فى الخامس والعشرين من إبريل الجارى تحل الذكرى الثامنة والثلاثين لتحرير سيناء من العدو الصهيونى، وفى التاسع عشر من مارس 1989 تم رفع العلم المصرى على طابا بعد صدور حكم هيئة التحكيم الدولية بأن طابا مصرية. وما بين التاريخين دارت معركة قانونية على أعلى مستوى من قبل أساتذة قانون دولى مصريين برئاسة الدكتور وحيد رأفت فى مواجهة نظرائهم الإسرائيليين، قدموا فيها كل الوثائق والأسانيد والخرائط الموثقة التي تثبت مصرية طابا. كان التشبث بطابا تجسيدا لعقيدة مصرية راسخة بعدم التنازل عن شبر واحد من الأرض المصرية مهما كانت الضغوط والمغريات التى استخدمت ليس فقط طوال السنوات السبع التى شهدت المعركة القانونية، ولكن أيضا قبل العدوان الإسرائيلى فى 1967 بسنوات طويلة، أبرزها العدوان الثلاثى 1956 بمشاركة بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، عقب قرار الرئيس عبد الناصر تأميم قناة السويس لصالح الدولة المصرية، وهو العدوان الذى استهدف فصل سيناء عن مصر ووضعها تحت وصاية دولية ومعها قناة السويس بحجة أن القرار المصرى ليس قانونيا.
الضغوط التى تعرضت لها مصر بشأن سيناء كثيرة عبر التاريخ، والحروب التى خاضها المصريون لحماية سيناء يكتب من أجلها مجلدات بآلاف الصفحات، والدماء المصرية الطاهرة التى سالت من أجل كل حبة رمل لا تقدر بأموال الدنيا كلها. وحبات العرق التى سالت على وجوه العمال المصريين من أجل تنمية سيناء وأمنها تشهد على عمق الصلة بين كل مصرى وكل ذرة تراب فى سيناء.
كثير من الذين عاشوا سنوات الحرب والتحرير والبناء يدركون ماذا تعنى سيناء للوطن. المسألة ليست قطعة أرض يذهب إليها بعض المصريين والسائحون من أجل الفسحة والتمتع صيفا أو شتاء، أو منطقة شاسعة حباها الله تعالى بالعديد من الثروات الطبيعية، أو أرض شهدت معارك حربية تعد دروسا فى التكتيك الحربى تنكب عليها المعاهد العسكرية الكبرى فى العالم للاستفادة منها، أو مكان يشهد بين الحين والآخر عمليات إرهابية تحفزها وتديرها مخابرات عاتية تستهدف تراب مصر وأمنها أو على الأقل إشغالها عن طموحها فى التنمية والأمن والانطلاق نحو مستقبل زاهر.. سيناء كل ذلك معا. هى وطن وطموح وتحدى مهما كان الثمن.
وقت أن عانت مصر سنوات من الفوضى بعد العام 2011، وظهر رافعو الرايات السوداء فى شوارع مدينة العريش، ملوحين بالأسلحة فى وجوه المصريين ومعلنين عن وجودهم وتخطيطهم لإقامة بؤرة إرهابية تفصل جزءا من سيناء عن الوطن، لم يكن الأمر سهلا على المصريين جميعا، سواء الذين يعيشون فى العريش وما حولها، أو جموع المصريين ككل. ولم يكن الأمر عابرا بالنسبة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة والذى كان يدير البلاد فى تلك الأيام الصعبة. لكن الشئ الذي أثبتته الأيام أن هؤلاء الإرهابيين وأيا كان عددهم، وأيا كان من يخطط لهم أو يحفزهم بالأموال والسلاح والدعاية السوداء، ليسوا إلا نتوءا عابرا فى تاريخ مصر، لن يستمر سوى لحظات عابرة ومصيره الفناء وأصحابة إلى مزبلة التاريخ.
حين أستعادت مصر تماسكها بعد عام الحسرة فى ظل الإخوان المأجورين، استردت مصر روحها المسلوبة. لم يكن ثمة تردد فى أن الأولوية هى فى مواجهة الإرهاب جنبا الى جنب التنمية الشاملة. ولما كانت سيناء تشهد الشق الأكبر من عمليات الإرهاب الأسود، كانت المعادلة التى رفعتها الدولة المصرية بكل مؤسساتها واضحة تماما، فبدون مواجهة الإرهاب فى كل سيناء لن تكون هناك تنمية، وبدون تنمية لن يكون هناك استقرار، وبدون استقرار سيعود الإرهاب والتوتر. كان من الضرورى أن تثبت الدولة المصرية أن الارهاب لا مكان له فى أى قطعة من أرض الوطن. ومن الضرورى أيضا أن تؤكد قوة الإرادة والاستعداد بالتضحية لتحرير سيناء ليس فقط من المجموعات الارهابية الذين سيتم القضاء عليهم مهما مر الوقت، بل من أية فكرة مريضة قد تراود أحدهم فى الداخل أو فى الخارج بأن سيناء أو جزءً منها، صغيرا أو كبيرا، يمكن استقطاعه لأى سبب كان، أو يمكن أن يخرج عن سيادة الدولة المصرية.
بدأ الحراك الأكبر لتنمية سيناء فى العام 2015 مع انشاء الجهاز الوطنى لتنمية سيناء، الذي أوُكل إليه مهام التخطيط والتنسيق والمتابعة لتنمية شبه جزيرة سيناء، ثم القرار بقانون رقم 95 لسنة 2015 بتعديل بعض أحكام الجهاز الوطنى لتنمية سيناء، بما سمح بمعاملة بعض المناطق وفق شروط معينة كمناطق اقتصادية ذات طبيعة خاصة تخضع للقانون الصادر عام 2002 وتعديله الصادر عام 2015. وهو ما يطبق على المنطقة الاقتصادية الخاصة فى محور قناة السويس.
وفى السابع من مارس 2016 أطلق الرئيس عبد الفتاح السيسى رؤية شاملة للتنمية المتكاملة والشاملة فى سيناء خصص لها 10 مليارات جنيه لانشاء مجتمعات عمرانية متكاملة، تشمل شبكة طرق وكبارى بطول 1500 كم، وتطوير المحاور الرئيسيّة وبناء مطارين فى المليز ورأس سدر، وإنشاء تجمّعات بدويّة يحوي كلّ تجمّع منها على 150 بيتاً بدويّاً و500 فدّان زراعيّ، بهدف تشكيل مجتمع عمرانيّ متكامل لأبناء سيناء فى الشمال والجنوب والوسط. ويضاف الى ذلك إقامة ستة أنفاق موزعة على محاور مختلفة لربط سيناء بالوطن الأم فى الإسماعيلية وجنوب بورسعيد وشمال مدينة السويس، مع انشاء مدن جديدة فى سيناء فى مواجهة هذه المدن الثلاث، وعدة جامعات ومراكز تدريب.
الرؤية لا تخفى على أحد، قوامها تكوين وإنشاء تجمعات سكنية تنهى فكرة أن سيناء أرض فارغة من السكان أو محدودة السكان، ويرتبط بذلك أن تكون تلك التجمعات السكنية متكاملة الأنشطة ما بين زراعة وتصنيع وخدمات وتجارة، وتلك بدورها عناصر جذب للمصريين جميعا للانتقال إلى تلك التجمعات المتكاملة، للعيش سويا مع سكان سيناء، ما يغير نمط الحياة من جانب، ويطرح مفهوما جديدا للأمن القومى جهة الشمال الشرقى لمصر من جانب أخر.
لقد عبر المصريون عن صلتهم العميقة بسيناء وتنميتها وأمنها حين طالب الرئيس السيسى الشعب 2014 بأن يكون هو الممول الوحيد لشق قناة السويس الجديدة، والتى تدشن بدورها مسارا جديدا لعلاقة الأمن والتنمية. لم يخذل المصريون قائدهم، وفى أقل من أسبوعين قدموا 64 مليارا من الجنيهات، ولم يمر سوى عام واحد، وإذا بالقناة الجديدة تفتتح فى أغسطس 2015 كحقيقة تفقأ أعين المتشككين، وحولها منطقة اقتصادية استثمارية واعدة، وفى الآن نفسه مفهوم جديد تماما للدفاع عن الأرض المصرية وأساليب جديدة لتحركات القوات حين الضرورة. إنه درس فى الانتماء الوطنى لكل من لا يدرك أصلا، أو غاب عنه الفهم لسبب أو لآخر. وستظل سيناء مصرية يحميها المصريون فى كل زمان.
نقلا عن مجلة الأهرام العربي، 25 أبريل 2020