نهاية الأسبوع الماضي شهدت منطقة «تاجوراء» الواقعة على مسافة 20 كلم شرق العاصمة الليبية طرابلس، اندلاع اقتتال مفاجئ بين كتيبتين عسكريتين مواليتين لحكومة الوفاق. المشهد أصاب قيادات الغرب بحرج بالغ، فالتوقيت دقيق والترتيب لإنجاز تقاسم المناصب السيادية يجرى بالمغرب، وفى ذات التوقيت الوفود العسكرية من كلا الجهتين الشرقية والغربية كانت فى طريقها إلى القاهرة، ومن ثم إلى مدينة «الغردقة» لبدء اجتماعات اللجان المشتركة من أجل صياغة منظومة أمنية تتولى تأمين مدينة «سرت» مقر المستقبل السياسي الافتراضي، والبعثة الأممية ستكون حاضرة بالمدينة الساحلية المصرية كي تضع الأطر النهائية للعملية الانتقالية القادمة. جميعها مشاهد وخطوات لم تكن تنتظر انفجار الوضع الأمني على هذا النحو، في اشتباكات مسلحة قيل إنها بسبب خلافات ما بين قيادات الكتيبتين، رغم انتمائهما إلى معسكر واحد، لكنه به من فوائض الخلافات والسلاح ما جعل المشهد يخرج على هذا النحو المثير للانتباه والإزعاج.
“صلاح النمروش” الذي يتولى مسئولية الدفاع سارع بإخراج بيان حمل تأكيده على التدخل العاجل وأحالته القيادات المتورطة إلى التحقيق العسكري، وحرص على أن يشمل بيانه إشارة إلى أنه قد يلجأ إلى استخدام «القوة ضد الطرفين المتنازعين» في حال عدم الوقف الفوري لإطلاق النار. وهناك بعض من الإعلانات التي أثارت العديد من التساؤلات أكثر من كونها تمثل تطوراً للأحداث، مثل ما صرح به عن «حل» الكتيبتين وإحالة قياداتهما إلى المدعى العسكري العام، فهذا يجعل التفتيش عن طبيعة تلك الكتائب منطقياً، وهل بمقدور النمروش فعلياً حل هذه الكتائب، أو هل يملك تصوراً لبدائل إدماجها في قوة عسكرية هي في الأصل غير محددة الملامح؟ هذه بعض من الإشكاليات التي فتحت مع غيرها من التساؤلات باباً واسعاً لا يبدو أن أحداً اليوم يملك مفاتحه أو قادر على فصلها عن قضية الميليشيات المدعومة من تركيا التي تحظى بإسناد من المستشارين الأتراك القابعين بالغرب الليبي حتى الآن. لا يقف الأمر عند حد المستشارين العسكريين الأتراك الموجودين بقاعدة «معيتيقة» العسكرية وفى مدينة «مصراته»، بالرغم من إدارتهم المباشرة للجهد العسكري في الغرب الليبي بكامله أو هكذا يرمون إلى الاستحواذ عليه، وعلى القرار الأخير فيما يخص التسليح وعمليات الانتشار للكتائب والوحدات النظامية التي يسارعون في تشكيلها بغية امتلاك قوة وأوراق ضغط على بقية الأطراف بداخل ليبيا وخارجها. يمتد ذلك إلى حرص تركيا على تعزيز النشاط الأمني والعسكري «الخاص» للشركات التركية ذات الخبرة والإمكانيات داخل مدن الغرب الليبي، حيث ترى تلك الشركات وبضع من كيانات «غير رسمية» أن وجودها في تلك الساحة يحقق لها أرباحاً مالية لا يُستهان بها، فضلاً عن تحقيقها للأهداف السياسية لدولتها. لهذا سارع المستشار السابق للرئيس التركي «عدنان تانريفردى» بتوقيع عدد من العقود السخية لتدريب الميليشيات، وذلك بموجب بنود اتفاقية الدفاع التي وُقعت في ديسمبر الماضي. أشهر هذه العقود وأكبرها كان مع شركة «سايد» الأمنية الليبية، وعلى غرار ما قامت به الشركة التركية في سوريا ستعيد نفس السيناريو في ليبيا، حيث ساهمت في وقت سابق في تدريب المقاتلين السوريين في «إدلب» لمساعدة الجيش التركي، خلال عملياته العسكرية داخل الأراضي السورية في مناطق الشمال.
وفق تقرير صدر مؤخراً من وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون»، فإن عدنان تانريفيردى وظف (5000 مرتزق) سوري يعملون تحت قيادة شركة «سادات»، بما فيهم متطرفون لهم سجلات إرهابية سابقة، حيث جرى إرسالهم إلى ليبيا للقتال إلى جانب حكومة الوفاق في مواجهة الجيش الوطني الليبي، المهم أن التقرير ذكر أن هؤلاء المرتزقة ارتكبوا جرائم وفظائع في ليبيا، تتراوح بين السرقة والاعتداء الجنسي وسوء السلوك، ما يفاقم التدهور الأمني في البلاد. وبدت حادثة الاقتتال الأخيرة وثيقة الصلة بهذه النوعية من الجرائم التي أوردها التقرير الأمريكي، وتتوافق مع ما ذهب إليه العديد من المحللين الذين أكدوا طوال الوقت أن دفع المرتزقة إلى الداخل الليبي له من التداعيات بأكثر من كونه تزويد طرف بالمقاتلين، لمجابهة طرف آخر في معادلة قوة عسكرية، وهذا ما جرى بالفعل وانفتح المشهد الأمني على خروقات لا نهاية لها. المثير أيضاً أن التقرير الأمريكي كشف عن تفاصيل تلك الرعاية التركية، حيث أورد خريطة جغرافية لما تمتلكه الشركة التركية من معسكرات التدريب في مدن «بطمان» و«أورفه» و”هطاي”، وحدد أن أهم هذه المعسكرات يقع في غابات «ديار بكر»، حيث يضم المعسكر 3 مخازن كبيرة للأسلحة والذخائر، ومنها تجرى عمليات الشحن الجوي إلى ليبيا.
استخدمت تركيا تلك المعسكرات لتدريب عناصر من تنظيمي «داعش» و«حزب الله» التركي، وعدد من فصائل «هيئة تحرير الشام» التابعة لتنظيم «القاعدة»، على أساليب القتال والحروب غير النظامية لنشر الخراب في سوريا، واليوم هي تستهدف نقل التجربة إلى ليبيا باعتبارها ساحة بديلة، لانحسار قدرات حركة أردوغان الذي أدرك بشكل متزايد حجم الخطر المتمثل في إشكالية الاعتماد فقط على الجيش التركي لدعم نظامه وتنفيذ مخططاته الخارجية. لذلك يسعى جاهداً من أجل إنشاء تنظيم شبه عسكري على غرار «الحرس الثوري» الإيراني، من أجل توسيع مجال عمله في الداخل والخارج، وهذا ما يدفع أردوغان أكثر وأكثر للاعتماد على شركة «سادات» وغيرها، خاصة عندما يتعلق الأمر بمهام حساسة عسكرية وأمنية خارج حدود البلاد، والأهم كي يتمتع بهامش للمناورة أمام الملاحقات والمساءلة الدولية.
بعد هذا الحادث الأخير في «تاجوراء»، وفى ظل تغير ملموس لمواقف الأطراف الغربية التي منها من كان داعماً للتوغل التركي في ليبيا، على القيادات الليبية التي تخطو نحو مستقبل يحتاج للحد الأدنى من الاستقرار الأمني أن تقتحم ملف الوجود التركي الشائك في مدن الغرب الليبي، وتضع عملية إخراج المرتزقة وإلغاء جميع عقود استجلابهم وتدريبهم كمهمة أولى، لضمانة بناء جهاز أمن ليبي وطني قادر على الاضطلاع بمسئوليته الوطنية.