يبدو أن الحرب الأهلية الأمريكية لم تنته عام 1865 كما نظن، فالحرب مازالت ممتدة إلى يومنا هذا في شوارع مدن أمريكا الكبرى. انفجرت الاحتجاجات العنيفة بعد مقتل مواطن أسود أثناء القبض عليه بواسطة رجل شرطة أبيض. “حياة السود لها قيمة”، و”صمت البيض مشاركة في الجريمة”، هذا بعض من الشعارات التي يرفعها المتظاهرون. الطابع العرقي لهذه الشعارات واضح بلا لبس؛ فالاحتجاجات موجهة ليس ضد عنف الشرطة بشكل عام، ولكن ضد اضطهاد السود والاستهانة بحياتهم بشكل خاص.
عنف الشرطة من القضايا المثيرة للجدل والخلاف في المجتمع الأمريكي، وللقضية أبعاد إيديولوجية وعرقية عميقة. لا يوجد إحصاء رسمي بحوادث عنف الشرطة، ولا يوجد تعريف واضح يميز بين العنف المرفوض، والممارسات الإكراهية التي تمثل جزءا لا يتجزأ من عمل الشرطة؛ لكن هذا التشوش لم يمنع ائتلاف لعدد من الجماعات الأهلية من توثيق وحصر الحوادث التي يفقد فيها مواطنون حياتهم على يد رجال الشرطة، فتم رصد حوالي 1100 حادثة عنف شرطي خلال العام المنصرم، بمعدل ثلاثة حوادث في اليوم الواحد.
يجد الأفارقة الأمريكيون في ممارسات الشرطة دليلا على العنصرية، فقد مثل الأمريكيون السود 24% من ضحايا عنف الشرطة، فيما لا يمثلون سوى 13% من عدد السكان. في نفس الوقت، فإن أمريكيين آخرين، خاصة من البيض، لا يرون في الأمر ممارسة عنصرية، لأن السود أكثر من غيرهم تورطا في مخالفة القانون؛ وهو ما يرد السود عليه بالإشارة إلى أن الفقر والتهميش المفروض على السود هو الذي يدفع أعدادا أكبر منهم إلى الجريمة، وأن التمييز الاجتماعي والطبقي ضد السود هو جزء من العنصرية المتأصلة في المجتمع الأمريكي؛ وهكذا يستمر الجدل حول هذه القضية الشائكة، التي تختلط فيها صراعات الأعراق والطبقات والإيديولوجيات.
لقد كانت قضية الصراع العرقي مطروحة طوال الوقت منذ تأسست الولايات المتحدة، لكن الجديد في هذه المرحلة هو أنه بينما يتزايد نفوذ تيارات يسارية متشددة توجه نقدا جذريا وراديكاليا للعنصرية في أمريكا، فإن نفوذ جماعات يمينية وطنية وعنصرية بيضاء يتزايد بشكل مواز. ويرصد الدارسون وجود 155 من جماعات العنصريين البيض، بزيادة بلغت 55% خلال الفترة 2016 – 2019؛ الأمر الذي جعل العنصرية من القضايا المميزة للانقسام السياسي المتزايد في الولايات المتحدة.
لعقود طويلة اقتصرت قضية العنصرية في أمريكا على العلاقات بين البيض والسود؛ أما الآن فقد أصبحت القضية أكثر تعقيدا بسبب الظهور القوي للأمريكيين من أصل لاتيني في الصورة، والذين أصبحوا يمثلون ثاني أكبر جماعة عرقية في البلاد، بنسبة 18% من السكان، وبمعدل زيادة يبلغ أربع أضعاف معدل الزيادة السكانية الإجمالي في الولايات المتحدة، نتيجة الهجرة الكثيفة القادمة من المكسيك ودول أخرى في أمريكا اللاتينية.
مع زيادة عدد الأمريكيين ذوي الأصول اللاتينية، أصبح هؤلاء هدفا للعنصريين البيض، ولعلنا نذكر ما حدث في أغسطس 2019 في مدينة إلباسو – تكساس، عندما فوجئ الزوار في أحد المحلات الشعبية المزدحمة بشاب يطلق النار عشوائيا، مما أسفر عن مقتل 23 شخصا، وجرح عدد مماثل، كلهم من ذوي الأصول اللاتينية، فأغلبية السكان في مدينة إلباسو من أصول مكسيكية، والمدينة نفسها تقع على الحدود مع المكسيك، حيث يمكن مشاهدة نظيرتها المكسيكية على الجانب الآخر من الحدود. في إلباسو – كما في كثير من مدن الجنوب الأمريكي – الإسبانية هي لغة التخاطب السائدة، والسكان من أصول لاتينية هم الأغلبية بين السكان، وهي الظاهرة التي تزعج العنصريين البيض، الذين ينتمي لهم القاتل، والذي وضع على شبكة الإنترنت منشورا أعلن فيه رفضه لما اعتبره غزوا مكسيكيا، محبذا قتل المكسيكيين من أجل إعادة التوازن العددي الذي يتغير بسرعة لغير صالح الأغلبية البيضاء.
الولايات المتحدة معضلة وإشكالية، فالبلد الذي يفخر بأنه أكبر بوتقة صهر بشرية على مر التاريخ، يشهد أيضا بعضا من أسوأ حوادث العنف العرقي، فيالها من تناقضات. الولايات المتحدة هي بلد مهاجرين، أتى إليه الناس من كل أنحاء العالم. غير أن العلاقات بين الأمريكيين القادمين من خلفيات مختلفة لم تقم دائما على المساواة والقبول المتبادل، فأعضاء هذه الجماعات لم يلتقوا ببعضهم البعض في نزهة خلوية، وإنما في مجتمع، فيه مصالح اجتماعية وصراعات وتناقضات؛ فكان العرق والثقافة والدين نظاما للتراتب الاجتماعي، وعلامات دالة على نصيب الفرد من الثروة والسلطة. من هذه الزاوية فإنه يمكن النظر لتاريخ الولايات المتحدة باعتباره تاريخ الصراع بين من يسعون للإبقاء على التمايزات بين الجماعات المختلفة، ومن يسعون لتحقيق المساواة بينها.
في القرن التاسع عشر قاوم بعض الأمريكيين تحرير العبيد انطلاقا من الاعتقاد بتفوق العرق الأبيض. تعززت معتقدات هؤلاء العنصرية بحقائق التفوق العددي لذوي البشرة البيضاء في العالم الجديد، بالإضافة إلى التفوق السياسي والاقتصادي والعسكري والتكنولوجي للحضارة الأوربية. مازال بعض العنصريين من خلفاء وأحفاد هؤلاء يؤمنون بتفوق العرق الأبيض، لكن الأغلبية منهم باتوا مدفوعين بالخوف على مصير العرق الأبيض، أكثر من حرصهم على تبوأ مكانة متفوقة. فنسبة الأوربيين بين سكان العالم في تراجع، وموجات المهاجرين الملونين تجتاح مدن الغرب، ولم يعد التقدم التقني والثروة حكرا على العرق الأبيض، وبالتالي فإنه بدلا من الدعوة لتسيد العالم التي انتشرت بين أصحاب البشرة البيضاء في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، عندما استعمرت أوربا كل العالم تقريبا، فإن العنصريين الجدد يعتقدون أن هناك مؤامرة لاقتلاع الرجل الأبيض، وإحلال عرقيات أخرى محله. إنها نفس العقيدة التي جمعت بين النيوزيلندي برينتون تارانت قاتل المسلمين أثناء صلاة الجمعة، والأمريكي باتريك كراسيوس، قاتل المكسيكيين في إلباسو – تكساس. ورغم أن الإعلام يطلق على هذه العقيدة تسمية عقيدة تفوق العرق الأبيض، فإن دوافع القتلة تؤكد على خضوعهم لتأثير شعور عميق بالخوف والتهديد، وهو شعور يعبر عن أزمة الحضارة الغربية، أو أزمة الرجل الأبيض، أكثر مما يعبر عن تفوقه.
نقلا عن جريدة الأهرام، الخميس ٤ يونيو ٢٠٢٠.