المتابع لتطورات الأحداث السياسية فى العالم سوف يجد من وقت لآخر مقالات وأبحاثًا تحمل عناوين مثل «وداعًا لليسار» و«الموت البطىء لليسار» و«كيف خسر اليسار المعركة؟»، وتشير جميعها إلى حقيقة واضحة وهى أن تيار اليسار السياسى فى حالة انحسار كبير.
المؤشرات على ذلك كثيرة، ومنها الخسارة القاسية التى تعرض لها حزب العمال البريطانى- ممثل اليسار- فى الانتخابات الأخيرة بالمملكة المتحدة، والتى فقد فيها أكبر عدد من مقاعد البرلمان منذ عام ١٩٣٥. وسبق ذلك هزائم أخرى تعرضت لها الأحزاب اليسارية فى اليونان وإيطاليا وإسبانيا، وتزامن معها انهيار تجربة اليسار فى البرازيل وسجن أيقونة هذا التيار الرئيس السابق «لولا دى سيلفا» واتهامه بالفساد، وانتخاب رئيس ينتمى لأقصى اليمين، بالإضافة لانتكاسات اليسار فى الأرجنتين وفنزويلا.
تفسيرات كثيرة تم طرحها لفهم هذه الظاهرة. أحدها يتعلق بالهوية، حيث أشار البعض إلى أن نقطة البداية تعود للتسعينيات، عندما تخلت الأحزاب اليسارية عن هويتها وتبنت ما يعرف بأيديولوجية «الطريق الثالث»، والتى اقتبست الكثير من الأفكار الاقتصادية من اليمين الليبرالى وبهدف الاقتراب من منطقة الوسط السياسى أو ما عرف بيسار الوسط، وكان نموذج ذلك السياسات التى تبناها سياسيون مثل رئيس الوزراء البريطانى السابق تونى بلير. ونتيجة لهذا التوجه فقد اليسار نقاءه الأيديولوجى وميزته النسبية الفكرية، وأصبح فى أعين البعض لا يمثل بديلًا حقيقيًّا لليمين.
التفسير الثانى يتعلق بالاستراتيجية، بمعنى أن التيار اليسارى فشل فى طرح رؤية تتعامل مع العديد من المشكلات المعاصرة وخاصة تلك التى تتعلق بالعولمة، مثل زيادة حركة الهجرة، ودمج الأقليات، والتأثير المصاحب لاقتصاديات المعرفة، وارتفاع معدلات عدم المساواة. وركز اليسار على فكرة أخذ «العوامل الإنسانية» فى الاعتبار عند التعامل مع هذه القضايا، أو اتهام خصومه بالعنصرية، ولكنه لم يطرح رؤية حقيقية أو مشروعًا خاصًا لحل هذه المشاكل. وكما ذكر أحد أساتذة العلوم السياسية «لم تختلف سياسات اليسار كثيرًا عن سياسات اليمين، لذلك عندما يكون اليمين فى السلطة، فإن الناخبين الذين يريدون التغيير يتذكرون أنه لا يوجد أمل كبير من اليسار التقليدى». وبالتالى فقد اليسار مصداقيته، ونشأ فراغ سياسى ملأته قوى اليمين المتطرف.
البعض أشار أيضًا إلى أن قوى اليسار أهملت القاعدة الشعبية الأساسية لها والمتمثلة فى الطبقة العاملة والفقيرة، وركزت اهتمامها على الطبقة الوسطى وسكان الحضر، ومن ثم شهدنا الكتل الانتخابية العمالية تعطى أصواتها لمرشحى اليمين كما حدث مع دونالد ترامب فى الولايات المتحدة وبوريس جونسون فى المملكة المتحدة.
تراجع قوى اليسار التقليدى ويسار الوسط أدى إلى ظهور تيار جديد يصف نفسه بالتيار التقدمى، والذى بدأت تتبلور ملامحه فى العديد من الدول ومنها الولايات المتحدة. هذا التيار يخاطب القطاعات المختلفة، ويسعى للتكيف مع تطورات عصر العولمة ولكن فى نفس الوقت يؤكد على بُعد العدالة الاجتماعية فى توزيع الدخول، وقبول التعايش فى مجتمع متعدد الأعراق والثقافات.
باختصار وبالرغم من كل المؤشرات والتفسيرات السابقة لا يمكن الزعم بنهاية اليسار، فالأفكار لا تموت، ولكنها تحتاج دائما للتطوير، وفشل القوى اليمينية فى الحكم سوف يعيد طرح اليسار كبديل، ولكنه بالتأكيد سيكون يسارًا مختلفًا عما عايشه العالم فى العقود الماضية.
*نقلا عن صحيفة “المصري اليوم”، نشر بتاريخ ٢٠ يناير ٢٠١٩.