في الوقت الذي يناقش فيه كثيرون سيناريوهات وسبل التعامل مع أزمة تفشي فيروس كورونا المستجد عالميًّا، يناقش آخرون سيناريوهات ما بعد انتهاء الأزمة من حيث شكل العالم بعد هذا الوباء في ظل آثاره الاقتصادية أو السياسية أو حتى الاجتماعية. والحقيقة أنه قلّما أثارت واقعةٌ عالميةٌ ذلك القدر من النقاشات، حول شكل العالم مستقبلًا وبنية نظامه الدولي ومستقبل العولمة الاقتصادية به، مثلما فعلت جائحة فيروس كورونا المستجد. وقد تعددت آراء المراقبين والمهتمين بالمجال العام بين عدة سيناريوهات. ونستعرض في هذا المقال السيناريوهات المطروحة لشكل العالم بعد انتهاء أزمة كورونا.
السيناريو الأول- “العالم أكثر شراسة”.. مزيدٌ من الصراع والانغلاق الداخلي
يفترض أنصار هذا الرأي أن شكل العلاقات الدولية سيتغير بعد انتهاء هذه الأزمة، لتصبح الدول أكثر قوة وسيطرة لتأكيد دورها في حماية شعوبها؛ وبالتالي ستتجه للانغلاق داخليًّا، وستقل مساحة الحرية داخل هذه البلاد. وأيضًا الاتجاه نحو التسارع في حركة التحول من التجارة الحرة والعولمة صوب الحمائية. وقد يفسر ذلك ما يحدث حاليًّا في هذه الأزمة من ضعف سلاسل التوريد العالمية، مما يدعو إلى تعزيز الاكتفاء الذاتي.
لقد كشفت أزمة تفشي الفيروس عن نقاط الضعف في عملية الإنتاج المعولمة، أو العولمة الاقتصادية بشكل عام، حيث تعطلت سلاسل الإنتاج الموزعة على أكثر من بلد نتيجة لتفشيه في بلد ما. على سبيل المثال، تضررت الولايات المتحدة منذ بدء الأزمة في الصين نظرًا لتوقف مصانعها، سواء توقفت توقفًا جزئيًا أو كليًا، مما أثر على إنتاجها ودخلها القومي، وبالتالي من المتوقع بعد انتهاء الأزمة أن يُعاد النظر في تشكيل وتنظيم سلاسل الإنتاج عالميًّا.
أيضًا قد لا ترغب بعض الدول في الاعتماد على غيرها في إنتاج سلع أصبحت ضرورية بعد هذه الأزمة، مثل المستلزمات الطبية، وبالتالي سيُعاد ترتيب أولويات إنفاق الدول، لعدم الاعتماد في وارداتها على سلع مهمة كالكمامات وألبسة الوقاية للأطقم الطبية وأجهزة التنفس الصناعي. ويدعم أصحاب هذا الرأي موقفهم بالنقص الحاد الذي شهدته بعض الدول الكبرى في المستلزمات الطبية، كإيطاليا، وبريطانيا، وإسبانيا، وتأخر هذه الإمدادات من الاتحاد الأوروبي.
ويتوقع أصحاب هذا الرأي أيضًا المزيد من الصراعات والانقسامات حول العالم بعد انتهاء الأزمة، بين قوى ذات نفوذ اقتصادي تهيمن على العلاقات الاقتصادية والتجارية، وقوى أخرى تسعى لكسر الأولى، الأمر الذي يضع فكرة العولمة محل اختبار حقيقي لما بعد كورونا. مبررين ذلك بنواة الصراع الحالية من حيث تبادل الاتهامات عن المسئولية تجاه نشأة الفيروس والتسبب في انتشاره عالميًّا، فالرئيس “ترامب” اتهم الصين بأنها المسئولة عن نشأة ما أسماه “الفيروس الصيني”. كما عزا بعض المسئولين الأمريكيين انتشار الفيروس إلى امتناع الصين عن الإبلاغ عنه وإخفائه حتى وقت متأخر. وعلى الجانب الآخر من تبادل الاتهامات؛ اتهم مسئول صيني الولايات المتحدة بأنها من تسبب في انتشار الفيروس في الصين بعد مشاركة البعثة الأمريكية في دورة الألعاب العسكرية المنعقدة في ولاية ووهان في أكتوبر 2019.
ويستند أنصار هذا الرأي إلى الخلافات بين الولايات المتحدة والصين خلال الفترة الماضية، حيث تخوض الولايات المتحدة حربًا اقتصادية مع الصين، بجانب روسيا وإيران، حيث مر ما يقرب من عامين على انطلاق الحرب التجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، والتي انطلقت أولى شراراتها في عام 2018، حينما أعلن “ترامب” فرض رسوم وضرائب بقيمة 25% على 818 منتجًا صينيًّا مستوردًا بقيمة 34 مليار دولار؛ ما نتج عنه رد الصين في اليوم نفسه بفرض تعريفة جمركية بنسبة 25% على 545 سلعة أمريكية المنشأ بقيمة 34 مليار دولار.
واستمرت المعارك التجارية بين الطرفين خلال العامين الماضيين، وشهدت مراحل من التصعيد والإعلان عن فشل المفاوضات البينية، إلى أن اتفق الطرفان على عقد هدنة وذلك قبل تفشي فيروس كورونا عالميًّا. ومع مطلع العام الجاري، أعلن “ترامب” عن توقيع المرحلة الأولى من الاتفاق التجاري مع الصين، في 15 يناير الماضي. وأدت هذه الحرب التجارية المتبادلة إلى تباطؤ معدلات التجارة العالمية وانخفاض الناتج الإجمالي العالمي.
السيناريو الثاني- “العالم أكثر تسامحًا”.. مزيدٌ من التعاون والتكامل الاقتصادي
يتوقع أنصار هذا السيناريو أن يسود العالم مزيد من التعاون والتكامل الاقتصادي، مبررين ذلك بأنه بالرغم من تأخر الاتحاد الأوروبي في تقديم الإمدادات لدولة مثل إيطاليا؛ إلا أنه قام بتطبيق تدابير دعم لدوله الأعضاء المتأثرة بالوباء. وأيضًا على مستوى العلاقات بين الدول الأعضاء، نلاحظ إرسال فرنسا بعض مرضاها من الفيروس لتلقي العلاج في ألمانيا.
كما أنه بالرغم من الخلافات الحالية بين الصين والولايات المتحدة وتبادل الاتهامات فيما بينهما؛ إلا أنها لم تمنع شراء الولايات المتحدة للكمامات من الصين عندما اشتدت آثار الفيروس بها حاليًّا، وحتى قبل انتشار الفيروس وأثناء الخلافات بينهما لم يمنع ذلك تبادل السلع بينهما رغم ما يتخلله هذا التعاون من حرب تجارية، كما أنه لم يتضح بعد ما إذا كانت الشركات الأمريكية على استعداد للتضحية بالسوق الصينية الضخمة، ناهيك عن قدرتها على إيجاد أماكن بديلة لتصنيع منتجاتها. كما أن الشركات الصينية أيضًا لها مصالح في الأسواق الأوروبية، ولا تبدو أوروبا في الوقت الحالي مستعدة للتضحية بالعلاقات الاقتصادية مع الصين.
وبالتالي، يرى أصحاب هذا الرأي ضرورة إعادة النظر في القواعد الحاكمة للعولمة لزيادة التقارب والتشابك عالميًّا، حتى لا توسع حرية انتقال رؤوس الأموال والتجارة الهوة بين الدول المتقدمة والنامية، ولا تحرم هذه الدول من تحقيق النمو الاقتصادي، بل يجب المساعدة في تمكنها من ذلك.
السيناريو الثالث- بقاء الوضع على ما هو عليه
يفترض أصحاب هذا الرأي أن الحديث عن مزيد من الانقسامات أو المزيد من التعاون هو شيء لا حظّ له من المنطق، وأن افتراض أن الأزمة قد تقود إلى تعديل بعض آليات الإنفاق العام، وتعظيم مخصصات الصحة، على حساب السياسة والتسليح، أمر ينطوي على قدر من التبسيط المخل، وأن كل ذلك نفكر فيه بدافع الخوف الحالي من الفيروس، سواء على مستوى الدول أو الأفراد، فهي كما اعتبروها “أزمة طازجة”، “وقد لا تتعدى الآثار المحتملة للوباء حالة السخونة التي يحتفظ بها الجسم لأيام بعد الحمّى، ومع استعادة الحرارة الطبيعية ستتكشف الصورة وتسقط كل أوهام ما بعد كورونا!”.
ووفقًا لأنصار هذا السيناريو أيضًا، سيعقب انتهاء الأزمة المزيد من تسارع وتيرة الإنتاج كما كانت قبل الأزمة، نظرًا لتعطش الأسواق، خاصة من السلع الكمالية والاستهلاكية، وبالتالي سيزداد الإنفاق الاستهلاكي، وتتراجع معدلات الادخار، وقد لا تنمو قطاعات الصحة والبحث العلمي بأكثر من معدلاتها الطبيعية ووتيرة نموها المعتادة.
أخيرًا، يرى بعض المراقبين أنه أيًّا كان السيناريو المتحقق بعد هذه الأزمة، من حيث شكل العالم، وبنية نظامه الدولي؛ فلا بد من التعلم من هذا الدرس وإعادة الاعتبار للأدوار التي تلعبها الدولة وزيادة الإنفاق عليها، بما في ذلك الإنفاق على الصحة العامة، والتعليم، والإسكان، والتشغيل؛ لأن الارتفاع بمستويات المواطنين في هذه المجالات هو الكفيل بمقاومة الأوبئة وغيرها من أزمات ستواجه البشرية، بلا تفرقة بين المميزين فيها والمميز ضدهم.
وبرغم الدرجة العالية من التأثير المتبادل الذي يجسده الواقع العالمي الجديد؛ تظل الدولة هي خط الدفاع الأول أمام المخاطر العابرة للحدود، وترتبط كفاءة جهودها في مواجهة مثل هذه الأزمات بقوة البنية التحتية، والخبرات العلمية، والقدرات الحكومية المتاحة لها.