تُعرف الأزمة بأنها نقطة تحول حرجة وحاسمة تستوجب مواجهة سريعة تحول دون تفاقمها. ولعل أبرز ما يميز الأزمات عن المشكلات التقليدية هو ضغط الوقت، والتحول الشديد والمتسارع للأحداث، وهو ما يعني وجوب القيام باستجابات استثنائية وسريعة. والحقيقة، فإن كيفية وتوقيت استجابة القادة والحكومات للأزمات المختلفة تُعد عاملًا حاسمًا تترتب عليه الكثير من النتائج، حيث يُعد “خطاب الأزمة”، وتوقيت إلقائه، وسياقه، ومفرداته، عاملًا حاسمًا في التأثير على الشعوب لدفعها نحو التعاون مع الحكومة والثقة فيها، أو العكس. بل إن هناك العديد من الباحثين والمحللين الذين يرون أن محتوى الرسالة السياسية قد يكون أكثر أهمية من عملية صنع القرار الفعلية، على الأقل فيما يتعلق بالإجماع العام والثقة.
وتستند أهمية ما يتحدث به القادة في أوقات الأزمات إلى تأثيرات هذا الحديث على اتجاهات العامة وحالتهم النفسية وسلوكياتهم، والأهم ثقتهم وتعاونهم. فعندما لا تواكب ردود فعل قادة الدول توقعات شعوبهم تحدث فجوة في المصداقية، يتبعها تراجع في معدلات الثقة. ومن هنا تبدو أهمية صياغة “خطاب الأزمة”.
وتُعد خطابات قادة الدول حيال أزمة انتشار وباء كورونا أو (كوفيد ١٩) مثالًا بارزًا على أهمية الاهتمام بـ”خطاب الأزمة”. تعود تلك الأهمية ليس فقط إلى وقوف الحكومات وقادة الدول في موقف حرج يستدعي اتخاذ إجراءات استثنائية وربما قاسية في بعض الأحيان، وإنما أيضًا لكون الخطاب السياسي في هذا التوقيت محدِّدًا لمدى تعاون الشعوب وتفهمها، واستعدادها لتحمل التكلفة الاقتصادية والاجتماعية والنفسية لما يُتخذ من إجراءات، والأهم ثقتها في أن ما يُتخذ من قرارات يهدف في المقام الأول والأخير لصالحها.
واستنادًا إلى تحليل محتوى خطابات عدد من أبرز قادة الدول خلال أزمة كورونا، يمكن أن نخرج بعدد من الاستنتاجات المهمة.
1- التوازن الصعب: متصل الخوف-الاستهانة
لعل أبرز إشكالية تواجه القادة في خطاب الأزمة التي تتضمن مخاطر مباشرة على بقاء الشعوب واستقرارها، تتمثل في إحداث توازن بين شفافية طرح المشكلة وتداعياتها من ناحية، وطمأنة الشعوب من ناحية أخرى. واستنادًا إلى أن رد الفعل الفطري للشعور بالخطر هو الخوف، هنا يكون لزامًا على المسئول شرح حجم الخطر، وفي الوقت نفسه امتصاص مشاعر الخوف التي قد تؤدي للفوضى. وقد نجح العديد من القادة في تحقيق هذه المعادلة الصعبة في خطاباتهم، منهم: الرئيس “عبدالفتاح السيسي” الذي استخدم جملًا مثل: “قادرون على التعامل مع أي تحدٍّ، لدينا الموارد ولدينا القدرات”، وبرز هذا التوازن في جمل بعينها، مثل: “اطمئنوا ولكن ساعدونا”، “ثقوا في أنفسكم وفينا، ولكن ساعدونا”.
والحقيقة أن خطاب المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” يُعد أيضًا نموذجًا بارزًا على هذا التوازن الناجح، فبعد أن بدأت خطابها بذكر مخاطر انتشار الفيروس بلغة متزنة، قالت: “أنا أومن بأننا سوف نتجاوز هذه المرحلة، إذا قام الجميع بأداء واجباتهم ومسئولياتهم تجاهها”، والتعبير اللافت: “نحن نستطيع، وسنفعل كل ما يلزم”. ولعل العامل المشترك الذي جمع بين رسائل “السيسي” و”ميركل” يتمثل في الجمع بين هدفي الطمأنة وكسب تضامن الشعب من خلال الحث على التعاون وتحمل المسئولية. والحقيقة أن تلك واحدة من أفضل سبل توصيل الرسالة في أوقات الأزمات، وهو “أن تجعل الطرف المتلقي شريكًا في الحل”.
على الجانب الأقصى، جاء خطاب رئيس الوزراء البريطاني “بوريس جونسون” الذي أطلقت عليه العديد من وسائل الإعلام اسم “الخطاب المرعب”. والحقيقة أن هذا الرعب قد تجاوز المملكة المتحدة وامتد إلى مختلف أنحاء العالم. إن خطابات “جونسون” تتسم بالمباشرة الشديدة، والصادمة أحيانًا، فقد أثار الرعب بعبارات مثل: “إن الأسوأ لم يبدأ بعد”، والجملة الأشهر “المزيد من العائلات ستفقد أحباءها”، وهو ما تبعه ذعر وقلق شديدان سادا بين جموع البريطانيين، لم يستطع في خطاباته التالية تداركه.
2- إذا لم يتسم خطاب الأزمة بالشفافية في جوانبه السلبية فلن تصدق إيجابياته
تعد الشفافية محدِّدًا رئيسيًّا للثقة، وإذا لم يكن القائد شفافًا بشأن الجانب السلبي من الأزمة فلن يتم تصديق النواحي الإيجابية من رسالته. وفي الوقت الذي لجأ فيه قادة العديد من الدول إلى إنكار وجود أزمة، مثل الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، الذي قال في منتصف شهر مارس الماضي: “إننا بخير وتم احتواء الخطر”؛ إلا أنه مع تفاقم الوضع اتجه نحو التنصل من المسئولية، وإلقاء اللوم على جهات أخرى. من جهة أخرى، اتسمت خطابات رئيس كوريا الجنوبية “مون جاي إن”، التي جاءت في ظل إدراك واستجابة سريعة للخطر، بالشفافية والوضوح؛ حيث قال إن “بلاده في حالة حرب مع فيروس كورونا المستجد”، وقدم اعتذاره للشعب لعدم توافر إمدادات كافية من الكمامات الطبية. كما قدمت المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” خطابًا اتسم بالشفافية الشديدة، حيث قالت: “أنا أكلمكم اليوم لأشرح لكم كيف تسير الأمور في ظل هذه الأوضاع غير المريحة”. ومن اللافت انتقاء المستشارة الألمانية للمصطلحات السلبية الأقل وطأة في خطابها. كما اتسم خطاب الرئيس “السيسي” أيضًا بالشفافية، وعرض خلال خطابه أرقامًا مفصلة ولكن بلغة مبسطة حول إمكانات الدولة واستعداداتها. كذلك، وفق رئيس الوزراء البريطاني عندما استعان بمستشاره العلمي في خطابه حول الأزمة.
3- أزمة التناقضات والتهوين في خطابات “أزمة كورونا”
لعل إحدى أبرز الثغرات التي تهدد تماسك خطاب الأزمة ومصداقيته تتمثل في “عدم الاتساق”. إن أي تناقضات أو رسائل متضاربة يحويها الخطاب يمكن أن تهدم مصداقيته. وبالنظر إلى خطابات قادة الدول أثناء أزمة وباء كورونا المستجد، نجد أن خطابات رئيس كوريا الجنوبية “مون جاي إن” كانت من أبرز الخطابات التي اتسمت بالاتساق. بينما ظهر عدم الاتساق في خطاب المرشد الإيراني، والذي رغم تأكيده على قدرة النظام الإيراني على التعامل مع الأزمة، نجد أن وزير الخارجية “محمد جواد ظريف” أطلق نداء عاجلًا عبر تويتر يُناشد فيه دول العالم مساعدة بلاده في مواجهة الفيروس.
ولعلّ عدم الاتساق بدا واضحًا في محتوى الخطابات التي ألقاها قادة بالغوا في التهوين من خطورة الفيروس في البداية، وصُدموا في التنامي المتسارع لانتشاره، وهو ما دفعهم إلى التراجع وتغيير لغة الخطاب، وهي الثغرة التي برزت بوضوح في مجمل الخطابات الأولى للرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، وفي إيران وبالتحديد في ٣ مارس عندما وصف المرشد الإيراني قضية كورونا بأنها “قضية عابرة وليست قضية استثنائية”، وأضاف: “مثل هذه الأحداث تقع في البلاد”. من جهة أخرى، وصف الرئيس البرازيلي فيروس كورونا بأنه “خيال”، معلنًا أن الفيروس ما هو “إلا إنفلونزا صغيرة”.
4- المتضررون والفئات الهشة في خطابات القادة حول فيروس كورونا
يتعين أن يتضمن خطاب الأزمة “حرصًا شخصيًا” من المسئول على متابعة أحوال الضحايا والفئات الهشة، والشرائح الأكثر تضررًا، وتوضيح أن لهم الأولوية القصوى في الاهتمام، وإبداء الاهتمام بالإنسان أولًا، وهو ما بدا بوضوح في خطابات الرئيس “السيسي”، والمستشارة الألمانية، ورئيس كوريا الجنوبية. بينما افتقر لهذا البُعد الإنساني خطاب الرئيس الأمريكي الذي قال: “لا يمكن أن تكون لدينا سياسة تنص على أننا سننقذ حياة كل إنسان بأي ثمن، بغض النظر عن عدد تريليونات الدولارات التي سنخسرها”.
احتوى خطاب رئيس كوريا الجنوبية “مون جاي إن” على خطة لدعم الفئات المتضررة من انتشار الفيروس، وأكد “مون” في ٢٤ مارس أن الحكومة ستكون بمثابة “حاجز قوي” لمنع الأزمة الضخمة التي تواجه الشركات في البلاد. وعلى الرغم من تركيز المرشد الإيراني على الضحايا، وقوله إن الموتى نالوا “أعلى درجات الموت والشهادة في سبيل الله”؛ إلا أن نصيب هذا البُعد في خطاباته كان ضئيلًا جدًّا مقارنة بالحديث الديني والسياسي، ولعل أبرز ما يتسم به خطاب المرشد الإيراني أنه صيغ في صورة “خطبة دينية”، إلا أنها قد تتسق مع السياق العام في الداخل الإيراني، وقد خصص حيزًا كبيرًا منها للإشادة بتضامن الأمة وتمجيد عمل الطاقم الطبي الإيراني، واصفًا إياهم بـ”المجاهدين”.
5- خطابات المؤامرة
هناك خطابات تبنت بوضوح “نظرية المؤامرة” عند الحديث عن أسباب انتشار الفيروس. والحقيقة أن هناك خطبًا كانت غير موفقة بالمرة لأنها أشعلت معارك سياسية جانبية، وهو ما ترتب عليه ليس فقط تشتيت الجمهور عن التركيز في الهدف الأهم وهو الالتزام بالتعليمات الصحية الضرورية للوقاية، بل الذهاب بعيدًا لفض إشكالات جانبية. فعندما تحدث الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” حول فيروس كورونا واصفًا إياه بـ”الفيروس الصيني” مرة و”الفيروس الأجنبي” مرة أخرى، انتفض الرأي العام الأمريكي، وثارت حالة من الجدل الداخلي، ومزيد من التوتر الخارجي. لقد تحدث الرئيس الأمريكي عن الفيروس كما لو كان جيشًا أجنبيًّا أو شبكة إرهابية، وقال: “لن تكون للفيروس فرصة ضدنا”، “لا توجد دولة أكثر استعدادًا أو أكثر مرونة من الولايات المتحدة”.
وقام المرشد الإيراني أيضًا بالحديث عن نظرية مؤامرة تطرق خلالها إلى الحرب البيولوجية/ الجينية الأمريكية ضد إيران. والحقيقة أن نظرية المؤامرة حاضرة بصورة مستمرة في خطابات المرشد الإيراني “علي خامنئي”، حيث ربط بين فيروس كورونا وما وصفه بـ”مؤامرة الأعداء”، معتبرًا أن “أعداء” إيران حاولوا تضخيم الحملات الدعائية لترهيب الإيرانيين وثنيهم عن المشاركة في الانتخابات التشريعية، وذلك وسط أنباء عن ضعف الإقبال على صناديق الاقتراع. وخاطب الشعب الإيراني قائلًا: “علينا جميعًا أمام مؤامرات العدوّ الرامية إلى توجيه ضربة لمختلف أركان البلاد، أن نكون جاهزين للدفاع الواعي، ومستعدّين لتوجيه الضربات والهجوم المعاكس”.
6- الدعاية السياسية والأنا
من أسوأ خطابات الأزمة تلك الخطابات التي تُصاغ بهدف تقديم دعاية سياسية مباشرة في وقت الأزمة. ففي الوقت الذي يتوقع فيه المواطنون من المسئول أن يكون جل اهتمامه وتركيزه ينصب على سلامتهم، وسبل خروجهم الآمن من الأزمة؛ فإنهم يصدمون في حال تحول تركيز الخطاب إلى “الدعاية السياسية” الصريحة للمسئول. ولعل خطابات الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” في بداية الأزمة لم تكن موفّقة، كونها كانت تُصاغ بدافع الخوف على “المستقبل السياسي” مع قرب الانتخابات الرئاسية. ففي مقابلة مع شبكة “فوكس نيوز” في ١١ أبريل، كرر “ترامب” موقفه بأن عمليات الإغلاق في أجزاء كبيرة من البلاد تضر للغاية بالصحة الاقتصادية للبلاد، حتى لو ساعدت في حماية السكان. وقال “ترامب”: “بلدنا لم يُبنَ ليُغلق”. أيضًا صاحب خطاب المرشد العام دعاية سياسية مكثفة وتشتت في الحديث عن قضايا سياسية عدة.
ولعل أسوأ الصياغات التي يمكن أن تُطرح في خطاب الأزمة تلك الصياغات التي تعتمد على “الأنا”، لأن ما تفرضه الأزمات من تحديات تستدعي تعميق الشعور بـ”نحن”، وهذا ما جعل خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” غير موفق، فقد تكررت العبارات التي تجعل منه محور حل الأزمة مع تهميش جميع المحاور الأخرى. نجده على سبيل المثال يقول: “أنوي طرح 5 خطوات”، “أنوي تجديد جيش الدفاع”، “أخطط لإنشاء صندوق ائتمان”، “سأجند المراهقين”، “سنستخدم العلاقات التي تربطني بقادة بعض الدول”.
7- العاطفة السياسية وتأثيرها على مصداقية الخطاب السياسي
افتقر خطاب الرئيس “دونالد ترامب” إلى التعاطف، واتسم بالجمود، ليس فقط مع الشعب الأمريكي في ظل المعاناة من الفيروس، ولكن أيضًا مع الحلفاء من الدول الأخرى، فاتجه إلى تصويب الاتهامات للاتحاد الأوروبي والصين، كما صوب الاتهامات إلى حكام الولايات، وحتى العاملين في الأطقم الطبية. وكذلك خطابات رئيس الوزراء البريطاني، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، وكذلك المرشد الإيراني، إذ افتقرت جميعها للعاطفة السياسية وإظهار الانشغال بالأوضاع الإنسانية. من جهة أخرى، بدا خطاب المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” يتسم بذكاء عاطفي، وتوظيف موفق للجمل وصياغاتها، مثل: “شكرًا للأشخاص الذين نادرًا ما نوفيهم حقهم من الشكر”، “أعرف مدى صعوبة تطبيق ما يُطلب منا القيام به، فنحن نريد أن نكون قريبين من بعضنا البعض وخاصة في أوقات الحاجة”، “المسافات الآن هي التعبير عن رعايتنا وحبنا”، واختتمت خطابها بجملة “اعتنوا بأنفسكم وبأحبائكم”.
ولعل أبرز ما يميز خطاب الرئيس “السيسي” في هذا البعد، أنه اتسم بعدم التكلف والصياغة المنمقة؛ بل كان خطابًا وديًّا، كرر فيه كلمة “اطمئنوا” مرات عدة، وأبدى تفهمًا كبيرًا لمشكلات العمالة غير المنتظمة، واهتمامًا وإشادة كبيرة بالأطباء وأطقم التمريض. ولم يقتصر دعمه على الدعم اللفظي، وإنما صحبه بإجراءات، تضمنت امتيازات مادية للأطقم الطبية، في وقت تتكبد فيه الدولة المصرية تكلفة اقتصادية ضخمة.