تُشير المعطيات المتوفرة حتى الآن إلى أن ساعات قليلة تفصلنا عن طرح الولايات المتحدة لخطة السلام في الشرق الأوسط المعروفة باسم “صفقة القرن”، والتي تهدف -طبقًا للرؤية الأمريكية- إلى إيجاد تسوية نهائية للقضية الفلسطينية. ومن المقرر أن يتم إعلانها رسميًّا في سياق وعقب مقابلات يعقدها الرئيس “دونالد ترمب” في واشنطن مع كلٍّ من “بنيامين نتنياهو” زعيم حزب الليكود الإسرائيلي، و”بيني جانتس” زعيم ائتلاف أزرق أبيض.
ترحيب كل من “نتنياهو” و”جانتس” بالخطة الأمريكية في ضوء المعلومات التي وصلت إليهما بشأن بنود الصفقة، يشير بوضوح إلى أن الخطة تتضمن المبادئ الرئيسية التي تتواءم تمامًا مع الموقف الإسرائيلي بالنسبة لحل القضية الفلسطينية، خاصة فيما يتعلق بربط التسوية بكل متطلبات الأمن الإسرائيلي، بالإضافة إلى التوافق مع الرؤية الإسرائيلية فيما يتعلق بأهم قضيتين من قضايا الوضع النهائي، وهما القدس واللاجئون. وليس أدل على ذلك من البيان الأخير الصادر عن مكتب “نتنياهو” قبل مغادرته إلى واشنطن، الذي أوضح فيه أنه ينسق مع الإدارة الأمريكية منذ ثلاث سنوات حول الاحتياجات الأمنية والوطنية الأكثر حيوية لإسرائيل التي يجب أن تشملها أية تسوية سياسية.
وتجدر الإشارة إلى أنني لا أهدف من مقالي هذا إلى أن أتطرق إلى الصفقة وتفاصيلها، وتحليل وتفنيد وتقييم بنودها، فهذا موضوع مقال آخر قادم بالضرورة خلال الأيام القليلة المقبلة؛ لكن الأمر الذي بات أكثر وضوحًا وتحديدًا ولا يحتاج لأي اجتهاد أن هذه الصفقة ستصب بشكل غير مسبوق في مصلحة إسرائيل، وبالتالي تبتعد عن الموقف الفلسطيني والثوابت التي تمثل حدودَ وإطارَ هذا الموقف. بمعنى أدق، إن هذه الصفقة تتجاوز المبدأ الرئيسي أو الإطار العام الذي يؤكده الفلسطينيون والعرب بشكل دائم كأساس للحل، وهو إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة عاصمتها القدس الشرقية على حدود 67.
ومع تسليمنا بأن الصفقة الأمريكية هي صفقة منقوصة باعتبارها قد انحازت لموقف إسرائيل فقط، ولم تأخذ في اعتبارها أهم المطالب العادلة للجانب الفلسطيني؛ فإن الأمر يتطلب أن ننتقل من مرحلة الحديث حول الصفقة إلى مرحلة كيفية التعامل العربي معها، باعتبارها قد أصبحت حقيقة واقعة، بل مدعومة من القوة العظمى الأولى في العالم وهي الولايات المتحدة صاحبة الصفقة، وأيضًا مقبولة من جانب أحد أطراف النزاع، وأعني به إسرائيل، وإن كان الموقف الرسمي للحكومة الإسرائيلية لم يتضح بعد انتظارًا لطرح البيت الأبيض للصفقة وعودة كل من “نتنياهو” و”جانتس” إلى تل أبيب، مع عدم استبعاد أن تكون هناك بعض الملاحظات (أو التحفظات) الحزبية على الصفقة، خاصة من الأحزاب شديدة التطرف سواء كانت دينية أو يمينية.
وبالتالي، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا يتمثل في البحث عن أنسب أسلوب يمكن أن يتعامل به الجانب العربي مع الصفقة في إطار ثلاثة بدائل، هي: الرفض، أو القبول، أو التحفظ. وفي هذا المجال أطرح أربعة مقترحات رئيسية:
المقترح الأول: من الضروري أن يكون رد الفعل العربي تجاه الصفقة جماعيًّا قدر المستطاع أو حتى (شبه جماعي) إذا كانت هناك صعوبة في مسألة الإجماع حتى لا تتحمل دولة عربية بمفردها مسئولية اتخاذ موقف محدد إزاء الصفقة.
المقترح الثاني: من الضروري ألا يتخذ الجانب العربي موقف الرفض أو القبول العلني بمجرد طرح الصفقة، وأن يعلن أنه من حيث المبدأ ليس لديه ما يمنع من أن يرحب أو يدرس أية خطة سلام يطرحها أي طرف. وهنا سيحظى هذا الموقف العربي بالتقدير من جانب المجتمع الدولي كله.
المقترح الثالث: مع كل التقدير للموقف الفلسطيني وحرص قيادته السياسية الوطنية على الحفاظ على الثوابت المعروفة، فإني أرى أنه لا بد من إقناع الجانب الفلسطيني بأن يكون جزءًا من الموقف العربي، ولا ينفرد بقرار خاص به مهما كانت اعتراضاته على الصفقة، وما دام الموقف العربي لن يقفز على أسس التسوية السياسية أو يتجاهلها، لا سيما وأن القضية الفلسطينية هي قضية عربية محورية يتحمل الجميع مسئوليتها.
المقترح الرابع: تشكيل لجنة عربية مصغّرة داخل الجامعة العربية تكون مهمتها دراسة الصفقة بصورة تفصيلية، على أن تتضمن نقاط الاتفاق ونقاط الاختلاف والنقاط المطلوب تعديلها، مع الإشارة إلى أن الهدف من هذه الدراسة ليس “وأد” الصفقة، بل محاولة تهيئتها فيما بعد لتكون صالحة كأرضية لاستئناف المفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية.
في الوقت نفسه وتوازيًا مع هذا التحرك العربي، يجب أن تكون هناك سبع رسائل عربية موجهة بصفة أساسية إلى كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، ولا مانع من توجيهها أيضًا إلى الدول الأوروبية. هذه الرسائل هي:
الرسالة الأولى: أن الدول العربية تقدر كل الجهود التي تُبذل من أجل طرح خطة سلام تُنهي معاناة الشعب الفلسطيني وتحقق طموحاته، وتؤدي في النهاية إلى أن تعيش كل دول المنطقة في أمن وسلام واستقرار.
الرسالة الثانية: أن هناك إمكانية لقبول أية خطة سلام تأخذ في اعتبارها الاحتياجات الأمنية والمتطلبات السياسية لجميع الأطراف المتنازعة، أما دون ذلك فالأمر سيبدو أكثر صعوبة في إقناع طرف واحد فقط بأن يقدم تنازلات جوهرية في مواقفه وإجباره بأن يوافق على ذلك.
الرسالة الثالثة: أن أية خطة سلام لا تُلبي تطلعات الشعب الفلسطيني في قيام دولته سيصبح من المستحيل تمريرها، خاصة إذا تجاهلت هذه الخطة الأسس الجوهرية للتسوية، ولا سيما فيما يتعلق بالقدس الشرقية وقضية اللاجئين.
الرسالة الرابعة: أن مسألة ضم إسرائيل لأجزاء كبيرة من الضفة الغربية، ولا سيما في منطقة غور الأردن، ستؤدي إلى إنهاء عملية السلام تمامًا، ولن يكون هناك بالتالي الشريك الفلسطيني القادر على التفاوض مع الجانب الإسرائيلي.
الرسالة الخامسة: أن هناك تخوفًا من أن تؤدي هذه التطورات إلى فقدان الشعب الفلسطيني كل آماله في تحقيق طموحاته المشروعة، وبالتالي تتهيأ الأرضية لتطورات غير محسوبة في المقابل، بل وغير مسيطر عليها تمامًا (انتفاضة ثالثة، أعمال عنف، استغلال الجماعات المتطرفة الموقف في تنفيذ عمليات مضادة.. إلخ) مع التأكيد على حرص الجانبين العربي والفلسطيني على عدم الوصول بالموقف إلى هذا الوضع.
الرسالة السادسة: أهمية ألا يكون هناك إصرار أمريكي على تنفيذ الصفقة كما هي، فبالقدر الذي حرصت فيه واشنطن على التنسيق مع إسرائيل وتلبية احتياجاتها، يجب أن تتوافر في المقابل مساحة للجانبين العربي والفلسطيني لطرح مواقفهما وأخذها بجدية في الاعتبار بل وتنفيذها، وإلا فإن عملية التفاوض لن تكون ذات جدوى أو لن يكون لها أي معنى، ومن ثم لا داعي لها من الأساس.
الرسالة السابعة: ضرورة أن يكون لأوروبا والأمم المتحدة دور في بحث هذه الخطة، ليس من أجل تكتيل الموقف ضد الصفقة ولكن بهدف الوصول بها إلى تحقيق مطالب كافة الأطراف، ومن ثم يمكن الحديث بعد ذلك عن فكرة قبولها أو تمريرها.
في ضوء ما سبق، فإنني أرى أهمية أن يتعامل الجانب العربي مع الصفقة بدون “هلع” أو “فزع”، وأن تكون معالجتها في إطار كونها خطة سلام مطروحة لحل القضية الفلسطينية يجب بحثها ودراستها، وتظل قابلة للرفض أو القبول أو المطالبة بالتعديل ما دمنا نتعامل معها بموضوعية ومصداقية ولدينا رصيد هائل من المواقف والقرارات الدولية المؤيدة لمواقفنا. كما أنه من المهم أن نعي أن عامل الوقت ليس سيفًا مسلطًا على مسألة دراستنا بالعمق المطلوب للصفقة حتى يكون ردنا عليها منطقيًّا وموضوعيًّا.
في النهاية، مع كل التقدير للجهود الأمريكية في هذا المجال فإن قناعتي التي لا تقبل الشك أنه لا يمكن فرض تسوية سياسية على الأرض لا تلقى قبولًا من كافة أطراف النزاع. كما أن القضية الفلسطينية التي تجاوز عمرها نصف قرن لن يُضيرها أن تمكث سنوات أخرى ما دامت الحلول المطروحة لا تلبي تطلعات الشعب الفلسطيني صاحب القرار الأول في هذا الشأن، خاصة أننا في مرحلة تشهد فيها المنطقة توترات ومشاكل قابلة للانفجار أكثر من كونها قابلة للحل.