للتيار المحافظ في بلادنا سرديته الخاصة لتاريخنا. وفقا لهذه السردية فقد كان كل شيء لدينا يسير على ما يرام حتى جاءت الحملة الفرنسية، ومن ورائها الاستعمار الأوربي، فضعف الإيمان، ومسخت الهوية، واحتلت الأرض، ونهبت الثروة. الاستعمار عدوان ونهب، وليس مبادرة لفعل الخير، وليس مستغربا أن يكون له كل هذه التأثيرات. لكن المستغرب هو الاكتفاء بوضع اللوم على المستعمرين، ورفض الاعتراف بدور الأسلاف في تسهيل مهمة الاستعمار. أنا لا أتحدث عن خيانات ارتكبها قائد عسكري أو والي أو حتى سلطان، ولا أتحدث عن صراعات بين كل هؤلاء أضعفت الجبهة وفككت الوحدة؛ ما أتحدث عنه هو الهوة الحضارية التي ظلت تتسع بيننا وبين الغرب تدريجيا لقرون دون أن يلاحظها سلاطين ومشايخ ومماليك ظلوا راضين عن أنفسهم وعن حكوماتهم وعن طرائق تفكيرهم وإدارتهم للأمور، حتى وصل الغرب إلى ما وصل إليه من تفوق، ففوجئنا به فوق رؤوسنا.
لم تبدأ الأزمة صبيحة اليوم الأول من شهر يوليو عام 1798 عندما هبط الفرنسيون على شاطئ الإسكندرية، ولا بعد ذلك بأسابيع قليلة عندما دخلوا القاهرة المحروسة، لكنها بدأت قبل ذلك بكثير. العقل المحافظ مفتون بالقوة وبالتوسع العسكري، باعتباره العلامة الأعلى للحضارة، لأن السيف أصدق أنباء من الكتب. كان التوسع المتواصل في كل الاتجاهات هو السمة المميزة لدولة بني عثمان، آخر دولة خلافة إسلامية؛ التي كانت مرة تتوسع في بلاد المسلمين لتوحيدهم، ومرة تتوسع في بلاد غير المسلمين لنشر الدين الحق. وصلت دولة بني عثمان إلى ذروة توسعها في نهاية القرن السابع عشر، عندما أجبر السلطان العثماني لأول مرة على وضع توقيعه على معاهدة تلزمه باحترام الحدود القائمة والكف عن التوسع، كما لو كان عصر الفتح قد انتهى رغم أن بقاعا كثيرة لم تكن قد وصلتها الرسالة بعد. كانت تلك هي معاهدة كارلويتز التي أجبر العثمانيون على توقيعها عام 1699 بعد حرب خاضوها ضد تحالف من دول أوروبية قادته النمسا؛ وبعدها لم تعد دولة بني عثمان قادرة لا على مواصلة التوسع، ولا حتى الحفاظ على ممتلكاتها.
مائة عام كاملة تفصل بين كارلويتز وحملة بونابرت على مصر، وهي فترة أكثر من كافية لملاحظة التغيرات التي أتى بها العصر الجديد الذي بدأ في أوروبا، وللتكيف معه، والتحوط له، والاستعداد لمجابهته؛ لكن شيئا من هذا لم يحدث لأن السلاطين والمماليك والمشايخ كانوا ينكرون أن أي شيء قد تغير، مفضلين العيش في ذكريات الماضي الجميل.
كانت حضارتنا الإسلامية قد كفت عن إنتاج العلماء منذ فترة، فبعد ابن النفيس، المتوفي عام 1288 في القرن الثالث عشر، لا تذكر كتب التاريخ اسما واحدا لعالم بارز من جماعتنا، اللهم إلا ابن خلدون، المؤرخ وعالم الاجتماع الذي عاش في القرن الرابع عشر، وكتب عن صعود وسقوط الممالك، كما لو كان يقرأ الغيب.
انقطع سلسال العلماء عندنا، فيما واصل العسكر من رعاة بني عثمان الترك التوسع، فجاءت فتوحاتهم ضحلة الروح منزوعة الثقافة، حتى توقفت الفتوحات كما توقفت إبداعات العلماء من قبلها. حدث ذلك في نهاية القرن السابع عشر، أي في نهاية نفس القرن الذي انعطفت فيه أوروبا نحو الحداثة. فبينما كانت دولة بني عثمان تدخل في طور الركود على الطريق للاضمحلال، كانت أوروبا تحفر مسارا جديد للعلم والفكر، لم يعد العالم بعده كما كان قبله.
القرن السابع عشر في أوروبا هو قرن العالم جاليليو، عالم الفلك، الذي اخترع التلسكوب، فأتاح لنا مشاهدات تؤكد أن الشمس وليس الأرض هي مركز الكون، وأن الأرض تدور حول الشمس، وتدور أيضا حول نفسها، على عكس ما ظن الناس لقرون طويلة سابقة. القرن السابع عشر هو قرن إسحاق نيوتن، عالم الطبيعة والرياضيات، الذي اكتشف الجاذبية، ووضع القوانين الأولى لعلم الكتلة والحركة – الميكانيكا، والتي ظلت مهيمنة على المعرفة والإنتاج العلمي حتى القرن العشرين، عندما طور أينشتين نظرية النسبية.
القرن السابع عشر في أوروبا هو القرن الذي أرسيت فيه مبادئ التفكير العلمي على يد علماء وفلاسفة كبار، أشهرهم الانجليزي فرانسيس بيكون والفرنسي رينيه ديكارت، الآباء المؤسسين للنزعة العقلية في عصرنا. كتب فرانيسيس بيكون مدافعا عن الخبرة المادية المباشرة باعتبارها مصدر المعرفة، بدلا من الأفكار والأوهام مقطوعة الصلة بالوقع، التي غرق فيها الناس حتى ذلك الوقت. أكد ديكارت على أهمية التفكير الطازج الأصيل، الذي يخضع كل شيء للتساؤل والتحليل، بدلا من التسليم بأفكار غير مختبرة، دون وضعها على محك المساءلة العقلية. أنا أفكر إذا أنا موجود. من عند هذه النقطة انطلقت فلسفة ديكارت، التي أعلت شأن التفكير الواعي النشيط، في مقابل التصديق الخامل.
القرن السابع عشر هو القرن الذي ولد فيه أول برلمان منتخب في العصر الحديث. كان ذلك في انجلترا في أعقاب الحرب الأهلية التي انتهت عام 1651. في انجلترا القرن السابع عشر ولدت الأحزاب السياسية لأول مرة، واتجه الملك لاختيار وزرائه من أعضاء الحزب صاحب الأغلبية. حافظ البرلمان الانجليزي على وجوده ودوره بلا انقطاع منذ ذلك الحين، ومن هناك انتقل لبقية أوروبا والعالم.
هذا بعض من التغيير الكبير الذي حدث في أوربا في القرن السابع عشر، فهل تذكر أي شيء كبير حدث في بلادنا في القرن السابع عشر أو حتى الثامن عشر؟ الأمر يبدو كما لو كان تاريخنا دخل مرحلة صمت واضمحلال وركود، فبين الفتح العثماني لمصر عام 1516، والحملة الفرنسية عام 1798، لم تسجل كتب التاريخ سوى صراعات وانشقاقات المماليك، وتوالي الولاة، وفرمانات سلطانية فارغة. وبعد كل هذا يتحدث رموز التيار المحافظ كما لو أن كل شيء كان على ما يرام لولا الحملة الفرنسية، وكما لو كنا لا نحتاج سوى العودة إلى ما كنا عليه قبل حملة بونابرت، دون حاجة إلى صداع الحداثة. إننا فعلا نحتاج إلى إصلاح فكري عميق.
نقلا عن جريدة الأهرام، ١٣ فبراير ٢٠٢٠