عُقدت قمة بين فرنسا ودول الساحل الخمس (تشاد، مالي، النيجر، بوركينافاسو، وموريتانيا) بمدينة نجامينا، عاصمة دولة تشاد خلال يومي 15 و16 فبراير 2021، وانضم الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” للقمة عبر تقنية الفيديو كونفرانس نظرًا لجائحة “كورونا”، وبمشاركة كلٍ من رؤساء دول غانا “نانا أكوفو أدو”، والسنغال “ماكي سال”، واللواء “إبراهيم جابر إبراهيم”، عضو مجلس السيادة الانتقالي في السودان، و”سعد الدين العثماني”، رئيس وزراء المملكة المغربية، والممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشئون الخارجية والسياسة الأمنية “جوزيب بوريل”، ورئيس المجلس الأوروبي “تشارلز ميشيل”، و”هايكو ماس” وزير الخارجية الألماني، ورئيس الوزراء البرتغالي “أنطونيو كوستا”، و”أنتوني بلينكن” وزير الخارجية الأمريكي، وممثلين عن الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس).
يأتي انعقاد قمة “نجامنيا” في ظل تراجع شعبية الانخراط العسكري الفرنسي في الساحل، حيث كشف استطلاع رأي في يناير 2021 أُجري من قِبل المؤسسة الفرنسية للرأي العام (IFOP) أن 51٪ من سكان فرنسا لم يدعموا التدخل العسكري في منطقة الساحل باعتباره التزامًا مُكلفًا ماديًا، حيث يُكلف دافعي الضرائب حوالي مليار يورو سنويًا بين تكلفة العمليات العسكرية ومُساعدات التنمية، بجانب التكلفة البشرية الباهظة بعد أن قُتل 50 جنديًا فرنسيًا في الساحل منذ 2013.
أجندة القمة
هيمنت المسائل الأمنية على جدول أعمال القمة، بجانب مُناقشة الجهود المُشتركة لمُكافحة الإرهاب ومُستقبل القوات الفرنسية، وتداعيات جائحة ” كورونا”، وآفاق التنمية الاقتصادية في منطقة الساحل الإفريقي، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:
الوضع الأمني في الساحل
تتمركز الجماعات الجهادية الأكثر نشاطًا في الساحل؛ جبهة تحرير ماسينا المرتبطة بتنظيم “القاعدة” في بلاد المغرب الإسلامي، وجماعة “أنصار الدين” التي تنفذ معظم هجماتها في شمال بوركينافاسو. فضلًا عن تواجد تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى (ISGS)، في غرب النيجر وشمال شرق مالي، وتقريبًا 90% من هجمات التنظيم تحدث في نطاق منطقة الحدود الثلاثة، ولا يكاد يمر يوم واحد في هذه البلدان دون هجوم، أو انفجار لغم أو انتهاكات ضد المدنيين، وتم تجاوز حاجز مليوني نازح في يناير 2021.
ومنذ يناير 2021، حذّرت “فلورنس بارلي” وزيرة الدفاع الفرنسية من احتمال تقليص أعداد قوة برخان في ظل تزايد الهجمات الأخيرة في ديسمبر 2020 ويناير 2021، والتي قُتل فيها عدد من جنود فرنسا في الساحل، ولا تزال الجماعات الإرهابية لديها أجندة لتوسيع ولاية غرب إفريقيا من خلال تنفيذ الهجمات على الحدود بين كوت ديفوار وبوركينافاسو، وبنين، وتوجو، في ظل توطين الإرهاب في منطقة الساحل، حيث إن قادة ومُقاتلي الجماعات المُسلحة من السكان المحليين ولا يمكن مُحاربتهم بالوسائل العسكرية فقط. وعليه، نفذت فرنسا بشكل مُشترك عملية كوموي في بوركينافاسو وساحل العاج في بداية مايو 2020.
تخفيض أعداد القوات الفرنسية
تساءل البعض عن تكلفة عملية برخان الفرنسية وفائدتها، حيث يُوجد 5100 جندي فرنسي في الساحل كجزء من عملية برخان، ومنذ عام 2020 قامت فرنسا بنشر 600 جندي إضافي لتعزيز الأمن ومُكافحة الإرهاب في المنطقة الحدودية (ليبتاكو غورما) بين الدول الثلاث (مالي، والنيجر، وبوركينافاسو)، وحققت العملية عددًا من النجاحات، لكن تزايدت الهجمات على القوات الفرنسية والجيوش المحلية والقوات الأممية، وارتفاع عدد القتلى من المدنيين.
في هذا السياق، دعا “جان إيف لودريان”، وزير الخارجية الفرنسي، إلى دعم دبلوماسي وسياسي وتنموي للاستجابة للوضع في الساحل. كما فتح “ماكرون” الباب أمام الانسحاب، أو تعديل التزام فرنسا العسكري ووجودها الميداني في منطقة الساحل في ظل رغبة فرنسا للحصول على مزيد من الدعم والانخراط العسكري وتقاسم جزء من العبء العسكري مع شركائها الأوروبيين للمُساهمة في قوة “تاكوبا” Takuba، وحتى الآن وصل حوالي 40 أستونيًا و60 تشيكيًا و150 سويديًا، ومن المتوقع وصول القوات الأخرى من هولندا والدنمارك والبرتغال والمجر وأوكرانيا وسلوفاكيا واليونان خلال الفترة المُقبلة.
وخلال القمة، استبعد “ماكرون” أن يتم تخفيض عدد الجنود الفرنسيين بشكل فوري، مُوضحًا أنه سيتم في الوقت المناسب، قائلًا: “إن الخروج السريع سيكون خطأ”، وسيبقي على عدد القوات الفرنسية العاملة في المنطقة عند مستواها الحالي على الأقل حتى الصيف القادم، وشدد “ماكرون” على أن هدف باريس تعزيز الحرب العالمية ضد الإرهاب، واستخدم مصطلح “قطع الرأس” للإشارة إلى المهام المستهدفة للقضاء على قادة الجماعات الإرهابية، وتعزيز وجود الدولة في شكل الإدارة والعدالة والشرطة، وضمان حصول السكان على الغذاء، والمياه، والتعليم، والخدمات الصحية.
تداعيات جائحة “كورونا” والتنمية الاقتصادية
فاقمت جائحة “كورونا” الوضع الإنساني في الساحل، حيث حشد أعضاء تحالف الساحل التمويل استجابةً لحالات الطوارئ الصحية والغذائية، والحد من الآثار الاجتماعية والاقتصادية للجائحة، وانعقدت الجمعية العامة للتحالف على هامش قمة “نجامينا”، من أجل تكثيف إجراءاتهم المشتركة مع مجموعة الساحل الخمس لتحسين الظروف المعيشية وخدمات الصحة العامة، وتحقيق انتعاش اقتصادي شامل ومُستدام لسكان المنطقة، واستعادة التماسك الاجتماعي بالتنسيق مع الأمانة التنفيذية لمجموعة الساحل الخمس، وإنشاء إطار تبادل مع حكومات الساحل لتكثيف الحوار حول السياسة العامة والإصلاحات القطاعية ذات الأولوية بما يتماشى مع خطة التنمية المستدامة لعام 2030، وتجديد الالتزام بإعلان إبريل 2020 في نواكشوط بشأن جائحة “كورونا” والإلغاء التام لديون دول الساحل.
مُخرجات مُحددة
تَوصلت القمة إلى عددٍ من المخرجات والقرارات في مجالات تنموية وعسكرية وإدارية مُحددة لمنطقة الساحل، كما يلي:
تَعهدات تنموية: قامت الدول الأعضاء في التحالف من أجل الساحل بالتَعهد بمجموعة من الإجراءات المُشتركة، لتحسين الظروف المعيشية لشعوب منطقة الساحل، وتعزيز الجهود المبذولة لإعطاء الأولوية للحكم من خلال تهدئة التوترات المتصاعدة بين المجتمعات والدولة في المناطق الريفية، وإطلاق عملية حوار مع دول الساحل الخمس حول إصلاح القطاعات والسياسات العامة، وتحسين تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين، وتعزيز الأمن الغذائي، ومُكافحة تغير المناخ، وتنفيذ استراتيجية الأمن والتنمية وبرنامج الاستثمارات ذات الأولوية، وتمكين النساء والشباب بمُساعدة البنك الإفريقي للتنمية والصندوق الدولي للتنمية الزراعية ومنظمة الأغذية والزراعة وبرنامج الأغذية العالمي، والاتفاق على إطلاق برامج اقتصادية بقيمة 400 مليون يورو.
تعزيزات عسكرية: أرسلت تشاد 1200 جندي لمُكافحة الإرهاب في منطقة (ليبتاكو غورما) في السادس عشر من فبراير 2021، وكانت وعدت بذلك قبل عام، لكنّ عوامل عديدة حالت دون نشر هذه الكتيبة من بينها تعاظم التهديد الإرهابي على ضفاف بحيرة تشاد، والخلاف المستمر حول شروط انتشار هذه القوات، ومسائل أخرى تتعلق بالتمويل، حيث قال “ديبي” في افتتاح القمة: “إن الوقت قد حان لقيام المجتمع الدولي بتكثيف الأموال للتنمية وتخفيف حدة الفقر للمُساعدة في تجفيف مصادر تجنيد الجماعات الإرهابية بشكل عاجل”، بالإضافة إلى مُوافقة الاتحاد الإفريقي على دعم القدرة العملياتية لقوة دول الساحل الخمس بمبلغ 20 مليون دولار أمريكي.
هياكل جديدة: خلال القمة انتقلت الرئاسة الدورية لمجموعة الساحل الخمس من محمد الشيخ ولد الغزواني، رئيس دولة موريتانيا، إلى إدريس ديبي إتنو، رئيس دولة تشاد، وتشكيل أمانة للتحالف من أجل الساحل كمنتدى سياسي من شأنه أن يسمح بالحوار رفيع المستوى، والدعوة القانونية بالتركيز على الحوكمة والجهود التي يقودها المجتمع في المناطق المتضررة.
جهود دبلوماسية فرنسية
قبل انعقاد قمة “نجامينا”، اجتمع “ماكرون” مع جميع رؤساء دول الساحل الخمس في قصر الإليزيه، وكان آخرهم رئيس بوركينافاسو “روش مارك كريستيان كابوري” الذي أُعيد انتخابه مؤخرًا، و”باه نداو” الرئيس الانتقالي في مالي، وجاءت هذه الاجتماعات كنهج ذي شقين: استعادة ثقة السكان من خلال إعادة انتشار الدولة، والتفاوض مع المجموعات الوحيدة التي تُوافق على تسجيل أعمالها في إطار الدولة. أما الآخرون فهم إرهابيو “القاعدة” أو “داعش”. ومع ذلك، أكد “ماكرون” و”لودريان”: “نحن لا نتفاوض مع الإرهابيين، بل نحاربهم”. وعلى عكس ذلك، في الرابع من فبراير 2021، قال رئيس وزراء بوركينافاسو إن بلاده تسعى للدخول في مفاوضات سلام مع الجماعات المُسلحة العاملة في شمال وشرق البلاد. كما دخل الرئيس المالي السابق “إبراهيم بوبكر كيتا” في مفاوضات مُماثلة.
واتصالًا بطلب فرنسا مُشاركة ألمانيا في العمليات القتالية في الساحل، رفض ذلك “هايكو ماس” وزير الخارجية الألماني، قائلًا: “إن برلين لن ترسل جنودًا إلى عمليات عسكرية إضافية في منطقة الساحل، وتريد التركيز على مشروعات التنمية، وينبغي أن تسعى دول الساحل إلى قوات أمنية قوية، وخدمات عامة فعّالة لشعوبها”. إذ يقوم ما يقرب من 1500 جندي ألماني بمهام تدريب ودعم لقوة الأمم المتحدة في مالي (مينوسما). كما تُوفر الولايات المتحدة معلومات استخباراتية للقوات الفرنسية في الساحل، وفي الثالث من يوليو 2020 قامت السفارة الأمريكية في نجامينا بإمدادات بقيمة 8.5 ملايين دولار إلى تشاد لدعم جهودها في مُكافحة الإرهاب.
ومؤخرًا، اتخذت إسبانيا خطوات مهمة لتعزيز دورها في المنطقة، حيث أعلنت مدريد عن المبعوث الخاص الجديد لمنطقة الساحل لتعزيز العلاقات الدبلوماسية مع هذه الدول. كما عززت إسبانيا وجودها داخل بعثة الاتحاد الأوروبي في مالي التي تم تمديد تفويضها وتضاعف وحدتها العسكرية، حيث ساهمت إسبانيا بنصف القوات، ولكن ليس من المتوقع أن تنضم إسبانيا إلى الوجود العسكري في إطار قوة “تاكوبا” على المدى القريب.
وأخيرًا، لا تزال هناك عَقبات كبيرة لضمان استعادة الهياكل الكاملة والخدمات الأساسية للدولة في ظل تمدد نشاط الجماعات الإرهابية، وعجز الجيوش الوطنية للتصدي لها، ومخاطر انتشار هذه الجماعات نحو الدول الساحلية في خليج غينيا بغرب إفريقيا، وتداعيات الحرب الدائرة بين الجماعات المُسلحة المنتمية لتنظيمي “القاعدة” و”داعش”. بالإضافة إلى إطلاق عملية إعادة أسلمة مجتمعات الساحل منذ سنوات. ولذا، من الضروري أن تكسب دول الساحل الدعم الشعبي ومُعالجة المظالم الاجتماعية التاريخية لجهود مُكافحة التمرد والإرهاب.