تشهد ليبيا في الوقت الراهن جملة من التطورات على الصعيدين السياسي والعسكري والتي تثير عددًا من التساؤلات بشأن مسار الأزمة الليبية، وما يمكن أن يكون عليه اليوم التالي، خاصة فيما يرتبط بإنهاء المرحلة الانتقالية وتجاوز حالة عدم الاستقرار، والصدام المستمر بين الأجسام السياسية والفاعلين المسيطرين على التفاعلات الداخلية، يضاف لذلك التطورات المتسارعة على الصعيد الأمني والعسكري، والتي مثلت اشتباكات طرابلس (14 أغسطس) أحدث فصولها وأعنفها في الأشهر الماضية، علاوة على استمرار الانقسام داخل المؤسسة العسكرية والإشكاليات المرتبطة بإخراج المرتزقة من البلاد وتضارب مصالح الأطراف الخارجية.
استحقاق مؤجل
اتّسم المشهد الليبي طيلة السنوات الماضية بالتعقيد وظل التكرار وغياب الإنجاز السمة الغالبة على تفاعلاته، بحيث أصبح استكمال المرحلة الانتقالية وتوحيد المؤسسات والأجسام السياسية أمرًا بالغ الصعوبة، في الوقت ذاته تحول أي حديث عن انفراجه سياسية أو توافقات تفضي للوصول للانتخابات الرئاسية والبرلمانية محل شك، في ظل الإخفاق المتكرر والفرص الضائعة التي اصطدمت بتعقيدات الداخل والخارج.
فلم يختلف مشهد إهدار فرصة إجراء الانتخابات الليبية نهاية عام 2021 عن المشهد الراهن، والذي يشير لصعوبة إنجاز المهمة والوصول للانتخابات الرئاسية والبرلمانية خلال العام الجاري. فرغم أن كافة الجهود كانت ترمي لإزالة العقبات أمام المسار السياسي؛ بهدف إجراء الانتخابات خلال 2023، إلا أن التطورات الأخيرة تشير لصعوبة تحقيق ذلك خلال الأشهر المتبقية من العام، ففي حالة التوافق بشأن خارطة الطريق التي أنتجها مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة والتي حددت مدة زمنية 240 يومًا لإجراء الانتخابات يبدأ احتسابها منذ صدور القوانين، فإجراء الانتخابات لن يتم إلا بعد 8 أو 9 أشهر على الأقل.
ويبدو أن هناك قناعة لدى الأطراف الداخلية الخارجية بصعوبة استكمال المسار السياسي هذا العام، حتى إن رغبات المبعوث الأممي “عبد الله باتيلي” والمجتمع الدولي تبدلت خلال الفترات الماضية، بحيث تحول التوجه من إجراء الانتخابات العام الحالي، إلى الحديث عن إجرائها في أقرب وقت ممكن، مما يعني أن هناك تسليمًا من كافة المنخرطين في المشهد بصعوبة إنجاز ذلك الاستحقاق وسط التعقيدات المسيطرة على المشهد، الأمر الذي من شأنه أن يطيل أمد المراحل الانتقالية التي دخلت مطلع العام الجاري عامها الثاني عشر دون وجود مؤشرات حقيقية عن وجود رغبة أو قدرة على وضع حد لدوامة التكرار وتعاقب المراحل الانتقالية.
تعقيدات متزامنة
ثمة تعقيدات وأزمات مركبة تسيطر على الأزمة الليبية وتفاعلاتها الراهنة، والتي تشير لاستمرار الوضع على ما هو عليه، خاصة في ظل التطورات الأخيرة المتسارعة على المستويات السياسية والعسكرية، الأمر الذي يمكن الوقوف عليه على النحو التالي:
- التغير في قيادة مجلس الدولة، أسفرت الانتخابات الدورية للمجلس الأعلى للدولة عن وقوع تغيير في قيادته، وذلك في أعقاب الإطاحة بخالد المشري الذي استمر على رأس المجلس لمدة 5 أعوام منذ انتخابه 2018، حيث تمكن منافسه “محمد تكالة” من حصد 67 صوتًا في جولة الإعادة فيما اكتفى المشري بــ62 صوتًا، ويشير الفارق الضئيل في عدد الأصوات لحالة الانقسام داخل المجلس وتفضيلات أعضائه، وبغض النظر عن أسباب خسارة المشري، فإن هذه الترتيبات قد أثارت تساؤلات بشأن الترتيبات السياسية في ضوء التأثير المحتمل لقيادة “تكالة” للمجلس الأعلى للدولة، بعدما أظهر في أوقات سابقة رفضه للتعديل الدستوري الثالث عشر، وكذلك مخرجات اللجنة 6+6 بشأن قوانين الانتخابات، مما قد يعيد حالة الفتور بين المجلسين لما كانت عليه قبل التوافق الأخير فيما بينهما.
كما يرى البعض أن هذه التغييرات تصب في صالح رئيس حكومة الوحدة “عبد الحميد الدبيبة”، خاصة وأن الخلاف بينه وبين المشري كان قد بلغ ذروته في الفترات الماضية، وعليه يمكن أن تظهر تأثيرات ذلك على مستقبل العملية السياسية، ومساعي تشكيل حكومة موحدة لإجراء الانتخابات، مما قد يربك المشهد بشكل عام، إلا أن التحركات والتصريحات الأولية لرئيس المجلس الجديد توحي بإمكانية استمرار حالة التوافق، وسوف يكون ذلك الأمر مرهونًا بقدرة الأطراف الداخلية والخارجية على التأثير ودفع المسار السياسي للأمام.
- التوتر بين المبعوث الأممي ومجلس النواب، زاد في الفترة الأخيرة منسوب التوتر بين البعثة الأممية ومجلس النواب الليبي ويعود الخلاف بصورة أساسية حول معارضة “عبد الله باتيلي” مبعوث الأمم المتحدة في ليبيا لمخرجات لجنة إعداد القوانين الانتخابية 6+6، حيث اعتبرها غير كافية ولا يمكن أن تؤدي لاستكمال المسار السياسي، الأمر الذي نظر إليه مجلس النواب على أنه تجاوز لصلاحيات وسلطات المبعوث الأممي، حيث صرح عقيلة صالح من قبل بأن “المبعوث الأممي ليس حاكمًا لليبيا، مشيرًا إلى أن مهمة البعثة الأممية مساعدة الليبيين وليس اختيار من يحكم“، وبشكل عام قد يزداد هذا التوتر في المراحل القادمة، خاصة في حال إصرار “باتيلي” على طرح مبادرته لتشكيل لجنة للتفاوض بشأن القوانين الانتخابية، الأمر الذي قد يضع ليبيا فيما يمكن وصفه بصراع الخرائط الانتقالية، حيث يرفض مجلس النواب هذا التوجه ويعده تجاوزًا في مهام عمل البعثة، وأن صياغة شكل وترتيبات المرحلة القادمة ضمن الاختصاصات الأصيلة لمجلس النواب.
- صعوبة السيطرة على الفصائل المسلحة، تدل الاشتباكات الأخيرة بين عناصر اللواء 444 قتال، وقوات الردع الخاصة، على خلفية قيام الأخير باعتقال آمر اللواء 444 العقيد “محمود حمزة”، على صعوبة احكام حكومة الوحدة الليبية سيطرتها على المليشيات المسلحة في الغرب بشكل تام، وأن حالة الهدوء في الغرب -حتى وإن استمرت لأوقات طويلة – تظل مؤقتة، مما يزيد من الشكوك المرتبطة بقدرة الدبيبة على فرض نفوذ دائم من الاستقرار غرب ليبيا، إذ إن تضارب المصالح بين المليشيات في الغرب في أي لحظة من شأنه أن يؤجج الصراع، خاصة أن ولاء تلك العناصر يرتبط بمصالح ضيقة ومساعي فرض هيمنة واستعراض قوة.
- التحديات المرتبطة بعملية الدمج، تؤكد الاشتباكات المتكررة غرب ليبيا صعوبة التعاطي مع النموذج المليشياوي في ليبيا، فعلى الرغم من الصفة الرسمية لقوات الردع الخاص وعناصر اللواء 444 قتال، وارتباطهما بحكومة الوحدة الوطنية، إلا أن الصدام المسلح بينهما يشير لغياب دور المؤسسات في غرب ليبيا، وتراجع دور الدولة، وهشاشة القوات الأمنية النظامية مقابل بروز نفوذ المليشيات والكتائب المسلحة، والتي باتت تمثل رقمًا رئيسيًا في المعادلة الأمنية والعسكرية غرب ليبيا، في ظل تفوقهم في العتاد والتسليح، مما يجعل من الصعب تجاوز أدوارها، خاصة أن هذه المليشيات باتت تحل محل الدولة وتعمل على تعزيزه نفوذها في المعادلتين الأمنية والسياسية، ولعل إعلان كتائب مصراتة تعقيبًا على اشتباكات طرابلس الأخيرة في بيان (15 أغسطس) أنه “في حال فشل المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة في فض النزاع سنكلف قوة عسكرية من الثوار لفعل ذلك”، يدل على استشعار تلك العناصر بأن لديها فائض قوة يساعدها في لعب أدوار بديلة يتجاوز الدور التقليدي والأساسي للمؤسسات الأمنية وأجهزة الدولة خاصة ما يتعلق بفرض الأمن واستعادة الاستقرار، الأمر الذي يزيد من تفاقم وحدة الأزمة.
- تأثيرات الجوار الحدودي، فرضت حالة السيولة الأمنية وعدم الاستقرار لدى دول الجوار الليبي تحديًا كبيرًا يمكن أن يؤثر بصورة مباشرة على مجمل الترتيبات في ليبيا، وهي المخاوف التي تصاعدت حدتها في أعقاب اندلاع الصراع في السودان، وما تبعه من انقلاب عسكري في النيجر، إذ من شأن عدم الاستقرار الإقليمي أن ينعكس على المشهد الليبي، بعدما بات جنوب البلاد محاطًا بعدد من التهديدات، التي تجعله عرضة للتأثير المباشر.
وقد يؤدي تفاقم الاضطرابات الأمنية في دول الجوار الليبي لتحويل البلاد لبوابة خلفية لتلك الأزمات، وذلك في ضوء مجموعة من الاعتبارات، من بينها: أن الانقلاب العسكري في النيجر وحالة التنافس بين الغرب وروسيا على حيازة النفوذ في منطقة الساحل والصحراء بشكل عام يمكن أن ينعكس على الاصطفافات الدولية في المشهد الليبي، مما قد يعيق أية جهود لحلحلة الأزمة، كما أن الارتباطات القبلية والديمغرافية للعناصر المتصارعة في السودان والنيجر بالجنوب الليبي قد تحوله لحاضنة تسعى تلك العناصر لتعزيز حضورها فيه. يضاف لذلك التحديات المرتبطة بما يوفره هذا المشهد من بيئة مواتية لانتشار التنظيمات الإرهابية، وجماعات الجريمة المنظمة التي تجيد توظيف الفراغات الأمنية، علاوة على تنامي ظاهرة اللجوء، مما يزيد الأعباء الأمنية في ليبيا.
في الأخير، تُشير مجمل التطورات السياسية والاشتباكات العسكرية في الغرب الليبي لتراجع فرص استكمال الاستحقاق السياسي وإجراء الانتخابات الليبية في المدى المنظور، فبجانب الخلافات السياسية وغياب الثقة بين الأجسام والمؤسسات السياسية المنخرطة في المشهد، فإن استمرار حيازة المليشيات المسلحة للنفوذ، وتنامي ظاهرة انتشار السلاح خارج مؤسسات الدولة، فضلًا عن استمرار التهديدات المرتبطة بالمرتزقة الأجانب في ليبيا، وصعوبة توحيد المؤسسة العسكرية؛ يفضي في نهاية الأمر لمزيد من التأزم وإطالة أمد المرحلة الانتقالية، إذ قد تصطدم أي ترتيبات سياسية بحالة السلاح المنفلت الذي يمكن أن توظفه الأطراف الفاعلة في المشهد ضد أي ترتيبات لا تحقق مصالحه.