كشف لقاء مجموعة الأزمات Crisis group، ومركز الحوار الإنساني في جنيف، مع زعيم تنظيم “هيئة تحرير الشام” -جبهة “النصرة” سابقًا الموالية للقاعدة- الإرهابي “أبو محمد الجولاني”، عن اتجاه توظيفي جديد لعناصر التنظيمات الإرهابية، وإعادة تشكيل ورسم صورتها لتبدو كمجموعات معارضة داخلية، وأنها مكون سياسي-اجتماعي سوري يجب أن ينخرط في التسويات المستقبلية للأزمة. ويحقق هذا المخطط للدول المستثمرة في تلك التنظيمات فرصة الإبقاء عليها ووجودها فاعلةً بالأزمة، ومواليةً لها بما يضمن اتساق الأنشطة والبرامج السياسية والاجتماعية في المناطق السورية، خاصة مناطق اهتمامها، وأهدافها التي تفاوتت درجات انخراطها في الصراع السوري سابقًا لتحقيقها.
اللقاء بدا محاولة لتوجيه جُملة من الرسائل إلى الأطراف الفاعلة بالأزمة السورية، وهو ما ظهر جليًّا في تعليقات “الجولاني” على القضايا التي ركز عليها الحوار، وكان أهمها التأكيد على إكمال التنظيم “المراجعة الفكرية” وعدوله عن السلوك المتطرف.
طرح اللقاء فكرة رئيسية مفادها أن السيطرة على محافظة إدلب بيد “هيئة تحرير الشام”، وأنها تضم عشرات الآلاف من المقاتلين، بالإضافة إلى قدرات عسكرية كبيرة، وأن محاولة دمشق وموسكو انتزاع المحافظة من الجبهة ستكون صعبة ومُكلّفة جدًّا، وستقود إلى كارثة إنسانية كبرى تهدد ملايين السوريين، وتعمق الضغوط على أنقرة المهدَّدة بموجات نزوح جديدة، وهو ما كان مدخلًا لطرح سيناريو بالغ الخطورة، حيث تساءل التقرير حول إمكانية حدوث أية تسوية مع هيئة تحرير الشام، بمعنى أن تصبح طرفًا في العملية السياسية، ويتم التفاوض معها لتسوية الأوضاع في محافظة إدلب.
واستكمالًا للطرح السابق، حاول “أبو محمد الجولاني” إظهار نموذج لما أصبحت عليه الهيئة كمجموعة معارضة أجرت مُراجعة فكرية، وأنها تخلت عن اعتناق أفكار السلفية الجهادية العابرة للحدود، وانفصالها عن هياكل تنظيم القاعدة -الذي أعلنت مبايعته بعد انفصالها عن تنظيم “داعش”- وأنها صارت “مجموعة محلية مستقلة” تتبنى أجندة سورية خالصة، وتقوم على الفقه الإسلامي كأي مجموعة إسلامية سنية محلية أخرى في سوريا، ويقتصر نشاطها على معارضة النظام السوري فقط.
كذلك، أبرز “الجولاني” التحول في نشاط هيئة تحرير الشام، مثل طرده العناصر غير السورية وذوي الأفكار المتشددة داخل الهيئة، والتأكيد على أنها تعمل على مواجهة خلايا تنظيم “داعش” وإنهاء وجوده في مناطق وجودها، والتنسيق مع تنظيم “حراس الدين” -فرع القاعدة بإدلب- لضمان التزامه بعدم استخدام سوريا كنقطة انطلاق لأية عمليات تستهدف دول الجوار، ووقف أي أنشطة تُعد امتدادًا لسلوك التنظيمات التكفيرية بالمحاكم الشرعية، وهو ما تم أيضًا مع عناصر الحزب الإسلامي التركستاني.
وترمي تلك التصريحات المتعلقة بضبط العلاقة بين “تحرير الشام” و”حراس الدين” إلى تسليط الضوء على غياب الحالة الصراعية بين التنظيمات الإرهابية في إدلب، والتي تكررت فصولها في وقائع سابقة كان آخرها إقدام مجموعة تنتمي إلى “حراس الدين” على اختطاف قيادي في “الهيئة”، في 12 ديسمبر 2019، ردًّا على اعتقال الأخيرة عددًا من عناصرها عند حاجز باتبو شمال المحافظة، وهو ما تطور إلى مواجهة مباشرة بين الطرفين خلال مداهمة قوة من عناصر “تحرير الشام” مقرًّا تابعًا لـ”حراس الدين”، وبذلك يُمكن التعويل على “الجولاني” وهيئته في تشكيل نموذج لتعايش تلك المجموعات في إدلب دون تخوفات من نشوب اقتتال بين تلك التنظيمات، وهو ما أكده بيان قيادة تنظيم “حراس الدين” في ديسمبر 2019 الذي دعا فيه “هيئة تحرير الشام” ومجموعات “حراس الدين” إلى الصلح وحل الخلافات والتركيز على مواجهة العدو المشترك.
كما سعى “الجولاني” لإيضاح طبيعة النظام الإداري الجاري تدعيمه بنطاق إدلب، حيث أكد أن “حكومة الإنقاذ” -الحكومة المحلية التي شكلتها هيئة تحرير الشام- هي القائمة على إدارة الشئون اليومية للمحافظة، وأن “تحرير الشام” هي مكون محلي تربطه علاقة تنظيمية بـ”حكومة الإنقاذ” المحلية، وأن الهيئة لا تسيطر عليها، وإنما دورها -الهيئة- هو الفصل في المسائل الأمنية والعسكرية كون المحافظة “في حالة حرب” ولكن القرار الخاص في الإدارة المدنية بيد “الإنقاذ”. وعلى صعيد التجنيد السياسي والتعبئة لصالح “جبهة الجولاني”، فقد نفى “أبو محمد” عمله على تدشين حكم الحزب الواحد بإدلب، ودعا المكونات الأخرى للانضمام إلى حكومة الإنقاذ.
وقد اتسق مع رسائل “الجولاني” السابقة قوله بأن “هيئة تحرير الشام” هي مشروع بُني في ظل ظروف معينة ولن يستمر إلى الأبد، وليست لديه خطة مسبقة طويلة الأمد، مشيرًا إلى أن الخطة متوسطة المدى تتمثل في تحقيق الاستقرار في مناطق سيطرته وإدارتها من خلال تحالف مع القوى الثورية السورية المحلية الملتزمة بحماية إدلب. ولكنه لم يُغفل التلويح بإمكانية إنشاء بيان سياسي يُعبر عن هوية تلك القوى المتحالفة. وهنا يكمُن الخطر الناشئ على مستقبل الدولة السورية ووحدتها؛ إذ يكشف ذلك عن ترتيبات لإعادة إنتاج هجين متطرف يسيطر على مساحات من الأرض وملايين السوريين، وتصويره كفصيل سياسي يحظى بتأييد قاطني تلك المناطق، وهو ما يهدد بقيام “ولاية خفية” داخل الكيان السوري تهدد وحدته واستقراره ومستقبله.
وجدير بالذكر أن العديد من التقارير أشارت إلى أن هيئة تحرير الشام تتبنى منذ ديسمبر الماضي منهجًا جديدًا لإدارة محافظة إدلب بشكل يتلاءم وعملية إعادة صياغة المشهد داخلها، بما يجعلها مؤهلة لتبرز كقوة سياسية واجتماعية موحدة، ومحو الصورة السائدة عن سيطرة تنظيمات ومجموعات مسلحة على إدلب؛ لتصبح إدارة المنطقة بشكل نهائي بين يديها، وخفض فرص نشوب أي عمل عسكري من جانب موسكو أو دمشق ضدها بهدف “الحرب على الإرهاب”. ومن أبرز تلك الخطى السعي لتشكيل كيان عسكري موحد بقيادة ضابط من الضباط المنشقين عن النظام السوري والملتحقين بـ”الجيش الحر” أو “فيلق الشام”، وأن يملك المجلس العسكري قرار السلم والحرب في الشمال السوري، ثم تحل “تحرير الشام” نفسها وتندمج في هذا الكيان، إلى جانب تشكيل حكومة مدنية بعد إجراء تعديلات على جسم “حكومة الإنقاذ”.
ومما سبق، يمكن القول إن عملية إعادة تشكيل التنظيمات الإرهابية في سوريا لتصبح فصيلًا سياسيًّا اجتماعيًّا ستستمر بشكل أوسع وعلى مستويات متعددة بالداخل السوري وخارجه، وبمرور دمشق بتداعيات ما بعد القتال الدائر منذ أكثر من ثماني سنوات، قد تتيح الضغوط الاقتصادية والاجتماعية وحالة السيولة الأمنية في بعض مناطق شمال غرب سورية، لقيادات وعناصر تلك المجموعات فرض وجودها داخل تلك المناطق، ما يمكن أن يصل ببعضهم إلى شغل أيٍّ من المناصب أو المراكز السياسية حال إجراء استحقاقات في الفترة القادمة. وتكمُن خطورة ذلك التحول في شرعنة وجود تلك الكيانات وتحولها إلى أجسام ممارسة للعمل السياسي، وإبقائها على ولائها للدول التي أوجدتها ودعمتها وتستمر في رعايتها، ويبدأ تحدٍّ أخطر للدولة السورية بتغلغل تلك العناصر في أجهزة ومؤسسات الدولة مستقبلًا، وعملها فيما هو قادم لتصبح مناطق سيطرتها “ولاية خفية” تحتضن الفكر المتطرف الذي قامت عليه في صورتها الأولى.