شهدت الفترات السابقة عددًا من الزيارات المتبادلة بين أنقرة وطرابلس، الأمر الذي يمكن النظر إليه باعتباره جزءًا من التنسيق المشترك بين الطرفين، على اعتبار أن تركيا في مقدمة الدول الداعمة لحكومة الوفاق. إلا أن هذه الزيارات بدأت تأخذ منحنى مغايرًا لما كانت عليه من حيث طبيعة الوفود ومستويات التمثيل، الأمر الذي يستدعي البحث عن أسباب ودوافع تكثيف هذه الزيارات للوقوف على ما يمكن أن تسفر عنه الأحداث المتشابكة والمتداخلة على الساحة الليبية، والمسارات المحتملة جراء تزايد هذه الزيارات، خاصة في ظل التغيرات المتلاحقة التي تشهدها الأزمة.
زيارات متلاحقة ورسائل عديدة
أثارت زيارة وزير الدفاع التركي “خلوصي أكار” ورئيس هيئة الأركان “يشار غولر” (3 يوليو 2020) جملة من التساؤلات، خاصة أن هذه الزيارة تأتي ضمن الزيارات رفيعة المستوى، ما يمكن اعتباره توجهًا جديدًا لدى تركيا يدخل ضمن مسارات التعاطي مع الأزمة الليبية، حيث تم تكثيف الزيارات الرسمية بين الجانبين خلال الفترات القليلة الماضية. وعلى الرغم من دلالات هذه الزيارة الأخيرة، خاصة أن هذه الزيارة تعتبر الأبرز نظرًا لمشاركة قمة الهرم ورأس القيادة العسكرية التركية؛ إلا أن هناك زيارات مماثلة لا تقل أهمية عن هذه الزيارة، من بينها -على سبيل المثال- قيام وفد تركي يضم أكثر من 27 مسئولًا بزيارة رسمية (17 يونيو) إلى طرابلس لعقد عدد من التفاهمات. وقد ضمت الزيارة كلًّا من وزير الخارجية ووزير المالية ورئيس المخابرات التركية “هاكان فيدان”. كما توسطت هذه التحركات زيارة لرئيس أركان القوات البحرية التركية “الأدميرال عدنان أوزبال” (30 يونيو) قام خلالها بزيارة رسمية لقاعدة “بوسته البحرية” في العاصمة الليبية طرابلس. والمتابع لهذه الزيارات وكثافتها في الآونة الأخيرة لا يستبعد قيام الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” بزيارة مماثلة لطرابلس في ظل الانغماس التركي المباشر في الأزمة الليبية.
وقبل التعرض لمخرجات هذه الزيارات، وفي المقدمة منها زيارة وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان؛ يمكننا الوقوف على عدد من الرسائل حول طبيعة وتوقيت هذه الزيارات. ترتبط الرسالة الأولى بمساعي تركيا لتقنين وشرعنة وجودها في ليبيا على اعتبار أن ليبيا أصبحت جزءًا من مرتكزات السياسة الخارجية التركية، خاصة في أعقاب توقيع اتفاق “السراج-أردوغان” في نوفمبر 2019. في حين تنصرف الرسالة الثانية، إلى التأكيد على القناعة التركية بأن الدفاع عن مصالحها وتأمين وجودها لا يمكن أن يتم دون توسيع نفوذها العسكري، أو على أقل تقدير الحفاظ على مكاسبها الميدانية الأخيرة. وتتعلق الرسالة الثالثة بمحاولة أنقرة اختبار جدية الخصوم والأطراف المناوئة للانخراط العسكري والسياسة التوسعية التركية في ليبيا، خاصة في ظل الإعداد والترتيب لهجوم وعملية وشيكة باتجاه سرت. وأخيرًا، تستهدف تركيا عبر هذه الزيارات حجز مقعد أساسي، والحفاظ على دور مستقبلي عبر توقيع اتفاقيات عسكرية وأمنية واقتصادية ملزمة لليبيين بما يضمن لها التأثير في مجريات وزمام الأمور وكافة الترتيبات المحتملة بشأن الأزمة الليبية، على غرار ما يحدث في سوريا وغيرها من الساحات.
مخرجات ودوافع
جاءت زيارة وزير الدفاع التركي (3 يوليو) بهدف الاطلاع على سير الأنشطة ومتابعة التطورات، وذلك في إطار مذكرة التفاهم الموقّعة بين البلدين بشأن التعاون الأمني والعسكري حسبما أعلنت تركيا. وفي أول تعليق لـــ”أردوغان” على الزيارة أكد أن هدف الزيارة مواصلة التعاون القائم مع “السراج” والتنسيق بشكل أوثق. في حين تشكلت اتجاهات مناهضة لتلك الزيارة باعتبارها إحياء للاستعمار التركي للأراضي الليبية ضمن مخطط “العثمانية الجديدة”، الأمر الذي ترجمته تصريحات رئيس المجلس الأعلى لقبائل ورشفانة الليبية “المبروك بوعميد” والتظاهرات الغاضبة التي اندلعت في بنغازي (5 يوليو) اعتراضًا على الوجود التركي.
وقد تضمنت هذه الزيارة –التي استمرت لمدة يومين- عددًا من التحركات والأنشطة، حيث قام وزير الدفاع التركي بزيارة مدينتي طرابلس ومصراتة، كما تفقد القوات التركية بقاعدة معيتيقة وغرفة عمليات مصراتة، بالإضافة إلى السفينة الحربية “TCG Giresun” بالمتوسط. ورغم لقاء “أكار” بقيادات حكومة الوفاق؛ إلا أنه كان حريصًا على عقد لقاءات ونقاشات منفردة مع القوات والعناصر التركية المتواجدة على الأراضي الليبية.
وقد نجم عن هذه الزيارة جملة من الترتيبات -وفقًا لما تم تداوله- التي تحمل مزيدًا من الدلالات على الانخراط المتزايد لتركيا داخل ليبيا، من بينها الاتفاق على إنشاء وتدشين قاعدة عسكرية تركية في ليبيا، فضلًا عن تشكيل وتأسيس فرق عسكرية مشتركة بين الجانبين، الأمر الذي يُعيد إلى الأذهان نموذج الحرس الثوري الإيراني. ويحمل هذا النهج الكثير من المخاطر، خاصة أن هذا التحرك من شأنه أن يخلق ولاءات تتجاوز الدولة، وتدين باللواء لتركيا باعتبار الأخيرة الداعم والممول. علاوة على ذلك، تم الاتفاق على منح الجنود والضباط الأتراك حصانة دبلوماسية تحول دون وقوعهم تحت طائلة الملاحقات القضائية أو المساءلة. بالإضافة لذلك، تطرقت الزيارة لمساعي أنقرة لتدشين مراكز تدريب كنواة لتشكيل جيش يتبع حكومة الوفاق من العناصر الإرهابية والمرتزقة التي وفرتها تركيا لحكومة الوفاق.
وترتيبًا على ما سبق، يمكن الوقوف على طبيعة وحدود المصالح التركية ودوافعها وراء تكثيف هذه الزيارات في ظل ما تشهده الأزمة الليبية من تداخل الأحداث وتسارعها، الأمر الذي يمكن الإشارة إليه فيما يلي:
1- تأمين المصالح الاقتصادية: تستهدف تركيا عبر الزيارات الرسمية رفيعة المستوى وما ينتج عنها من اتفاقات الحفاظ على مصالحها الاقتصادية وتأمينها، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعيشها أنقرة، حيث كشفت الزيارات المتتالية التي عقدها محافظ المصرف المركزي الليبي مع الرئيس التركي ووزير ماليته عن تدفقات كبيرة تم إيداعها في البنوك التركية بلغت نحو 12 مليار دولار مقابل ضخ مزيد من الدعم العسكري لحكومة الوفاق. ومن ثم، تتخذ أنقرة من الساحة الليبية مدخلًا لإنقاذ الاقتصاد التركي في ظل مساعي أنقرة للحصول على تعويضات تقدر بنحو 2.7 عن بعض الأعمال والمشاريع التي نُفذت في ليبيا قبل عام 2011، إذ بلغ حجم الاستثمار التركي في ليبيا في تلك الفترة نحو 15 مليار دولار ونحو 120 شركة تركية كانت تعمل في ليبيا. كما لا يمكن تجاهل مساعي تركيا للسيطرة على حقول النفط، ما قد يمكّنها من دعم اقتصادها المتأزم، حيث تشير التقديرات إلى أن إغلاق موانئ النفط تسبب في خسائر بلغت نحو 6.49 مليارات دولار منذ يناير 2020. وهذه الأموال كان من الممكن أن تعظم وتزيد من مكاسب تركيا وميليشيات الوفاق حال السيطرة عليها، ناهيك عن رغبات تركيا في حجز مكانتها في عملية إعادة الإعمار مستقبلًا.
2- النفاذ إلى طاقة المتوسط: حاولت تركيا وضع موطئ قدم لها في منطقة شرق المتوسط بتقديم الدعم لحكومة الوفاق. وقد أسفرت تحركات تركيا -في هذا الصدد- عن توقيع اتفاقية بين الطرفين (نوفمبر 2019). وعلى الرغم من عدم مشروعية الاتفاق لتعارضه مع مبادئ القانون الدولي للبحار، إلا أن أنقرة تسعى لفرضه كأمر واقع. وقد أشارت التقديرات إلى حصول شركة “تباو” التي تديرها الحكومة التركية على مناقصة لشراء سبع كتل استكشافية قبالة ساحل برقة. وعلى إثر ذلك طالبت الشركة بالحصول على إذن لبدء عملية التنقيب. ويُعتبر التواجد التركي في شرق المتوسط بمثابة قضية مركزية لتركيا، خاصة أن النفوذ في هذه المنطقة يضمن لها تأمين احتياجاتها من الطاقة، إذ تعتمد على نحو 90% من احتياجات الطاقة عبر الاستيراد من الخارج (حوالي 40 مليار دولار سنويًا).
3- الرغبة في التوسع الإقليمي: تستهدف تركيا عبر دعمها للميليشيات وجماعة الإسلام السياسي في ليبيا توسيع نفوذها ومجالات تأثيرها إقليميًّا انطلاقًا من الأهمية الاستراتيجية لليبيا والتي تقع في قلب البحر الأبيض المتوسط، والمغرب العربي، وبوابة لإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وتنظر أنقرة إلى ليبيا باعتبارها بوابة للتمدد والنفوذ الإقليمي، ومن ثم خلق أنظمة متوافقة في الأهداف والأيديولوجيات مع تركيا.
سيناريوهات مختلفة
من خلال تكثيف الزيارات رفيعة المستوى بين أنقرة وطرابلس، ومع ارتفاع وتكثيف هذه التحركات، وفي ظل الترتيبات والتطورات الأخيرة يمكننا الوقوف على مستقبل وحدود التواجد التركي في ليبيا عبر مجموعة من الاحتمالات نوجزها فيما يلي:
1- التصعيد العسكري تجاه سرت:
ينطلق هذا الاحتمال من فرضية أن أنقرة عبر تحركاتها الأخيرة تعمل على الترتيب والإعداد لهجوم عسكري وشيك تجاه سرت. ويدعم هذا الاقتراض عدد من المؤشرات من بينها: أن تواجد وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان -على اعتبار أنهما يمثلان قمة الهرم العسكري في تركيا- يدل على أن هناك عملًا نوعيًّا يتم التجهيز له. كما أن الجولات التي قام بها وزير الدفاع وزيارته لمركز قيادة عمليات طرابلس ولقاءه مع الضباط والجنود الأتراك والتفاهمات الأمنية والعسكرية التي نجمت عن الزيارة، تصب في صالح فرضية التصعيد العسكري.
ناهيك عن مجمل الترتيبات التي أظهرت محاولات أنقرة لترتيب الصفوف، وتعزيز التواجد العسكري عبر ما أثير من تفاهمات بشأن التوقيع على تدشين قواعد عسكرية تركية تسمح لها بوجود دائم في ليبيا، بالإضافة إلى مساعي تركيا لهيكلة أجهزة الاستخبارات داخل حكومة الوفاق، إذ تسعى تركيا وفقًا لعدد من التقديرات إلى تعيين “خالد الشريف” القيادي بالجماعة الليبية المقاتلة على رأس جهاز الاستخبارات الليبي، وذلك بعد نجاحه في إدارة وتنظيم صفوف الميليشيات والمرتزقة التي تم تجنيدهم من قبل الأتراك. أضف إلى ذلك استمرار تدفق ونقل المرتزقة والميليشيات من سوريا إلى ليبيا والتي وصل عددهم وفقًا لآخر تقديرات إلى 15 ألف مرتزق. على صعيد آخر، تعمل أنقرة على نشر منظومة دفاع متطورة من طراز “هوك”، فضلًا عن الرادارات وأجهزة التشويش والطائرات بدون طيار وأنظمة صواريخ مضادة للطائرات ومدرعات ومركبات، علاوة على التواجد البحري من خلال السفن والقطع البحرية والزوارق.
كل هذا الحشد يُشير إلى إمكانية التصعيد العسكري من قبل تركيا. على الرغم من ذلك يوجد عدد من القيود أمام هذا الاحتمال من بينها عدم القدرة على توقع ردة الفعل، خاصة من قبل الأطراف المناهضة للتحركات التركية ومساعيها للسيطرة على سرت، وهو ما ترجمته الضربات الجوية التي تعرضت لها قادة الوطية والتي أسفرت عن تدمير منظومة الدفاع الجوي لتركيا. من ناحية أخرى، لا يمكن أن تتجاهل أنقرة التحذيرات المصرية بشأن محاولة التمدد تجاه سرت-الجفرة باعتبار أن ذلك جزءًا من الأمن القومي المصري. ومن ثمّ يظل هذا الاحتمال محكومًا بالحسابات التركية والمواءمة بين حساب التكلفة الناجمة عن هذا التحرك وحجم الخسائر التي يمكن أن تحدث، وبين الأطماع التركية والحاجة لمزيد من التمدد والهيمنة.
2- إخضاع أنقرة وتسوية الوضع:
ينطلق هذا الاحتمال من فرضية عدم قدرة تركيا على مواصلة الزحف والتمدد العسكري تجاه محور سرت-الجفرة، ومن ثم اقتناعها بأن السيطرة الكاملة والحسم العسكري التام أمر مبالغ فيه. ومن ثمّ يمكن أن تلجأ للانخراط الجاد في تسوية الوضع والحفاظ على مكاسبها الميدانية الحالية. ويدعم هذا الاحتمال عدد من المؤشرات، من بينها نجاح الاتحاد الأوروبي في وقف حذر تدفق الأسلحة إلى ليبيا من خلال عملية “إيريني” التي أُعلن عنها في مايو 2020، وهو ما ينتج عنه تحجيم النفوذ العسكري التركي عبر حرمان ميليشيات الوفاق من الامداد والدعم، ومن ثم اللجوء لتسوية الوضع والدخول في عملية سياسية.
من ناحيةٍ أخرى، قد تمثل مبادرة القاهرة وما حصدته من دعم وتأييد دولي كبير مقدمة لإرغام أنقرة على الدخول في مفاوضات تستهدف حلحلة الأزمة، خاصة أن هناك حالة من العزلة تعيشها تركيا مؤخرًا خاصة في ظل تصاعد وتوتر العلاقات دول الاتحاد الأوروبي وفي مقدمتها فرنسا واليونان.
مع ذلك، هناك عددٌ من القيود يمكن أن تحول دون تحقيق هذا المسار من بينها: إصرار تركيا على مواصلة الحسم العسكري من باب القناعة بإمكانية السيطرة على سرت، ومن ثم حقول النفط، خاصة في ظل تصريحات وزير الدفاع التركية حول ما وصفه بـــ”السيادة التركية، والعودة بعد انسحاب الأجداد، والبقاء إلى الأبد”، ناهيك عن حالة الانقسام المؤسسي داخل ليبيا، وعدم القدرة على إيجاد أرضية مشتركة بين فرقاء الداخل، بالإضافة إلى فشل كافة المبادرات والتحركات الدولية في إيجاد مخرج للأزمة، سواء من خلال مؤتمر “باليرمو 2018” أو باريس 2017، مرورًا بمؤتمر ميونخ 2020، ناهيك عن تعدد الفواعل والأطراف المنخرطة في الأزمة، وهو ما يعني مزيدًا من التضارب في المصالح، وأن تسوية الأزمة الليبية تحتاج إلى توافقات من الداخل والخارج، وهو ما يزيد من تعقد وتشابك احتمال التسوية وإخضاع أنقرة لهذا المسار.
3- المراوحة بين التصعيد والتسوية:
يفترض هذا الاحتمال بقاء الوضع بين اللا حسم العسكري والتسوية السياسية، حيث يظل الوضع الميداني والعسكري كما هو عليه، وأن ميزان القوى لن يصب في صالح طرف على حساب الآخر، على الأقل في الوقت الراهن، بحيث يعمل الجيش الوطني الليبي على تأمين سرت والمحاور الاستراتيجية، ومحاولة إبعاد أنقرة عن التقدم أكثر من ذلك. في الوقت ذاته، ستعمل تركيا على مواصلة الحشد والترتيبات والتفاهمات التي تضمن وتعزز وجودها. كما يحتمل ألا تنجح أية محاولات للتسوية السياسية في ضوء المعطيات سالفة الذكر.