شهدت السودان عودة لأزمة الوقود والخبز خلال الأسابيع الأخيرة، في إعادة لمشاهد ارتبطت في الأذهان بالمرحلة الأخيرة من حكم الرئيس السوداني السابق “عمر البشير”، والتي شكّلت إرهاصات الثورة السودانية التي أطاحت بـ”البشير” في أبريل 2019. فقد اصطفت مئات من السيارات والشاحنات في صفوف طويلة أمام محطات الوقود، واستمرت طوابير المواطنين أمام المخابز، لتسيطر على المشهد العام في أكثر من 18 ولاية سودانية من بينها العاصمة السودانية الخرطوم. وعلى إثر ذلك، اندلعت احتجاجات في مناطق متفرقة تندد بعدم توافر الخبز والوقود، مما يضع على كاهل الحكومة الانتقالية -المثقل أصلًا بالأزمات- أزمة إضافية.
الأبعاد المختلفة لأزمة الخبز
يشهد السودان منذ أسابيع أزمة حادة في رغيف الخبز، تم إرجاعها إلى نقص في الدقيق المدعوم من الحكومة، وتقلص حصص المخابز اليومية إلى نحو 53% من الاحتياجات الفعلية، إلى جانب تسربه إلى السوق السوداء، خاصةً في ظل وجود فارق كبير بين سعر جوال الدقيق زنة 50 كلجم المدعوم الذي يتم توفيره للمخابز بـ550 جنيهًا سودانيًّا، وسعر الدقيق التجاري الذي وصل إلى 2200 جنيه سوداني، مما شجّع الكثير من التجار على تهريب الدقيق. وقد بلغ حجم الدقيق المسرب للسوق السوداء حوالي 25% من إجمالي الحصص اليومية للسوق السوداء، فيما يقدر حجم تسريب الدقيق من حصة ولاية الخرطوم وحدها بـ(250) مليون دولار.
كما ترجع الأزمة في جزء آخر منها إلى قيام الوكلاء المسئولين عن توزيع حصص الدقيق، الذين يتم تعيينهم من أصحاب المطاحن وليس من وزارة الصناعة، بالتلاعب في الحصص وتهريبها بغرض بيعها، فضلًا عن وجود زيادة في تكلفة الإنتاج نتيجة ارتفاع أسعار الزيت والخميرة وأجور العمالة المؤقتة، مما اضطر بعض أصحاب المخابز لإغلاقها أو رفع أسعار الخبز ليصل في بعض الأماكن إلى 5 جنيهات للرغيف الواحد.
ومما زاد المشهد تعقيدًا، إعلان اتحاد أصحاب المخابز عزمه زيادة سعر الرغيف زنة 70 جرامًا بنسبة 100% ليرتفع إلى جنيهين سودانيين، بدلًا من جنيه واحد وهو الثمن الذي حددته الحكومة، وطلب الاتحاد من كل المخابز بولاية الخرطوم إعلان الأسعار الجديدة، وهدد بإغلاق جميع المخابز في حال رفض الحكومة الزيادة المعلنة، مما أسهم في تأجيج الأزمة.
الإجراءات العاجلة للقضاء على أزمة الخبز
في إطار سعي حكومة السودان للقضاء على أزمة الخبز في البلاد، وضعت وزارة التجارة والصناعة خطة عاجلة لإحكام الرقابة على الدقيق المدعوم ومنع تسربه للسوق السوداء. وقد تضمنت الخطة عدة بنود، أهمها: سن تشريعات رادعة للمتلاعبين بالسلع الاستراتيجية، والإعلان عن عقوبات تصل إلى 5 سنوات للوكلاء وأصحاب المخابز حال ثبوت عدم أدائهم مهامهم على الوجه الأكمل، والاتجاه إلى إلغاء نظام الوكلاء والاستغناء عنهم بأفراد من الشرطة لضبط عملية توزيع الدقيق للمخابز، بالإضافة إلى إنشاء وحدة لمباحث التموين. كما تضمنت مساعي حل الأزمة إنشاء غرف مركزية لتوزيع الدقيق المدعوم، والإعلان عن إنشاء مخابز تجارية تبيع الخبز بسعر السوق السوداء للمطاعم، على أن تفرض عليها رقابة صارمة من قبل الحكومة.
ولمواجهة نقص حصص الدقيق، تم الاتفاق مع أصحاب مطاحن القمح على زيادة الإنتاج حتى 100 ألف جوال دقيق وهي نسبة الاستهلاك اليومي للبلاد. وتجدر الإشارة إلى أن الحصة اليومية قد وصلت بالفعل إلى ما يزيد عن 73 ألف جوال، مع التأكيد على توافر الكميات المطلوبة من القمح في البلاد حتى نهاية مايو 2020. ويذكر أن حكومة الخرطوم تدعم الدقيق بمبلغ مليار و144 مليون دولار أمريكي في السنة بواقع 165 ألف دولار في اليوم الواحد. ومع تسرب الدقيق لا تذهب نسبة كبيرة من هذا الدعم إلى مستحقيه، مما يعني أن الخزينة العامة تخسر مئات الملايين من الدولارات سنويًّا في شكل دعم مهدر، وهو ما ساق حكومة الخرطوم إلى طرح تصور جديد حول سياسة الدعم تهدف في نهاية المطاف إلى التحول من دعم القمح إلى دعم الخبز.
أزمة الوقود المتجددة
عاودت أزمة الوقود الظهور على السطح للمرة الثالثة في أقل من عام، والتي كانت -إلى جانب ضوائق مالية أخرى- وراء الاحتجاجات التي شهدتها السودان مطلع شهر فبراير 2020، حيث عانى الشعب السوداني من عدم توافر الوقود في المحطات، ما أدى إلى ندرة في المواصلات العامة، مع تضاعف تعريفة النقل. وأرجع أصحاب محطات الوقود الأزمة إلى تقليل الحصة اليومية للمحطات من إدارة البترول بنحو 50%، بينما أعلنت حكومة الخرطوم أن سبب الأزمة هذه المرة هو عطل فني أدى لانسداد الخط الناقل للخام من منطقة هجليج، والذي أدى بدوره إلى توقف جزئي في ضخ الخام إلى مصفاة الخرطوم الرئيسية، التي تغطي 80% من حاجة البلاد من الغاز الطبيعي و70% من البنزين و50% من الجازولين.
كما أثار إفصاح الحكومة الانتقالية في السودان عن نيتها رفع الدعم عن الوقود، الذي يستنزف 16% من الدخل القومي للسودان، جدلًا في مختلف الأوساط السودانية بشأن أثر القرار الجديد على حياتهم اليومية، وأسعار السلع المرتفعة بالفعل، والتضخم الذي وصل إلى ما يزيد عن 60% في يناير2020. غير أن الحكومة قررت في نهاية الأمر تأجيل تنفيذ هذا الاقتراح.
ولتلافي النقص الحادث بسبب التوقف الجزئي للمصفاة، شرعت وزارة الطاقة في تنفيذ عددٍ من الإجراءات العاجلة تمثلت في: توزيع المواد البترولية من المستودعات لتغطية الطلب، كما قامت بطلب استيراد كميات إضافية من المنتجات البترولية لسد النقص إلى حين انتهاء أعمال الصيانة الطارئة في الخط الناقل للنفط، بالإضافة إلى تحديد حصص مركبات الملاكي بقيمة 120 جنيهًا للمرة الواحدة، و٥٠ جنيهًا كحد أقصى للتوكتوك، و٣٠ جنيهًا للدراجات النارية، لضمان توزيع متساوٍ ولتقليل الفارق الزمني في الصفوف، وتحديد أيام السبت والاثنين والأربعاء للمركبات التي تنتهي لوحاتها بعدد زوجي، وأيام الأحد والثلاثاء والخميس للمركبات التي تنتهي لوحاتها بعدد فردي، بينما يكون يوم الجمعة يوم صرف لجميع السيارات وذلك تنظيمًا للصفوف وتقليلًا للجهد والمعاناة، مع التوجيه بسحب تراخيص المركبات التي لا تلتزم بالمسارات أو التعريفة، فضلًا عن فتح محطات للبيع بالسعر التجاري المدعوم نسبيًّا وليس دعمًا كاملًا وهذه المحطات قليلة الصفوف، هذا بالإضافة إلى العمل على استحداث نظام إلكتروني للمراقبة لرصد الإمدادات، وإنشاء الخط الساخن (3322) ليستخدمه المواطنون في الإبلاغ عن المخالفات، والعمل على الانتهاء من مشروع بطاقات توزيع حصص الوقود لكافة القطاعات.
بالتزامن مع تلك الإجراءات، تم إصلاح العطل الحادث في خط الأنابيب، وعادت مصفاة الخرطوم إلى الضخ بعد أن توقفت عن العمل، وبلغ سريان الخام بها 200 متر مكعب في الساعة، وهو معدل جيد مقارنة بالأيام المنقضية التي يقدر معدل السريان فيها بـ40 مترًا مكعبًا فقط في الساعة، مما يساعد في تخفيف حدة الأزمة في جميع ولايات السودان، وتوفير مشتقات البترول من جازولين وبنزين وغاز.
الأسباب الجذرية وراء تجدد مشكلات السودان الاقتصادية
لم ينقضِ سوى ستة أشهر فقط على تشكيل الحكومة الانتقالية في السودان، ومع ذلك عاودت أزمة الوقود والخبز وارتفاع أسعار السلع الأساسية الظهور. ومن اللافت في تفجر أزمتي الخبز والوقود، هو تلك السرعة التي طفت بها على السطح، وما إذا كان لتوقيتها أي دلائل سياسية، في ظل التجاذبات التي يعيشها السودان حاليًّا. وقد كشفت الأزمة الأخيرة عن عددٍ من الأسباب ذات الطبيعة الجذرية التي تُسفر عن تكرار ظهور مثل هذه الأزمات الاقتصادية، التي تتمثل في:
1- العجز عن توفير اعتمادات النقد الأجنبي المطلوبة لاستيراد القمح والوقود
منذ عام 2011 تراجع إنتاج السودان من النفط إثر انفصال جنوب السودان، من 450 ألف برميل يوميًّا إلى ما دون 100 ألف برميل، مما اضطر الحكومة إلى استيراد أكثر من 60% من المواد البترولية لتلبية الاستهلاك المحلي. كما يستهلك السودان مليوني طن قمح سنويًّا بقيمة نحو ملياري دولار أمريكي، بينما يغطي الإنتاج المحلي 17% على الأكثر من هذه الكمية، ويتم تأمين الجزء الباقي عن طريق الاستيراد، مما يجعل الحكومة مضطرة لتوفير مئات الملايين من الدولارات سنويًّا، مما يُشكّل أزمة حقيقية خاصة بعد وصول سعر صرف الجنيه السوداني مقابل الدولار في السوق السوداء إلى نحو 105 جنيهات سودانية مقابل كل دولار واحد، مع توقعات بارتفاع هذه القيمة إلى نحو 120 جنيهًا خلال أشهر قليلة، الأمر الذي يشكل في ظل الأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد، ضغوطًا كبيرة على الموازنة العامة للدولة المثقلة بالديون، إذ تبلغ ديون السودان حوالي 60 مليار دولار.
2- السياق السياسي غير الملائم
كان للسياق السياسي العام المحيط بالأزمة دور مهم في تفاقمها واستمرارها، حيث ألقت بعض المشكلات السياسية، مثل: التأخر في تعيين الولاة المدنيين، وتشكيل المجلس التشريعي، والتباطؤ في تفكيك مراكز قوى النظام السابق؛ بظلالها على الوضع الاقتصادي في السودان، مما يضاعف التحديات أمام الحكومة الانتقالية ومسئوليتها في استقرار الأوضاع الاقتصادية في البلاد، الأمر الذي خلق أجواء متوترة غابت فيها ثقة المواطنين عن الحكومة الانتقالية بصورة كاملة. فأمام عجز وزارة الصناعة وغيرها من الوزارات المعنية بالأزمة عن معالجتها على نحو فعال، تعالت الكثير من الأصوات المطالبة بإقالة الحكومة الانتقالية نتيجة فشلها في حل أزمات البلاد، وهو الأمر الذي يمكن أن يقوض شرعية الحكومة الانتقالية بأكملها.
3- التأثير السلبي للخلافات السياسية
لم يقتصر تأثير السياق السياسي للأزمة على ضعف قدرات الحكومة الانتقالية فحسب، حيث أجمعت العديد من التحليلات على أن الأزمة الاقتصادية التي يمر بها السودان حاليًّا هي أزمة مفتعلة من جانب بعض الأطراف السياسية بهدف خلق حالة من الارتباك في الشارع السوداني، في محاولة لإفشال الحكومة الانتقالية وتمهيد الأجواء أمام قيام “ثورة مضادة” في السودان. وليس أدل على ذلك من إعلان اتحاد المخابز المحسوب على نظام الرئيس السابق “عمر البشير” زيادة سعر رغيف الخبز ضاربًا بقرارات الحكومة عرض الحائط، بالرغم من توعد وزارة الصناعة له بالملاحقة القانونية حال رفع أسعار الخبز أو فرض تسعيرة جديدة.ختامًا، إن أزمَتَيِ الوقود والخبز اللتين تعاودان الظهور على فترات متقاربة، ليستا سوى أحد تجليات الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها السودان، حيث يحتاج الوضع في السودان لتدخلات عاجلة ومستدامة للسيطرة على الأوضاع الاقتصادية المتردية، وفي ظل وجود دعم كبير موجه للخبز والوقود مع تراجع للصادرات وارتفاع في معدل التضخم وعجز في الموازنة وارتفاع في سعر الدولار، يزيد من مخاوف تسارع وتيرة تفاقم الأزمة الاقتصادية في السودان كأكبر تحدٍّ يواجه الحكومة الانتقالية الحالية، الأمر الذي يتطلب من حكومة “حمدوك” التعامل مع الأزمة بصورة مغايرة وسريعة وجذرية.