لا شك أن عملية مقتل قائد فيلق القدس الإيراني “قاسم سليماني” في بغداد لا بد أن تُلقي بظلالها وتأثيراتها على إسرائيل التي تعتبر إيران أهم مهدد لأمنها القومي نظرًا لما تمتلكه من أسلحة متطورة، ومحاولاتها امتلاك السلاح النووي من ناحية، وفي ظل تواجدها العسكري على نقاط التماس مع الحدود الإسرائيلية، سواء بشكل مباشر من خلال تواجدها في سوريا، أو عبر وكلائها الإقليميين في سوريا وفلسطين، وهو ما تراه إسرائيل خطرًا ضاغطًا على أمنها، الأمر الذي شكّل دافعاً لتوسيع إسرائيل دائرة استهداف إيران التي لم تقتصر في المرحلة الأخيرة على بنيتها وتحركاتها وإمداداتها العسكرية في سوريا، حيث شنت العديد من الضربات على أهداف مماثلة في العراق خلال عام 2019.
في المقابل، كانت إيران تقوم بين حين وآخر بهجمات مضادة على بعض المواقع الإسرائيلية، خاصة في هضبة الجولان، وبالتالي ظل الطرفان يتعاقبان الهجمات والهجمات المضادة، وإن كانت كثافة الرد من الجانب الإسرائيلي أكثر تجاه الأهداف الإيرانية حتى لا تشكل أية مخاطر على إسرائيل حاليًّا أو مستقبلًا. وعلى الرغم من ذلك، حافظ الطرفان على سياسة حافة الهاوية دون الانزلاق إلى الحرب، وهو ما يطرح تساؤلًا الآن: هل ستحافظ إسرائيل وإيران على تلك السياسية في مرحلة ما بعد غياب “سليماني”؟ خاصة إذا وضع عامل مهم في حساب تلك التطورات وهو وجود ما يشبه “التوافق الضمني” الإسرائيلي–الروسي على تلك السياسة التي اتّبعها الطرفان خلال الفترة السابقة.
أولًا- طبيعة رد الفعل الإسرائيلي على عملية اغتيال “سليماني”
كمدخل للإجابة عن هذه التساؤلات السابقة، من المتصور أن هناك نقطتين رئيسيتين؛ الأولى تتعلق بموقف إسرائيل من “سليماني”، وهو ما انعكس ثانيًا في مظاهر تأييد إسرائيل “السريعة” لعملية اغتيال “سليماني”، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1- محورية شخصية “سليماني” في ظل العداء الإيراني-الإسرائيلي
من الواضح أن هناك عداء مستحكمًا بين إسرائيل وإيران، وبعبارة أدق بين إسرائيل و”قاسم سليماني”، باعتباره المسئول الأول والرئيسي عن العمليات الخارجية لإيران التي من شأنها أن تُهدد الأمن الإسرائيلي، سواء في سوريا أو في لبنان (حزب الله) أو في قطاع غزة (حركة حماس، وحركة الجهاد الإسلامي، وبعض التنظيمات الأخرى). كما أنه يُعد المسئول عن التمويل والتدريب والإمداد بالسلاح إلى هذه المناطق التي تعتبرها إسرائيل مهددات حقيقية لأمنها القومي. وبالتالي، من المتصور أن عملية مقتل “قاسم سليماني” جاءت متوافقة تمامًا مع ما تراه إسرئيل من كونه الشخصية المحورية التي يجب التخلص منها من أجل الحد من المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها، ولذا تمثل رد الفعل الإسرائيلي في التأييد الكامل لهذه العملية، وتأييد كافة الخطوات التي اتخذتها الولايات المتحدة في هذا الشأن، وكذا حق واشنطن في الدفاع عن نفسها وعن مواطنيها.
2- مظاهر تأييد إسرائيل “السريعة” لعملية اغتيال “سليماني”
جاء قطع رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” زيارته المهمة لليونان في أعقاب العملية مباشرة ليعكس تأكيدًا للتأثيرات المتوقعة والنتائج المحتملة والتصرفات التي يمكن أن تقوم بها إيران كنوع من الرد على هذه العملية الكبيرة التي ضربت جوهر النظام الإيراني، وهنا يمكن القول إن الحسابات الإسرائيلية ستأخذ في اعتبارها إمكانية أن تكون إسرائيل أحد المجالات التي يمكن أن يطالها رد الفعل الإيراني، خاصة أن هناك عمليات سابقة قام بها الموساد لتصفية عناصر مؤثرة في حزب الله في لبنان، وكذا تصفية شخصيات إيرانية تعمل في مجال الطاقة النووية لم ترد إيران عليها حتى الآن، ناهيك عن العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد التواجد العسكري الإيراني في سوريا.
ثانيًا- حسابات إسرائيل في ضوء احتمالات التصعيد المرتقب
1- الاحتمالات الخمسة
من المتوقع أن تتمثل حسابات إسرائيل فيما يتعلق بالرد الإيراني -حتى وإن تأخر بعض الوقت- في إطار الاحتمالات الخمسة التالية:
– عمليات قصف صاروخي من إيران في اتجاه أهداف داخل إسرائيل. وبالتالي، من المتصور أن إسرائيل سوف تستمر في عملية تعزيز المنظومات الدفاعية في الفترة المقبلة كتدبير احترازي.
– عمليات إطلاق صواريخ من داخل سوريا في اتجاه أهداف إسرائيلية في هضبة الجولان أو داخل إسرائيل نفسها.
– قيام إيران بضرب المصالح الإسرائيلية في الخارج، وخاصة في أمريكا اللاتينية أو إفريقيا (تفجير سفارات أو معابد يهودية، اغتيال أو خطف شخصيات، خطف طائرات)
– تعريض خطوط الغاز في الحقول الإسرائيلية في البحر المتوسط، والتي بدأ الضخ منها إلى الأردن وفي المستقبل القريب إلى مصر، لعمليات نوعية.
– دفع الوكلاء -لا سيما “حزب الله” اللبناني- لقصف أهداف في الشمال الإسرائيلي، وقيام حركة حماس أو الجهاد الإسلامي أو أي من فصائل المقاومة الموجودة في قطاع غزة بقصف صاروخي يركز على المنطقة الإسرائيلية السكانية المتاخمة للقطاع ويصل إلى تل أبيب. ومن المتصور أن إسرائيل سترسل رسائل تحذيرية لتلك الفصائل من رد فعلها في حال إقدامها على القيام بمثل تلك الهجمات أو العمليات.
2- أربعة سيناريوهات محتملة
في ضوء هذه الاحتمالات يمكن توقع عددٍ من السيناريوهات انطلاقًا من أنه إذا كانت هذه المخاطر والتهديدات المحتملة تتسم بالتوسع والشمول، فإن إسرائيل دائمًا ما تتوسع في هذه الاحتمالات، وتضع السيناريوهات اللازمة للتعامل معها، خاصة أن تقديرها يتمثل في أن إيران على قناعة بأن هناك تعاونًا إسرائيليًّا أمريكيًّا في عملية مقتل “سليماني”، وكذا كافة العمليات المشابهة نظرًا لما تمتلكه إسرائيل من خبرة في تنفيذ عمليات الاغتيال، سواء في لبنان أو في قطاع غزة. كما أن لإسرائيل مصلحة كبيرة في اختفاء “سليماني” من الساحة العسكرية والسياسية الإيرانية.
وإذا ما حاولنا القيام بعملية تحديد أكثر لأهم التهديدات التي ترى إسرائيل أنها أقرب للتنفيذ ضدها، ففي التقدير أنها ستتراوح بين أربعة سيناريوهات واردة تستند إلى الاحتمالات السابقة لكن أكثر تحديدًا. أولها: عمليات إطلاق صواريخ من غزة. وثانيها: إطلاق صواريخ من “حزب الله” في لبنان. وثالثها: تعرض المصالح الإسرائيلية في الخارج لمخاطر متعددة. السيناريو الرابع وإن كان الأضعف احتمالًا: هو “الخروج عن السيطرة” في حال ذهبت الأمور إلى سيناريوهات مفاجئة ستدخل معها المنطقة بشكل عام في دائرة الصراع بين إيران والولايات المتحده، فمن المؤكد أنه سيكون هناك اصطفاف أمريكي–إسرائيلي، وبالتبعية سيرتقي موقع إسرائيل في المواجهة من جانب إيران من مستوى الهدف التابع إلى مستوى الهدف الرئيسي.
وإذا كان من الطبيعي أن تقوم إسرائيل بالتنسيق حاليًّا مع الولايات المتحدة والتشاور معها بشأن طبيعة رد الفعل الإيراني، وكذا رفع درجة الاستعداد في المناطق المحتمل أن تتعرض من خلالها إلى تهديدات؛ إلا أنه من ناحية أخرى سوف تقوم إسرائيل بالرد العنيف في حال إطلاق أية صواريخ عليها من أية منطقة دون أن تتوقف في أي وقت عن قصف التواجد العسكري الإيراني في سوريا كلما كانت هناك ضرورة أمنية لذلك. كما يجب الوضع في الاعتبار أن هذه الأحداث تعد فرصة جيدة لرئيس الوزراء “نتنياهو” للتعامل مع أي تهديد بقوة مفرطة لإثبات أنه القادر على حماية الأمن القومي الإسرائيلي ومن ثم يعاد انتخابه في الانتخابات المقررة في الثاني من مارس القادم.
مجمل القول، إنه على الرغم من أن إسرائيل في دائرة التصعيد العسكري الإيراني في مرحلة ما بعد اغتيال “سليماني”، لكنها لن تمثل أولوية في الأهداف الإيرانية، بل إن القراءة الحالية تشير إلى أن إسرائيل تمثل حاليًّا الهدف التابع أو التالي، وعليه فحتى مع حدوث تصعيد متبادل خلال الفترة المقبلة بشكل مباشر أو غير مباشر فسيظل “تحت السيطرة” بين الطرفين، ولن يخرج عن سياسة حافة الهاوية التي يتبعها الطرفان. وستظل الأهداف والمصالح والأمريكية هي العنوان الأول للتحركات الإيرانية المقبلة في إطار الثأر لعملية اغتيال “قاسم سليماني”، لكن سيظل هذا المسار أيضًا عرضة لاحتمالات سيناريوهات مفاجئة أخرى في حال زادت إسرائيل من التنسيق مع الولايات المتحدة في المواجهة ضد إيران.