلك الفقرة مصدرها مقالات وأحاديث البروفسور “كريستوف بويو” المتخصص في الشئون المالية، ومنها مقاله في عدد خريف ٢٠١٨ لدورية “بوليتيك إنترناسونال” وأحاديثه في مجلة لو فيجارو).
ثانيهما، “الرابطة الإيطالية” (واسمها السابق الرابطة الشمالية)، وهي حزب عاش أطوارًا مختلفة، بدأ في نهاية الثمانينيات محتجًّا على تمويل شمال إيطاليا الغني للسياسات الاجتماعية المساعدة لجنوب إيطاليا الفقير، وكان أيامها مؤيدًا للمشروع الأوروبي نكاية في الحكومة المركزية في روما، ثم غرق في قضايا فساد، إلى أن تولى “سالفيني” رئاسته في ديسمبر ٢٠١٣ وأعاد هيكلته بتقليل كبير لحجم البيروقراطية الحزبية وبتبني خطاب شديد العداء للاتحاد الأوروبي وللمهاجرين وسياسات اجتماعية تجتذب الفئات الفقيرة، وبالانفتاح على الجنوب، وبمداعبة الحنين إلى الرجل القوي. هذا الحنين قوي في إيطاليا، لأن الدستور كُتب لمنع الاستبداد، ولكنه تسبب في استحالة حكم إيطاليا لتوزيع السلطة التشريعية بين مجلسين، ولوضع شروط بالغة التعقيد لممارسة الحكم ولتشكيل الحكومة. وأعطى الدستور لرئيس الجمهورية دورًا في حماية المؤسسات والمصلحة الوطنية يسمح له بالتدخل، فهو مثلًا الذي يدعو إلى إجراء الانتخابات، ويساهم في تعقيد الأمور كون إيطاليا تجمعًا لمحافظات ولمناطق بينها استقطاب وفروق ضحمة. واتبع “سالفيني” استراتيجية خطابية تشبه استراتيجية “ترامب”، القائمة على الاستفزاز الدائم لضمان تصدر الأخبار، ونجح في مضاعفة نسبة التصويت للحزب (من ٤٪ سنة ٢٠١٣ إلى ثلث الناخبين في نهاية الربيع الماضي).
وتصدر الحزبان نتائج الانتخابات التشريعية في مارس ٢٠١٨، وحصل “خمسة نجوم” على أعلى نسبة تصويت، وحصلت الرابطة على أكبر عدد من المقاعد، متفوقة في التصويت وفي المقاعد على حليفها حزب برلوسكوني. وجاء الحزب الديمقراطي (يسار الوسط) في المركز الثالث، ولم يحصل أي حزب على أغلبية تسمح له بالحكم منفردًا. وبعد مفاوضات تدخل فيها رئيس الجمهورية المنتمي للجناح اليساري للمسيحية الديمقراطية لمنع تعيين وزير اقتصاد معادٍ للاتحاد الأوروبي (تم تعيينه وزيرًا للشئون الأوروبية وهو منصب أقل أهمية من وزارة الاقتصاد)، اتفق “خمسة نجوم” والرابطة على تشكيل حكومة برئاسة السيد “كونتي”، وهو مستقل مغمور وأستاذ قانون مقرب من حركة “خمسة نجوم”، وكان لافتًا للنظر وجود عدد مهم من الوزراء التكنوقراط غير المنتمين للحزب.
لن نخوض هنا في تفصيلات التفاعلات بين القوتين المشكلتين لتلك الحكومة وصدامها مع بروكسل حول ميزانية إيطاليا وحول إنفاقها الاجتماعي وحول المهاجرين ومع الرئيس “ماكرون” الذي اعتبر تلك الحكومة عدوًّا تجب “شيطنته”. ما يهمنا في هذا الصدد أن ممارسة الحكم أثرت على شعبية “خمسة نجوم” التي تراجعت كثيرًا، بينما واصلت الرابطة صعودها وارتفعت شعبيتها. وجاءت نتائج الانتخابات للبرلمان الأوروبي لتؤكد اتجاهات الرأي العام وانقلاب موازين القوى في التحالف الحاكم، فحصلت الرابطة على ثلث الأصوات وجاءت في المركز الأول، بينما تراجعت “خمسة نجوم” إلى المركز الثالث (١٧٪) وراء الحزب الديمقراطي (٢٢٪)، بينما جاء حزب برلوسكوني في المركز الرابع بأقل من ٩٪. وكان لافتًا للنظر نجاح الحزب الفاشي (إخوان إيطاليون) في تحقيق طفرة محرزًا أكثر من ٦٪ من الأصوات.
ذكرنا تلك النتائج بشيء من التفصيل لأنها طرحت منذ ظهورها سؤال استمرارية الحكومة، فالمحللون رأوا أن “سالفيني” لم يعد بحاجة إلى “خمسة نجوم” وبإمكانه إسقاط الحكومة والمطالبة بانتخابات والتحالف فيها مع الفاشيين، والسعي إلى الحصول على أغلبية تمكنه من تولي رئاسة الحكومة، وبتشكيل حكومة يمينية. وبعد تردد وخلاف حول بناء نفق يربط بين فرنسا وإيطاليا قرر “سالفيني” الاستجابة لضغوط قواعد حزبه وفض التحالف وطلب انتخابات مبكرة، معولًا على عمق الخلافات والمشاعر السلبية بين كلٍّ من “خمسة نجوم” والحزب الديمقراطي، الحزبين اليساريين القادرين إن تحالفا على تشكيل حكومة لها أغلبية، مستبعدًا إمكانية توصلهما إلى اتفاق، مراهنًا على وجود مصلحة للحزب الديمقراطي في انتخابات مبكرة لاستغلال تراجع شعبية “خمسة نجوم” لانتزاع زعامة اليسار، وكان في ذلك مخطئًا.
وارتكب “سالفيني” خطأ ثانيًا عندما كرر تصريحات طالب فيها بكامل السلطات لإنقاذ إيطاليا من أزمتها، وهذا أحيا ذكريات أليمة ودفع الحزبين اليساريين إلى السعي إلى اتفاق لتشكيل حكومة. ولعب رئيس الجمهورية دورًا في تسهيل التقارب، وفوجئ “سالفيني” برقي وقوة أداء “كونتي” رئيس الوزارة، واتهمه الأخير بالجهل وبتغليب مصالحه الضيقة على الصالح العام بينما البلاد في أزمة، وبتفجير أزمة في توقيت بالغ الحساسية وهو فترة تحضير الميزانية، وأظهر “كونتي” مهارات فائقة في التفاوض، وارتفعت شعبيته في الاستطلاعات.
فهم “سالفيني” أنه ارتكب خطأ وحاول إصلاحه أو الحد من آثاره باللعب على الانقسام الداخلي لحركة “خمسة نجوم”، فهناك أجنحة تريد للحزب أن يصبح وسطيًّا وأخرى ترى أن الحل في مزيد من الراديكالية، وخاطب ود “دي مايو”، رئيس الحركة الكاره للحزب الديمقراطي والذي كان يميل إلى رفض الاتفاق مع الحزب المذكور وإلى إجراء انتخابات مبكرة آملًا في نصر لـ”سالفيني” يحرقه (سالفيني) ويفقده كل مصداقية، ولكنه كان في الوقت ذاته يخشى الانتخابات لأسباب شخصية، وهي أن لوائح الحركة تمنع عضوها من تمثيلها أكثر من دورتين، أي إن دوره السياسي سيتوقف أو ينتهي مع الانتخابات القادمة، فعرض عليه “سالفيني” منصبًا رفيعًا في الحكومة التي سيرأسها. ولكن مؤسس الحركة التاريخي الممثل “بيبي جريو” صاحب سلطة معنوية لا تنكر تدخل مطالبًا بالتحالف مع الحزب الديمقراطي “لمنع البربرية من الوصول إلى الحكم” وهي حجة أقنعت أغلبية كبيرة من أعضاء الحزب.
ويبدو أن الحزب الديمقراطي نجح في فرض بعض شروطه فيما يتعلق بسياسة الحكومة الجديدة، لا سيما ما يتعلق بالعلاقة مع الاتحاد الأوروبي، فطالب بتعامل إيجابي معه، وبالموقف من مشروعات البنية الأساسية التي تعترض الحركة على الكثير منها لأسباب بيئية. وهذه الشروط طبيعية ولكنها قد تزيد من حدة الاستقطاب داخل الحركة بين المعتدلين والراديكاليين.
ومن الملفت للنظر في تشكيل الحكومة الجديدة إسناد وزارة الخارجية إلى “دي مايو”، وقد يكون هذا كافيًا لاحتوائه، وإسناد وزارة الاقتصاد والمالية وهي وزارة استراتيجية للسيد “جالتييري” من الحزب الاشتراكي، وهو من المدافعين عن المشروع الأوروبي.
ويختلف المراقبون والمحللون حول قدرة تلك الحكومة على الاستمرار؛ فالخلافات بين مكوناتها جوهرية، وبينهما تاريخ من المفاوضات الفاشلة ومن التراشق، ويقول أغلبهم إن الكثير سيتوقف على شخصية “كونتي” الذي أظهر مهارات خلال السنة الماضية؛ فنجح في الاحتفاظ بشعرة معاوية مع بروكسل، رغم الهجوم السافر لـ”سالفيني” على الاتحاد، وبدا بصفة عامة حصيفًا معتدلًا اعتدالًا لا يمنع الحسم والإدانة القوية للخطأ، ثم نجح في إقناع الحزب الديمقراطي وحركة “خمسة نجوم” على التركيز على المشترك بينهما على قلته، ونجح في إقناع الجمهور بحرصه على الصالح العام، ويؤيده (حاليًّا) كل من رئيس الجمهورية “ماتاريلا” وبيروقراطية بروكسل والكنيسة الكاثوليكية. ولكن هذه الصفات على فرض وجودها لا تكفي، فالوضع الاقتصادي الإقليمي والدولي غير مناسبين، والخلافات بين الحزبين ما زالت عميقة، ولا سيما في قضايا الهجرة وسياسات دعم الفقراء، إلى جانب ميل الحركة إلى استغلال شبكات التواصل الاجتماعي لتقليل دور المجلسين التشريعيين. ولا يجمع القوتين في الواقع إلا الرعب من “سالفيني”، والرغبة في البقاء في الحكم أطول فترة ممكنة، وطبعًا قد يكون هذا كافيًا.
إيطاليا تحتاج إلى مواقف أكثر إيجابية من الكبار في الاتحاد الأوروبي، إن أرادت الخروج من نفق أزمتها المظلم، لكن ألمانيا على باب أزمة اقتصادية، وفي مرحلة انتقال سلطة، ورأيها العام يعادي فكرة “دعم مبذري الجنوب”. وفي المقابل، لو فشلت الحكومة الإيطالية فسيكون العقاب الانتخابي مضاعفًا، فالواقع يقول إن الرابطة ما زالت القوة الأولى في الشارع، وإن خسرت جولة وقدرًا من المصداقية من المبكر قياسه.