لعبت المملكة المتحدة دورًا كبيرًا في تاريخ ليبيا المعاصر، لا سيما في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وفي العمليات العسكرية لحلف شمال الأطلسي (الناتو) التي انتهت بإسقاط نظام “معمر القذافي”؛ إلا أن التدخل البريطاني الرسمي توارى بشكل كبير خلال السنوات السابقة، وإن لعبت بعض شركات الأمن الخاصة دورًا داخل ليبيا كما أشارت بعض التقارير الصحفية. وهناك الكثير من التساؤلات حول الدور البريطاني في ليبيا. لذا في ظل هذا الحضور المحدود والمتسم بالغموض، تقتضي الحاجة معرفة ماهية مصالح المملكة المتحدة في ليبيا، وفي أي اتجاه ستسير تحركاتها مستقبلًا في خضم الأزمة الراهنة.
الموقف البريطاني الرسمي من ليبيا
يتبلور الموقف البريطاني في نقاط رئيسية ظهرت بشكل جليّ في خطاب “جيمس كليفرلي” وزير الدولة لشئون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، خلال جلسة الإحاطة في مجلس الأمن بشأن الوضع في ليبيا، التي جرت في الثامن من شهر يوليو الجاري. ونوضح هذا الموقف في النقاط التالية:
1- دعم التسوية السياسية الجارية تحت رعاية الأمم المتحدة: كرّر “كليفرلي” دعم بلاده لمسار برلين ومبادرة القاهرة وما سبقهما من وساطات تدعم عودة مسار التسوية السياسية. وشدد على ترحيب بلاده باعتبارها من الرؤساء المشاركين في مجموعة العمل الأمني بمشاركة الأطراف المعنية في المحادثات العسكرية 5 + 5 التي تقودها الأمم المتحدة، لكنه ركز مطالبه بخصوص هذا الحوار فيما يخص منطقة سرت والتصعيد بشأنها بشكل خاص.
2- التركيز على عمليات الحرب وتدهور حقوق الإنسان في المناطق الذي انسحب منها الجيش الليبي: أعرب “كليفرلي” عن قلق بلاده بسبب الخسائر الناتجة عن الألغام والعبوات الناسفة التي خلّفتها القوات المنسحبة، وكذلك صدمتهم بسبب التقارير الخاصة باكتشاف قبور جماعية في ترهونة ودعمهم السابق للجنائية الدولية فيما يخص ذلك الملف. وأكد “كليفرلي” مواصلة المملكة المتحدة تمويل المنظمات غير الحكومية المتخصصة في مجال تحديد مواقع المتفجرات، وتبادل الخبرات مع أوساط مكافحة الألغام، والقيام بعمليات ميدانية لإزالة هذه الألغام.
3- انتقاد الدور الروسي من خلال تدخل قوات فاغنر: على الرغم من رفض روسيا وجود قوات فاغنر في ليبيا، فقد أكدت المملكة المتحدة ومندوبها داخل مجلس الأمن على وجود هذه القوات ومرتزقة آخرين بحقول النفط الليبية.
4- حماية تدفقات النفط: أكدت المملكة في مواضع سابقة دعمها لشركة النفط الوطنية التي تتخذ من طرابلس مقرًّا لها باعتبارها المؤسسة الشرعية الوحيدة المسئولة عن الإشراف على النفط الليبي والمنوطة بتوريد عائدات النفط المباع للبنك المركزي الليبي.
5- دعم المؤسسات السياسية الناتجة عن اتفاق الصخيرات فقط: في 30 إبريل 2020، أصدرت حكومة المملكة المتحدة بيانًا أكدت فيه دعمها لهذه المؤسسات فقط (المجلس الرئاسي، حكومة الوفاق الوطني، ومجلس النواب، والمجلس الأعلى للدولة)، والناتجة عن الاتفاق السياسي الليبي الموقع في سنة 2015.
المصالح الحاكمة للموقف البريطاني
بالرغم من تراجع الموقف البريطاني وتحركاته في ليبيا، خاصة بالمقارنة بتدخلها السابق في إسقاط نظام “معمر القذافي”؛ إلا أن المصالح البريطانية في ليبيا لم تنتهِ، ومن ثمّ فإن تحركاتها المحدودة ومواقفها المعلنة التي سبق عرضها يمكن قراءتها في ضوء هذه المصالح التي نعرضها فيما يلي:
1- ملفّ الأموال والأصول المجمدة
يعود تجميد الأصول الليبية في الخارج إلى قرار مجلس الأمن رقم 1973 الصادر في مارس 2011، والذي تضمن فرض عقوبات على نظام “القذافي” -بعد اتهامه بقمع حراك فبراير 2011- ومن بينها تجميد الأصول الليبية، وتشمل كل الأصول المالية والأموال والموارد الاقتصادية التي يملكها النظام السابق بصورة مباشرة أو غير مباشرة في الخارج. وتبلغ قيمة الأموال المجمدة حوالي 168 مليارا دولار و438 مليونًا من النقد الأجنبي، منها 113 مليارًا أصول سائلة ما بين ودائع وسندات. وتوجد النسبة الأكبر من هذه الأصول في بريطانيا، حيث تشمل 63 مليارًا في شكل ودائع، و15 مليارًا في شكل أصول سائلة وودائع وسندات. أما ألمانيا فلديها 12 مليارًا في شكل أصول سائلة وودائع وسندات. ويوجد في فرنسا حوالي 10 مليارات في شكل أصول سائلة وودائع وسندات، ولدى إيطاليا 10 مليارات في شكل أصول سائلة وودائع وسندات.
ومن ثم فإن لدى بريطانيا مصلحة قوية في استمرار وجود هذه الأصول لديها، لسببين رئيسيين؛ الأول: الضغوط المالية والاقتصادية الناتجة عن خروجها من الاتحاد الأوروبي. والثاني: رغبتها في اقتطاع جزء من تلك الأموال لصالح تعويض ضحايا هجمات الجيش الجمهوري الأيرلندي الذي تم دعمه من قبل “القذافي”، حيث ترغب في تمرير تشريع يستحوذ على جزء من هذه الأصول.
2- حماية مصالحها الاقتصادية
تستحوذ ليبيا على 38.5% من احتياطي النفط في إفريقيا و2.8% من احتياطي النفط العالمي. وتضع تلك الثروة النفطية ليبيا في المرتبة التاسعة بين الدول المالكة لاحتياطيات نفطية مؤكدة، بحصة تقدر بنحو 3.94% من الاحتياطي العالمي، و4.87% من احتياطات منظمة “أوبك”، وسط توقعات بأن الاحتياطيات الليبية تكفي مدة 77 عامًا إذا ما استمر الإنتاج بالمعدل الحالي.
وتحظى ليبيا بحصة مهمة من الثروات الطبيعية. ففيما يتعلق بالذهب، جاءت ليبيا في المرتبة الرابعة عربيًا؛ إذ بلغت احتياطاتها نحو 116.6 طنًا، بينما جاءت عالميًّا في المرتبة 33، بحسب بيانات مجلس الذهب العالمي. وتمتلك ليبيا أيضًا احتياطي من الغاز الطبيعي يقدر بحوالي 1.4 تريليون متر مكعب يضعها في المرتبة الرابعة في إفريقيا.
ويعد ملف إعادة الإعمار ملفًّا سيشهد تنافسًا. فوفقًا لتقدير رئيس الغرفة الاقتصادية الليبية المصرية المشتركة “هاني سفراكس”، قبل عام، سيتكلف إعمار ليبيا 100 مليار دولار.
لذا فإن الثروات الليبية تعد مطمعًا وهدفًا لكافة الأطراف؛ وهو ما يفسر التصريحات والبيانات البريطانية الرسمية الداعية لفك الحصار النفطي، وضرورة وقف تدخل المرتزقة الأجانب في حقل شرارة النفطي، باعتبار أن قطاع النفط مستقبلًا سيلعب دورًا حيويًا في ملف تمويل إعادة الإعمار. كما وجهت تصريحاتها خصيصًا لضرورة وقف التصعيد في حوض سرت. ومن المعروف أن شركة بريتش بترولوم البريطانية هي إحدى كبرى الشركات العاملة في مجال النفط في ليبيا. وقد وقعت الشركة اتفاقية مع المؤسسة الوطنية للنفط عام 2007 للتنقيب واستخراج النفط؛ تشمل امتيازات للتنقيب عن النفط على مساحة 54 ألف كيلومتر مربع في حوض غدامس وحوض سرت قبالة الساحل الليبي.
3- التيارات الإسلامية
كانت المملكة المتحدة ملاذًا لعدد كبير من أقطاب السلفية الجهادية في تسعينيات القرن الماضي والعقد الأول من الألفية الراهنة. ويمكن القول إنها لعبت دورًا في دعم التيارات الإسلامية كبديل عن النظم الحاكمة التي سقطت أو تم إسقاطها في 2011. كما دعمت العديد من الجماعات الإسلامية الليبية المعارضة حتى قبل سقوط تلك الأنظمة، أو على الأقل تغاضت عن بعض أنشطتها. وقد كانت الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة أبرز تلك الجماعات، رغم أنها صُنّفت تنظيمًا إرهابيًّا في بريطانيا عام 2005.
وقد تأسست الجماعة في عام 1982 على يد المتشدد “علي العشيبي” تحت اسم “شباب الجهاد”، وشاركت في العمليات القتالية في أفغانستان ضمن تنظيم القاعدة، وتحولت بعدها مدينة “مانشستر” البريطانية ومدينة برمنجهام إلى منطقة نفوذ خاصة لأعضاء الجماعة المقاتلة، العائدين من أفغانستان، تحت أنظار المخابرات البريطانية.
واعترف وزير الدولة البريطاني لشئون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا السابق “أليستر بيرت”، في أبريل 2018، بأنه من المحتمل أن بلاده كانت على اتصال مع ميليشيا الجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية خلال احتجاجات عام 2011 ضد الرئيس الليبي السابق “معمر القذافي”. وكشفت تقارير إعلامية أخرى أن أجهزة الأمن البريطانية كانت تدير سياسة “الباب المفتوح” التي سمحت للمقيمين الليبيين والمواطنين البريطانيين الليبيين بالانضمام إلى الاحتجاجات عام 2011 رغم أن بعضهم كان يخضع في السابق لأوامر مراقبة مكافحة الإرهاب.
وهكذا، فقد منحت بريطانيا وسهلت تهريب العديد من الليبيين الذين قاتلوا في صفوف المعارضة إبان مرحلة “معمر القذافي”. وظهرت هذه العلاقات على السطح بعد الهجومين الإرهابيين اللذين تم تنفيذهما في بريطانيا؛ الأول هو هجوم مانشستر في 2017 على يد “سلمان العبيدي”، وهو ابن عضو بارز في الجماعة. وكان الثاني هو الهجوم على ريدنغ الذي نفذه الليبي “خيري سعدالله” في يونيو الماضي (حصل على حق اللجوء في بريطانيا في 2012)، والذي صرّح بأنه كان محاربًا ضد العقيد “القذافي”، وأنه يعيش في مانشستر، المنطقة التي تضم الليبيين المناهضين لحكم “القذافي”، حيث سافر بعضهم وقت محاربتهم بمباركة بريطانية وأمريكية.
وقد أصبح العديدون من أعضاء الجماعة أعضاء بحكومة الوفاق، مثل “محمد عماري” عضو المجلس الرئاسي في حكومة الوفاق ووزير التعليم المكلف فيها، و”خالد المشري” الذي أُعيد انتخابه رئيسًا للمجلس الأعلى للدولة الجهاز الاستشاري لحكومة الوفاق، والعديد من الوجوه الأخرى.
4- الرغبة في دعم التقارب مع تركيا
لدى المملكة المتحدة علاقات جيدة مع تركيا، وانعكس ذلك في دعمها لها ولتحركاتها في وجه الاتحاد الأوروبي قبل خروجها منه. في أول الأمر، كانت رؤيتها نابعة من أن تركيا الساعية إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي قد تصبح -مثل دول الاتحاد السوفيتي السابق- أكثر تقبلًا للتحول الديمقراطي ولترسيخ قيم الاتحاد رغبة في تعزيز فرصها في قبول عضويتها. في هذا السياق، دعمت الأحزاب الثلاثة الرئيسية في بريطانيا (المحافظون، والعمال، والديمقراطيون الليبراليون) رسميًّا انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. وكانت هناك رغبة في مكافأة تركيا على دورها في الحرب الباردة وفي تكذيب الروايات التي تزعم أن أوروبا مصابة بداء كراهية الإسلام. وخلال الفترة 2013-2018، انضم المحافظون البريطانيون إلى حزب “أردوغان” (حزب العدالة والتنمية) في تجمع دولي للأحزاب المتشابهة التفكير حينها.
كذلك، ترى المملكة المتحدة أن تعزيز علاقاتها مع تركيا سيعزز نفوذها، وسيسمح لها بالتوسط بين تركيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية. وكانت لندن تخشى أن تدفع ضغوط الطرفين -الأوروبي والأمريكي- تركيا نحو التقارب مع روسيا. وقدرت أن السبيل لمنع ذلك يكون من خلال زيادة النفوذ البريطاني على تركيا. وظهر ذلك في موقفها المعترض على محاولات تعليق صادرات الأسلحة من دول الاتحاد الأوروبي إلى تركيا في شهر أكتوبر 2019. وبحسب صحيفة “الإندبندنت” البريطانية، فقد حالت معارضة بريطانيا دون اتخاذ قرار جماعي بتعليق صادرات الأسلحة الأوروبية إلى تركيا.
وفي الشهر نفسه، وخلال كلمة ألقاها أمام الجمعية البرلمانية لحلف شمال الأطلسي (الناتو) بالعاصمة البريطانية لندن، قال وزير الدفاع البريطاني “بن والاس”، إن تركيا كانت -ولا تزال- تواجه تهديدات من تنظيم PKK الإرهابي (حزب العمال الكردستاني)، وعليها الدفاع عن نفسها ضدّ هذه التهديدات، وَفْقًا لما ذكرته صحيفة “تايمز” البريطانية، كتبرير للعملية التركية “نبع السلام” بشمال سوريا. وقد تكون تجربة المملكة السابقة مع الإرهاب الأيرلندي لعبت دورًا في تفهم لندن لموقف أنقرة.
وتجب الإشارة هنا إلى أهمية العلاقات التجارية بين الطرفين، خاصة في ظل محاولة التوصل لاتفاق تجارة حرة بينهما بعد البريكست. بريطانيا تعد أحد أهم الشركاء التجاريين لتركيا، حيث تأتي في المرتبة الثانية بعد ألمانيا وفقًا للمعهد الإحصائي التركي TÜİK. وزاد حجم التجارة الثنائية بين الجانبين منذ عام 2008 بنسبة 65%، ووصل مع نهاية 2019 إلى 18.9 مليار جنيه إسترليني. وتعتبر بريطانيا ثاني أكبر سوق لصادرات تركيا، وثالث أكبر شريك استثماري لها.ختامًا، يمكن القول إن الموقف البريطاني حول ليبيا يتأسس على مجموعة المصالح البريطانية السابق ذكرها، لكن علينا الأخذ في الاعتبار بعض المتغيرات الأخرى، منها ملف مفاوضات الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي. كما تؤثر الذاكرة السياسية على الموقف البريطاني؛ إذ لم تنسَ لندن تدخلها العسكري السابق لإسقاط نظام “القذافي”، دون تقديم رؤية لمسار المرحلة الانتقالية لأسباب منها غياب المعلومات الاستخبارية آنذاك، حيث كانت الأجهزة شديدة التركيز على أفغانستان والعراق، وهو أمر ما زال يواجه بانتقادات حتى الآن في مجلس العموم. والسؤال المطروح الآن حول إمكانية إعادة بناء الدولة الليبية، وهو الحل الذي تحبذه لندن لمنع حصول روسيا على موطئ قدم، أم استحالة هذا، مما يوجب البحث عن صيغ أخرى. ومن ثم، تتحرك بريطانيا بحذر وبروية لصالح الحفاظ على تلك المصالح بأدنى تدخل معلن ممكن.