أفرجت السلطات القضائية العراقية (9 يونيو 2021) عن “قاسم مصلح” قائد عمليات الأنبار بهيئة الحشد الشعبي، بعد اعتقاله بنحو (15) يومًا، على خلفية اتهامه بقضايا تندرج ضمن الجرائم المنصوص عليها بالمادة (4) من قانون الإرهاب. وقد أثارت قضية “مُصلح” جدلًا كبيرًا بالداخل العراقي، وأعادت للواجهة الحديث عن موقف حكومة الكاظمي من الفصائل المسلحة، وما إذا كانت تلك الواقعة مدخلًا لإعادة صياغة علاقة الحشد الشعبي والدولة، وتأثيرات مواقف الكتل السياسية وفصائل الحشد من اعتقاله على مسار العملية الانتخابية.
ملامح الأزمة.. من الاعتقال إلى الإفراج
أعلنت السلطات العراقية (26 مايو 2021) اعتقال “قاسم مُصلح” على خلفية اتهامه بجرائم جنائية (وفقًا لبيان خلية الإعلام الأمني)، وبناء على شكاوى مُقدمة ضده تندرج تحت المادة (4) إرهاب (وفقًا لبيان رئيس الوزراء). وأكدت البيانات الرسمية أن الاعتقال نفذته قوة خاصة من الجيش، بأمر مباشر من القائد العام للقوات المسلحة “مصطفى الكاظمي”. وأن “مُصلح” احتُجز بعهدة قيادة العمليات المُشتركة، وجرى التحقيق معه وفق السياقات القانونية، وتولته لجنة تحقيق مشتركة.
ويُعد القيادي “قاسم مُصلح” أحد أبرز قيادات الحشد الشعبي، وعنصرًا ذا ثقل كبير داخل الهيئة؛ إذ يتولى قيادة عمليات الحشد بمحافظة الأنبار منذ عام 2017، وهو قطاع عمليات بالغ الأهمية، كونها منطقة تماس حدودي مع الأردن وسورية والسعودية، ومن أبرز المناطق التي تنشط فيها خلايا تنظيم داعش، بالإضافة لكونها منطقة مواجهة متكررة بين القوات الأمريكية والإيرانية باعتبارها ممرًا رئيسيًا لمسار طهران-المتوسط.
كما يُعتبر أحد قيادات الحشد التي كانت مُقربة بالسابق من “قاسم سليماني” قائد فيلق القدس، و”أبو مهدي المهندس” نائب رئيس الهيئة. وتتمسك واشنطن باتهام عدد من فصائل الحشد الموالية لإيران، وخصوصًا تلك المنتشرة بنطاق الحدود السورية العراقية، بأنها متورطة في استهداف مواقعها، كالهجمات المتكررة على القواعد التي تضم قوات أمريكية، وعلى رأسها قاعدة عين الأسد. وكان “قاسم مُصلح” أحد القيادات المتهمين بالتورط في هكذا هجمات.
ومع تأكد أنباء الاعتقال، تحركت بعض ألوية الحشد الشعبي لتطويق المنطقة الخضراء؛ لاستعراض القوة، والضغط على الحكومة للإفراج عن “مُصلح” أو تسليمه لأمن الهيئة. وأثارت تلك التحركات رفضًا واسعًا لدى عديد من القوى السياسية والمؤسسات لما اعتبرته خروجًا على الدستور، ومحاولة لإضعاف الدولة بوجه الفصائل المسلحة. وبينما أصدر الحشد الشعبي بيانًا نافيًا وجود أية تعليق رسمي على الاعتقال، اعتبرت الفصائل الولائية بالهيئة القرار محاولةً لعرقلة الانتخابات، وخروجًا على الإجراءات المتبعة للتحقيق مع عناصرها، ومسعى لجر صنوف القوات المسلحة للصدام.
وقد جاء قرار الإفراج عن “قاسم مُصلح” مسببًا بمحددات قانونية، كعدم كفاية الأدلة لإدانته، ليعكس أن التحقيقات القضائية قد أخذت مسارها القانوني دون موازنات أو تدخلات، فاعتقاله تم بناء على مذكرة قبض وتحرٍّ قضائية بتاريخ 21/5/2021، والإفراج عنه أيضًا جاء وفقًا لقرار سلطة التحقيق. وأصدر مجلس القضاء الأعلى العراقي بيانًا حول القضية، كشف أن الاتهام الرئيسي لـ”مُصلح” كان اغتيال الناشط المعارض “إيهاب الوزني” بمدينة كربلاء (9 مايو 2021)، وأن التحقيقات لم تتوصل لأدلة كافية لإدانته، الأمر الذي استدعى الإفراج عنه.
متغيرات مؤثرة
أفرزت أزمة اعتقال قيادي الحشد “قاسم مُصلح” عدة متغيرات على هياكل التفاعلات التقليدية بالمشهد العراقي، حيث فشلت محاولات الحشد الشعبي بالضغط على الحكومة عبر استعراض القوة، كما دخل الجيش العراقي للمرة الأولى على خط الأزمة معلنًا عن عودته كرقم فاعل بالمعادلة الأمنية، بالإضافة لتباين مواقف الفصائل داخل الهيئة، وهو ما امتد إلى مواقف القوى السياسية العراقية أيضًا. ويمكن تناول تلك المتغيرات كما يلي:
أولًا- فشل استعراض قوة الحشد: حاولت عدة فصائل بالحشد الشعبي توظيف فائض القوة لديها للضغط على حكومة الكاظمي للإفراج عن “قاسم مُصلح”، وهو سلوك تكرر استخدامه لإظهار قدرات الحشد بوجه الدولة أو القوى المعارضة له، حيث سيطر بعض عناصر الحشد على بعض منافذ المنطقة الخضراء، وقاموا بإغلاقها لقرابة نصف ساعة. ولكن المتغير الأبرز كان تمسك الحكومة العراقية بقانونية الإجراء وعدم الاستجابة لمطالبات الحشد، سواء بالإفراج عنه، أو تسليمه لإدارة الأمن الداخلي بالحشد. ورغم توارد الأنباء حول إطلاق سراح “مُصلح”، واحتفال عناصر الحشد بذلك، إلا أن المُحصلة النهائية كانت انسحاب فصائل الحشد من المنطقة الخضراء، واستمرار التحقيقات معه من قبل اللجنة المشتركة، ما يُعد تراجعًا واضحًا من قوى الحشد التي لم تجد تأثيرًا لخطواتها السابقة.
ثانيًا- دخول الجيش على خط الأزمة: كشفت عملية الاعتقال عن عودة الجيش العراقي لاستعادة دوره بالمشهد، فالقوة التي نفذت الاعتقال تابعة لوزارة الدفاع، ما أثار مخاوف الحشد كونها بداية لتحجيم دوره لصالح الجيش. كما عكست تصريحات وزير الدفاع “جمعة سعدون” أن القوة الميدانية التي تتصدر المشهد العسكري هي قوات الجيش، وأن الحشد الشعبي قوة رديفة أسهم وجودها في تسريع تحرير مدن العراق، ولكن الجيش كان العامل الحاسم في التصدي للإرهاب. ولم يغفل “سعدون” إظهار رفضه لخطوة استعراض القوة التي نفذها الحشد، وصرح بأنها لا تخيف الدولة، وأن الأخيرة قادرة على التصدي لتلك التحركات، في إشارة ضمنية لقوات الجيش.
ثالثًا- تباين مواقف قوى الحشد: أظهرت مواقف فصائل الحشد الشعبي تعارضًا واضحًا في الرؤى، سواء فيما يتعلق بعملية الاعتقال وطبيعتها والقوة التي نفذتها، أو ما تبعها من مظاهر احتجاجية لبعض ألوية الحشد بالمنطقة الخضراء. فبينما اعتبرها “قيس الخزعلي”، الأمين العام لـعصائب أهل الحق، محاولة لخلط الأوراق وتعطيل الدستور، حذر زعيم التيار الصدري “مقتدى الصدر” من الاستقواء على الدولة أو محاولة إضعاف العراق. كما عكست منشورات العتبة العباسية بالنجف دعمًا ضمنيًا لقرار الكاظمي، إذ أعاد مكتب المرجع الشيعي “علي السيستاني” نشر أجزاء من بيان إنشاء الحشد الشعبي، والذي دعا فيه لعدم توظيفه لتحقيق مآرب سياسية تؤدي للإساءة إلى مكانته.
رابعًا- تصاعد تنافسية القوى السياسية: برزت حدة المنافسة بتعاطي القوى السياسية مع مشهد اعتقال “مُصلح”، حيث دان زعيم كتلة “النصر”، رئيس الوزراء السابق، “حيدر العبادي” المظاهر المسلحة واستعراض القوة بوجه الدولة. كما رفضت كتلة “سائرون” النيابية تحركات فصائل الحشد بالمنطقة الخضراء، واعتبرت أن “ما حدث قضية جنائية وليس سياسية، وعلى قادة القوى السياسية حسم الموضوع وإعادة الأمور إلى وضعها الطبيعي”. وعلى الجانب الآخر، انتقد الأمين العام لمنظمة بدر، زعيم تحالف الفتح، “هادي العامري” عملية الاعتقال، وشدد على ضرورة النأي بالعراق من الاستقطاب الأمريكي الإيراني وحفظ علاقات متوازنة مع السعودية. وصرح “حسن فدعم”، النائب عن تيار الحكمة، أن “اعتقال قاسم مصلح جاء لخلق جو إعلامي للتغطية على قتل المتظاهرين”.
ملاحظات أساسية
كشف اعتقال “مُصلح” والإفراج عنه عن طبيعة العلاقة بين الحكومة والحشد الشعبي، وحرص أطراف الأزمة على توجيه جُملة من الرسائل للتأكيد على نهجها المستقبلي في التعاطي مع بقية الفاعلين بالساحة العراقية، ونستعرض تاليًا أبرز الملاحظات الأساسية التي برزت في خضم الأزمة:
- حرصت حكومة الكاظمي على تأكيد أن اعتقال “مُصلح” لا يستهدف هيئة الحشد، وأنه يأتي وفقًا للضوابط القانونية النافذة، حيث كان الضبط وفقًا لمذكرة قضائية، كما جاء الإفراج عنه استنادًا لقرار قضائي، واقتصر التعليق عليه على المجلس الأعلى للقضاء.
- بدا واضحًا تشكل موقف حكومي صارم للتعامل مع المظاهر المسلحة التي من شأنها المساس بهيبة الدولة، وجاءت بيانات الحكومة أكثر صداميةً؛ حيث دانت تحركات فصائل الحشد بالمنطقة الخضراء، واعتبرتها خروجًا عن الدستور وتعليمات القيادة العامة للقوات المسلحة، كما لوح وزير الدفاع “جمعة سعدون” بقدرة الدولة على التصدي لتلك التحركات.
- عكس موقف الحكومة بشكل عام، ووزارة الدفاع بشكل خاص، اتجاهًا لتحييد رواية سيطرة الحشد على القرار العراقي، أو أنه القوة الأمنية التي لديها القدرة -دون غيرها- على حفظ الأمن والنظام، بل ركزت على إظهار عودة الجيش للمشهد، وأنه الذراع العسكرية الطولى للدولة.
- تشير بيانات الكتل السياسية والفصائل الشيعية حول الأزمة، رغم ما بدا فيها من تباين واختلاف، إلى أنها حاولت تسجيل مواقف دون أن يتبلور لديها اتجاه رافض للحشد الشعبي ككيان، أو ميل لدعم حكومة الكاظمي. وهو ما يؤكد على أنها تدرك أن دور الهيئة، وما تشهده الساحة من سيطرة هجين سياسي عسكري، يعطيها وزنًا مؤثرًا بالمشهد العراقي.
- أظهر الجدل حول اعتقال “مُصلح” الهدوء الإيراني الذي يعكس امتلاكها أوراق ضغط على كافة القوى العراقية، ولم يصدر عن طهران موقف مُعلن من الأزمة، عكس الولايات المتحدة التي رحبت باعتقال القيادي بالحشد، ما يؤشر إلى أن التغلغل الإيراني بالحالة العراقية ما زال عنصرًا فاعلًا بمعادلة استقرار الدولة أو عدمه.
خلاصة القول، مثَّل اعتقال “قاسم مُصلح” اختبارًا لقوة وصلابة المواقف بين الحكومة والفصائل الولائية بالحشد، خرجت منها الأخيرة لتترجم حجم نفوذها وقبولها لدى القوى الشيعية، بالإضافة لمستويات الضغط الإيراني على المسار السياسي العراقي. ويُرجح ألا يتجه الحشد للتصعيد، ولكن من الواضح أن هناك تفاهمًا حول ترضيته وضبط تحركات فصائله مستقبلًا، إذ يدرك الحشد أن ذلك سيؤدي لخلط أوراق المشهد الانتقالي، وتعقيد فرص عقد الانتخابات القادمة في موعدها، وهو ما يمكن أن يعيد للميادين العراقية حالة الزخم التي سادت في أكتوبر 2019. كما يظهر جليًا أن الرسالة الإيرانية في خضم التفاعلات الأخيرة هي رسالة هادئة، مفادها أن طهران تمتلك أدوات فعالة للضغط على الفواعل العراقيين، ولكنها ترغب في استقرار المشهد العراق سياسيًا وميدانيًا، وبالأخص بمرحلة التفاوض الجارية حول برنامجها النووي في فيينا.