يختلف السبب الكامن وراء التباطؤ أو الركود الاقتصادي الحالي اختلافًا جوهريًّا عن الركود الكبير الذي حدث عام 2008/2009. فعلى عكس الركود الكبير الذي كان نتيجة للاختلالات المالية التي بدأت بشكل أساسي في الرهن العقاري؛ يُعد التباطؤ الاقتصادي الحالي نتيجة لعامل خارجي هو فيروس كورونا المستجد الذي أثر على الاقتصاد بجميع جوانبه. ولكن على الرغم من أن السبب وراء الركود الاقتصادي مختلف؛ إلا أن هناك بعض الأخطاء المشتركة بين الأزمتين وبعض الدروس المستفادة من أزمة الركود الكبير.
من الممكن أن يكون هذا الانكماش -أو الانتعاش الاقتصادي فيما بعد- للأزمة الحالية على شكل حرف (U)، وهذا يعني أن الاقتصاد سيكون في حالة انكماش لمدة طويلة من الزمن إلى حدٍّ ما حتى يبدأ الاقتصاد في التعافي من هذه الأزمة (فترة من النمو)، أو أن يكون على شكل حرف (L)، وهذا يعني أن الاقتصاد سيكون في حالة انكماش إلى مدة طويلة من الزمن غير معروف متى سيتعافى الاقتصاد منها.
يناقش هذا المقال أولًا أسباب أزمة الركود الكبير، ثم أسباب الركود الاقتصادي الناجم عن فيروس كورونا المستجد، ثم يقارن بين الأزمتين من حيث الاختلافات والتشابهات والدروس المستفادة.
أولًا- أسباب أزمة الركود الكبير
بسبب العولمة التي جعلت العالم أكثر ترابطًا، أدت الأزمة المالية في الولايات المتحدة إلى أزمة مالية عالمية (2008/2009). بدأت الأزمة حينما فقد المستثمرون الأمريكيون الثقة في الرهون العقارية عالية المخاطر. أحد أنواع هذه الرهون العقارية عالية المخاطر هو الرهن الثانوي، وهو نوع من القروض يُستخدم عادة لشراء منزل لأولئك الذين يبدو أن وضعهم الائتماني ضعيف وربما يواجهون صعوبة في سداد القروض. عادة ما يكون لهذا النوع من القروض شروط غير مواتية، وضمانات منخفضة الجودة، وأسعار فائدة عالية للتعويض عن المخاطر.
أسباب الأزمة تمثلت بالأساس في ضعف الجدارة الائتمانية للمقترضين، واللوائح أو القواعد التنظيمية الضعيفة، وارتفاع الأقساط الشهرية نتيجة ارتفاع تكاليف الفائدة، وعدم قدرة المقترضين على سداد القروض بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، مما يؤدي إلى السبب الرابع وهو تقصير المؤسسات المالية في الدفع لحملة السندات، وهو ما أدى إلى عدة آثار كارثية، مثل؛ أولًا: فقدان المستثمرين للثقة في سوق الأسهم. ثانيًا: أزمة الرهن العقاري. ثالثًا: أزمة الديون؛ حيث واجهت البنوك خسائر كبيرة، وأعلن الكثير منها إفلاسه مثل “ليمان براذرز” و”أمريكان هوم”.
وقد واجهت المؤسسات المالية تخفيضات وخسائر، وتم تأميم العديد من هذه المؤسسات المالية، وبعضها تم بيعه. بالإضافة إلى ذلك، أدى فقدان الوظائف إلى انخفاض إنفاق المستهلكين بسبب عدم كفاية الأموال وعدم رغبة المستهلكين في الشراء كما كانوا يفعلون عادة، مما تسبب في الركود وانخفاض نمو الناتج المحلي الإجمالي. لذلك أدى الاختلال في سوق المال إلى اختلال في سوق العمل وسوق السلع، مما أدى بدوره إلى اختلال في الاقتصاد بأكمله، ووجود دوامة انكماشية، ما أدى أيضًا إلى انخفاض الطلب وانخفاض الأسعار، ومن ثم ظهور حالات تخلف عن سداد الديون ليؤدي ذلك إلى الإفلاس، والذي ترتب عليه تسريح العمال وانخفاض الأجور، مما تسبب في انخفاض الطلب وما إلى ذلك. وهذه الدوامة أدت إلى أزمة الركود الكبير العالمية.
ثانيًا- أسباب الركود الاقتصادي الناجم عن فيروس كورونا
أيضًا بسبب العولمة التي جعلت العالم أكثر ترابطًا، أدى انتشار مرض فيروس “كورونا المستجد” في الصين إلى انتشاره في العالم. لكن التباطؤ الاقتصادي الناجم عن هذه الجائحة يختلف تمامًا عنه في وقت الركود الكبير. فالتباطؤ أو الركود الاقتصادي الحالي هو بسبب صدمة في العرض والطلب. وبحسب البروفيسور “محمد العريان”، فبسبب الحجر الصحي، وغلق المطارات، وقطاعات مثل قطاع الترفيه، وحث المواطنين على الالتزام بالبقاء في المنزل؛ فقد أدى ذلك إلى تقليل الطلب بشكل ضخم على هذه القطاعات. وهذه الصدمة في الطلب أدت إلى نقص ضخم في الإيرادات لهذه القطاعات، مما ترتب عليه محاولة الشركات تقليل تكاليفها بشكل سريع لتقليل الخسائر. وإحدى هذه الطرق السريعة هي تسريح العمال.
لكنّ هؤلاء العمال هم أيضًا مستهلكون، وهذا أدى إلى مزيد من التقليل في الطلب عند كل سعر، مما ترتب عليه مزيد من التسريح في العمال وتقليل الإنتاج والعرض، وهكذا. ولكن في هذه الحالة، الخسائر في الإيرادات الناجمة عن التوقف الاقتصادي هي التي أدت إلى أزمات مالية وأزمات في السيولة بين هذه القطاعات. لكن في هذه الأزمة، وعلى عكس الوضع في أزمة الركود الكبير، يمكن للبنوك أن تكون جزءًا من الحلول لهذه الأزمة. وأحد هذه الحلول هو إقراض هذه الشركات لمساعدتها في تخطي هذه الأزمة والتي بعدها ستعود هذه الشركات لوضعها كما كانت وتحقق أرباحها كالمعتاد. لذلك، أدركت الحكومات والبنوك أن الإنفاق المالي والتحفيز المالي يلعب دورًا مهمًّا لحل الأزمات المالية.
ثالثًا- مقارنة بين جائحة فيروس كورونا والركود الكبير
على الرغم من اختلاف أسباب الأزمة؛ إلا أن التوابع الاقتصادية متشابهة. على سبيل المثال، أدت الأزمتان إلى تسريح العمال، ونسبة عالية من البطالة، وانخفاض في إنفاق المستهلكين، وانخفاض الإنتاج، وارتفاع الديون، وركود اقتصادي. ولكن على عكس أزمة الركود الكبير، فإن الأزمة الراهنة ليست أزمة ثقة بين الأشخاص والحكومات أو البنوك، بل هي أزمة صحية في الأساس أثرت على جميع الأسواق. لذلك يجب أن يكون التعامل مع هذه الأزمة مختلفًا. ولكن هناك بعض الدروس المستفادة من أزمة 2008/2009. أول هذه الدروس أن الحكومات رفضت خلال هذه الأزمة ضخ الأموال في الاقتصاد، معتقدين أن الاقتصاد يمكن أن يتعافى بنفسه سريعًا، لكن هذا أدى إلى إفلاس البنوك، وقاد الاقتصاد كله إلى ركود كبير.
أيضًا أحد الدروس المستفادة من أزمة الركود الكبير هي أن الأزمة العالمية تتطلب حلًّا عالميًّا موحدًا ومشتركًا بين البلاد، وذلك من أجل تفادي الآثار الجانبية التي يمكن أن تتسبب بها كل دولة للدول الأخرى عند وضع سياسات لدولتها تفيد دولتها فقط دون احتساب الآثار الجانبية على باقي دول العالم. فبناء على الافتراض الأساسي للاقتصاد، وهو عقلانية جميع الأفراد الذي يقتضي من الجميع اختيار ما هو أنسب لهم، وما سيجعلهم في أفضل وضع يمكن أن يكونوا عليه، فإذا تصرفت جميع الدول على هذا النحو، فسوف ينتج عن هذا العديد من الآثار الجانبية التي ستتسبب فيها كل دولة لباقي الدول. لذلك يجب على الدول أن تكون أكثر ذكاء، وأن تدرك أن استراتيجيتها في اختيار ما هو أنسب لها هو نفس استراتيجية باقي الدول، ولتفادي الآثار الجانبية التي تتأثر بها من استراتيجيات باقي الدول والتي تضعها في وضع غير مناسب لها، ولذا يجب عليها التعاون مع باقي الدول. لذلك يجب تغيير مفهوم أن العقلانية تقتضي الأنانية. أيضًا يجب إدراك أن النمو الشامل هو ما سيجعل الدول أكثر مرونة وتحملًا لأزمات ذات احتمالات حدوث منخفضة ولكن بعواقب كبيرة. لذلك يجب أن يتحول هدف البلاد من تحقيق أكبر معدل نمو فقط إلى تحقيق أكبر معدل نمو شامل، وعلى أن يأخذ في الاعتبار قضايا –أو أهداف- الاستدامة.
هذا التغيير في الفكر أو السلوك أو الاستراتيجية يجب أن ينطبق أيضًا على القطاع الخاص. إذ يجب على رجال الأعمال إدراك أن كونهم مرنين -وحتى لو كان هذا سيكلفهم أكثر- هو الوضع الأكثر كفاءة وفعالية الذي يمكن أن يكونوا عليه من حيث التكلفة بالمقارنة بمجرد خفض التكاليف والمخاطرة بالوقوع في الأزمات ذات التبعات المرتفعة. لذلك، يجب على الحكومات، والمنتجين، والمستهلكين؛ أن يكونوا أكثر اهتمامًا بالتداعيات الاقتصادية والاجتماعية. وبناء على أزمة الركود الكبير التي كونت خبرات لدى من عاشها وأثرت في سلوكه، ستؤثر أزمة كورونا أيضًا في سلوك من عاصرها وتغير من سلوكه.