تعتبر دولة جيبوتي أصغر دولة في القرن الإفريقي، حيث تبلغ مساحتها حوالي 23 ألف كم مربع، وتعاني من ندرة الموارد الطبيعية، ولكنها تملك موقعًا استراتيجيًا يشكِّل أهمية كبيرة للتجارة العالمية، حيث يوجد مضيق باب المندب وطريق قناة السويس التي يمر عبرها نحو 10% من صادرات النفط العالمية و20% من الصادرات التجارية سنويًّا. وتعمل جيبوتي على استغلاله من خلال تقوية مكانتها كمنفذ لشرق إفريقيا، وفتح المرافق البحرية للبلاد لمرور السلع من أوروبا والشرق الأوسط وآسيا، كون ميناء جيبوتي مركزًا للتبادل التجاري. وتستضيف جيبوتي مرافق عسكرية ولوجستية من عدة دول إقليمية ودولية. كما تسعى جيبوتي لتعزيز مكانتها في القرن الإفريقي عبر الحفاظ على علاقات وطيدة مع القوى الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية والصين. ومن هنا يمكن طرح تساؤل عن كيفية إدارة دولة جيبوتي علاقاتها مع تلك القوى الدولية والتي تختلف مصالحها في بعض الأحيان؟.
جيبوتي والقواعد العسكرية
جاءت أهمية جيبوتي بالنسبة للأمن القومي الأمريكي بعد هجمات 11 سبتمبر عام 2001، وقد عملت الولايات المتحدة الأمريكية على إقامة قواعد عسكرية بالمنطقة، فتأسس معسكر كامب ليمونيه بجيبوتي عام 2001، وفي مايو 2003 تم تحويله لمقر للقيادة العسكرية أفريكوم، ولمقر قوات المهام القتالية المشتركة في القرن الإفريقي، وذلك لمحاربة الإرهاب والقرصنة. وتعد أكبر قاعدة عسكرية أمريكية بالقارة، إذ تحتضن أكثر من 4000 شخص، وتم تمديد عقد الإيجار الخاص بها حتى عام 2025.
وفيما يتعلق بالاهتمام الصيني بدولة جيبوتي فيما يتصل بالجانب الأمني، فقد افتتحت الصين قاعدة عسكرية لها في جيبوتي في عام 2017، وذلك بهدف تقديم الدعم لعمليات مكافحة القرصنة المستمرة للبحرية الصينية، فقد تزايد تهديد القراصنة خلال العقد الماضي، وتسبب في إرباك للملاحة البحرية للصين. كما تهدف الصين من هذه الخطوة لتأمين الطرق البحرية التي تنقل إليها ومنها معظم المواد الخام، والطاقة، وتعزيز صادراتها من خلال الطرق التجارية والبحرية.
والواقع أن جيبوتي قد استفادت من وجود القواعد العسكرية الأمريكية والصينية، حيث تُعَدُّ القواعد العسكرية مصدر دخل مهمًّا لجيبوتي، وتدفع الصين 100 مليون دولار سنويًّا كإيجار، وهو مبلغ يفوق بكثير ما تدفعه الولايات المتحدة حيث تستضيف جيبوتي الوجود العسكري الأمريكي الدائم الوحيد في إفريقيا في معسكر كامب ليمونيه، وبموجب شروط اتفاق إيجار تدفع الولايات المتحدة لجيبوتي أكثر من 30 مليون دولار سنويًّا، وقد سعت جيبوتي لزيادة رسوم الإيجار لتصل إلى 60 مليون دولار.
الشراكات الاقتصادية
تعاني جيبوتي من ارتفاع معدل البطالة بين الشباب، حيث يقارب معدل البطالة 60% بسبب النمو السريع في القوى العاملة التي لا تتناسب بشكل جيد مع الاحتياجات الاقتصادية للبلاد، لذلك عملت جيبوتي على توظيف علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية والصين لمواجهة تحدياتها الاقتصادية، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:
استفادت جيبوتي من علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أطلقت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية مشروعًا لتنمية القوى العاملة في جيبوتي مدته خمس سنوات (2016-2021) يهدف إلى الحد من البطالة في جيبوتي من خلال تحسين جاهزية القوى العاملة والقدرة التنافسية بناءً على احتياجات السوق.
وكانت جيبوتي قد طرحت في عام 2014 “رؤية 2035″، التي تطمح من خلالها إلى تحويل البلد إلى مركز إقليمي للملاحة والتجارة، محاولة الاستفادة من مبادرة “الحزام والطريق” التي تتبناها الصين للربط الاقتصادي والتجاري بين آسيا وأوروبا وإفريقيا، عبر بوابة باب المندب وقناة السويس، والدول المحيطة بتلك الممرات المائية الحيوية. وقد قدمت الصين ما يقرب من 1.5 بليون دولار لتمويل مشاريع البنية التحتية الرئيسية في جيبوتي منذ عام 2000. ومن بين المشاريع التي تقوم الشركات الصينية ببنائها منطقة تجارة حرة بقيمة 3.5 بلايين دولار، من المتوقع أن تكون أكبر منطقة في إفريقيا. وقد تم الانتهاء من المرحلة الأولى في عام 2018، ومن المتوقع أن تخلق 200 ألف فرصة عمل جديدة وتتعامل مع أكثر من 7 مليارات دولار في التجارة في 2018 إلى 2020. وتملك ثلاث شركات صينية حصصًا في “إف تي زد” إلى جانب هيئة الموانئ في جيبوتي.
وتشمل المشاريع الاستثمارية الأخرى المدعومة من الصين تطوير مرافق الموانئ والبنية التحتية ذات الصلة، بما في ذلك خط سكة حديد ومطاران (عقد بقيمة 420 مليون دولار)، وخط أنابيب لتزويد جيبوتي بالمياه من إثيوبيا المجاورة (عقد بقيمة 320 مليون دولار). وتعتمد إثيوبيا على جيبوتي في عبور 90% من تجارتها الرسمية، التي يسهلها مؤخرًا خط جديد للسكك الحديدية بين البلدين. وتم بناء الخط وتشغيله من قبل شركتين صينيتين، وتم تمويله جزئيًّا من قبل بنك التصدير والاستيراد الصيني.
ومن الاستعراض السابق، يتضح أن آفاق التعاون بين جيبوتي وكل من الولايات المتحدة الأمريكية والصين، يساهم في تحسين البنية التحتية، وتقليل معدلات الفقر، وتحسين معيشة الشعب الجيبوتي.
بين المساعدات الإنسانية والشروط السياسية
استفادت جيبوتي من علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية والصين فيما يتعلق بمجال المساعدات الإنسانية، ولكن الولايات المتحدة الأمريكية في علاقاتها مع الدول تفرض شروطًا سياسية في مقابل الحصول على هذه المساعدات على عكس الصين التي لا تفرض شروطًا سياسية في سبيل الحصول على المساعدات الإنسانية. فالولايات المتحدة تسعى في علاقاتها مع دولة جيبوتي إلى نشر قيم الديمقراطية، وتعزيز منظمات المجتمع المدني الجيبوتية، وتعزيز الحكم الخاضع للمساءلة، كما يتضمن برنامج تعزيز منظمات المجتمع المدني مزيجًا من المساعدة الفنية والتدريب وتنمية القدرات، ويعمل مع وداخل أنشطة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية الحالية في قطاعات الصحة والتعليم، بالإضافة إلى تمكين المرأة.
وقد ركزت المساعدة الصحية الأمريكية على سلسلة الوقاية من فيروس نقص المناعة والرعاية والعلاج للسكان الرئيسيين والسكان ذوي الأولوية في مدينة جيبوتي، كما قدمت الولايات المتحدة تمويلًا لحكومة جيبوتي لمعالجة الآثار المحلية لفيروس كورونا المستجد تبلغ أكثر من 4.9 ملايين دولار. وفيما يتعلق بالمساعدات الغذائية، تعمل الولايات المتحدة الأمريكية على تقديم المساعدات الغذائية لجيبوتي من خلال برنامج الغذاء مقابل السلام، ويعد برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة أكبر شريك للولايات المتحدة في مجال الأمن الغذائي في جيبوتي، حيث يقوم بتوزيع ما يقرب من 4 ملايين دولار على شكل مساعدات غذائية وخدمات أخرى كل عام.
أما الصين فإنها تغلب لغة المصلحة المتبادلة والاحترام والمساواة، دون التدخل في شئون الآخرين، ودون شروط للحصول على المساعدات. وقد قامت الصين بالتعاون مع جيبوتي في مجال مكافحة فيروس كورونا المستجد، وقد أرسلت الصين فريقًا طبيًّا إلى جيبوتي لمساعدتها في مكافحة الفيروس، وقد منح رئيس الوزراء الجيبوتي “عبدالقادر كامل محمد” الوسام الوطني لـ12 عضوًا من الفريق الطبي الذي أرسلته الحكومة الصينية إلى جيبوتي لمساعدتها في مكافحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) في 10 مايو 2020، تقديرًا لمساهمتهم في مساعدة بلاده على مكافحة الفيروس.
وإجمالًا، تعمل جيبوتي على الحفاظ على أمنها باستغلال الفرص المتاحة أمامها لتعظيم حجم مكاسبها من أجل تحقيق أمنها والمحافظة على بقائها، ولذلك انتهجت جيبوتي سياسة “توازن المصالح” عند إدارة علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية والصين. وعلى الرغم من كونها دولة صغيرة فإنها استطاعت إدارة علاقاتها مع تلك القوى الكبرى بما يحقق مصالحها.