ما يحدث على أرض مصر، كجبل الجليد العائم، قمته فقط هي ما يراه الناس، أما بدن الجبل الغائص في قلب المحيط، فلا يظهر للعيان…!
أكثر من ذلك أن بعض المسئولين لا يعرفون بحق -في غير اختصاصهم حقيقة ما يجرى، لأن ايقاع الحركة أسرع من القدرة على الرصد والحصر…!
أمر آخر يخفى على البعض، ويسئ البعض الآخر النظر إليه بإنصاف، هو أن قرار إنشاء مشروع أو الولوج في تنفيذ صرح، أو إنفاق مليم من المال العام على مشروعات قومية أو كبرى أو صغرى، لا يتم اعتباطاً ولا عفو الخاطر، ولا بأسلوب التجربة والخطأ الذي هو أس البلاء الذي عشناه على مدار عقود في غيبة التخطيط السليم والإدارة الرشيدة والمتابعة التي لا تعرف الكلل.
معظم الإنجازات التي تحققت ويجرى تنفيذها على أرض مصر، كانت بين دفتي مجلد من 3 أجزاء، أعده الرئيس عبدالفتاح السيسي حينما كان مرشحاً للرئاسة، ووضع فيه أحلامه ورؤاه وتطلعاته لبلده وبنى وطنه التي تراكمت على مدار عقود طويلة، واستعان في دراستها وتصنيفها وترتيب أولوياتها وتحديد جداولها الزمنية وسبل تمويلها، بنخبة من أهم وأكفأ أصحاب المعرفة والخبرة في شتى التخصصات.
ثمة إنجازات أخرى كبرى، أضيفت إلى مجلد “الحلم المصري”، أو مشروع السيسي لبناء الدولة المصرية الحديثة، كانت حبيسة الأدراج، في دواليب مغلقة بمفاتيح صدئة، ألقيت في غياهب جُب البيروقراطية المصرية، التي تقدر على خنق أي فكرة أو دراسة، ووأدها في رمال النسيان..!
الذى فعله السيسي، أنه احتفظ بجرأة الحلم، وجسارة الإرادة على تحويله إلى حقائق، وأقدم بعزمه على نفض الغبار عن ملفات الدراسات التي عكفت على إعدادها عقول العلماء والخبراء.. والأهم أنه انطلق بتصميم لا يلين على رسم خريطة جديدة لمصر، تستهدف نشر العمران بحلول عام ٢٠٥٢ على مساحة ٢٢٪ من أرض مصر، بدلاً من ارتهانها في نطاق شديد الضيق بالدلتا والوادي وبعض النقاط المتناثرة شمالاً وشرقاً لا تتعدى نسبة 8٪ من مساحة البلاد.
امتلك السيسي الرؤية المسلحة بالعلم والدراسة وسلامة التخطيط وحسن التدبير للتمويل، وقبلها الإرادة السياسية على بناء مصر جديدة، لا يكتفى أبناؤها بالتغني بأمجاد ماض عريق، فكانت الإنجازات الهائلة من سيناء إلى منطقة قناة السويس إلى العاصمة الإدارية ومعها 19 مدينة جديدة، إلى محطات الكهرباء والمحطة النووية، إلى المزارع الكبرى، وغيرها وغيرها.
لست بصدد حصر ما تحقق ويراه ويلمسه الناس، والذي اعتبره قمة جبل الجليد العائم الظاهرة للعيان، وإنما سأكتفي في هذه السطور بمحاولة أن ننظر معاً ب”البيروسكوب” إلى جزء يسير من جبل الإنجازات الغاطس.
تحديداً، أتحدث عن مشروع القطار الكهربائي فائق السرعة، ومشروع استصلاح مليون ونصف المليون فدان، الذى وعد به الرئيس السيسي، بينما ما يجرى فعلاً ولا يدركه الناس هو استصلاح 4 ملايين فدان بهمة ونشاط ودأب ودون جلبة، وهو ما يقترب من نصف المساحة المزروعة على أرض مصر وتراكمت منذ قديم الأزل…!
يدرك السيسي من واقع اطلاعه على تاريخ الأمم أن الطرق والسكك الحديدية، هما أداة العمران والاتصال بين أرجاء أي بلدة، وهما أساس التنمية الحقيقية لأي أمة.
وظني أن إقامة السيسي في الولايات المتحدة أثناء دراسته بكلية الحرب العليا هناك، أتاحت له الفرصة لدراسة كيفية تحقيق المعجزة الأمريكية، ومنها أهمية إقامة شبكة حديثة من الطرق والسكك الحديدية، ولعله سأل نفسه، مثلما اعتاد أن يتساءل: متى نستطيع أن نفعل ذلك؟ ..وها قد حان الوقت لأن يشرع ويبادر وينجز..!
لم يكتف السيسي بالبرنامج الطموح لإصلاح السكك الحديدية، من خطوط ومزلقانات وإشارات حديثة وميكنة، فضلا عن شراء ٢٥٠ جراراً جديداً، ورفع كفاءة 122 جراراً، وشراء 1300 عربة قطار روسية وصل منها 280 عربة، و6 قطارات إسبانية، وكذلك تدشين شركة وطنية مشتركة مع القطاع الخاص لإنشاء مصنع لإنتاج الوحدات المتحركة للسكك الحديدية والمترو في شرق بورسعيد.
يوم الأربعاء الماضي، اجتمع السيسي بحضور الدكتور مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء والفريق كامل الوزير وزير النقل، مع جو كايسر رئيس شركة “سيمنس” الألمانية والدكتور رولاند بوش نائب الرئيس التنفيذي، وجرى خلال الاجتماع استعراض الاتفاق النهائي لقيام شركة “سيمنس” بإنشاء منظومة متكاملة لقطار كهربائي فائق السرعة بإجمالي أطوال حوالى ألف كيلومتر على مستوى الجمهورية وبتكلفة إجمالية 360 مليار جنيه، تبدأ بإنشاء خط يربط العين السخنة بمدينة العلمين الجديدة، أي يربط البحرين الأحمر والمتوسط، مرورا بالعاصمة الإدارية الجديدة ومدينة 6 أكتوبر وبرج العرب.
مدة تنفيذ هذا المشروع الهائل وتوريد القطار وتشغيل الخط عامان فقط…!
ليست هذه هي المرة الأولى التي يتعامل فيها الهر كايسر رئيس شركة “سيمنس” مع الرئيس السيسي. لذا لم يفاجأ بالجدول الزمنى شديد الضغط الذي طلبه الرئيس لتحقيق الإنجاز خلال 24 شهراً لا غير، ولا بأسلوب السيسي في التفاوض وخفض السعر إلى أدنى حد مستطاع.
مشروع محطات الكهرباء العملاقة الثلاث في العاصمة الإدارية والبرلس وبنى سويف، كان المحك الأول في علاقة الرئيس برئيس شركة “سيمنس”.
أذكر أثناء زيارة الرئيس السيسي لبرلين في أعقاب توقيع اتفاق تنفيذ ذلك المشروع، أن الهر كايسر قال للحضور: أحب أن أهنئ المصريين بأن لهم هذا الرئيس الرائع، رغم أنى وجدته مفاوضاً شديد المراس..!.
ويوم الخميس الماضي.. شهد الدكتور مصطفى مدبولي، مراسم توقيع مذكرة التفاهم بين وزارة النقل ممثلة في الهيئة القومية للأنفاق، وشركة “سيمنس” لتنفيذ هذه المنظومة من خطوط القطار الكهربائي فائق السرعة، الذي تبلغ سرعته التصميمية 250 كيلومتراً ففي الساعة.
في أعقاب الإعلان عن توقيع مذكرة التفاهم، سألت الفريق كامل الوزير: البعض يتساءل أليس مبلغ 360 مليار جنيه ضخماً للغاية على مشروع قطار كهربائي بين العين السخنة والعلمين، حتى ولو كان فائق السرعة؟ ثم ما المقصود بمنظومة القطارات الكهربائية؟
بأسلوبه المعهود.. أجاب الفريق كامل متسائلاً: من الذي قال؟
ثم أضاف: أن التكلفة الإجمالية لإنشاء الخط وتوريد القطار وتشغيله، هي 8 مليارات دولار “أى 120 مليار جنيه تقريباً”.
أما الباقي فهو لخطوط أخرى بالتحديد 3 خطوط أخرى ضمن المرحلة الأولى لمنظومة القطارات الكهربائية.
وأوضح الفريق كامل الوزير قائلاً:
الخط الأول بين العين السخنة والعلمين يبلغ طوله 460 كيلومتراً.
الخط الثاني يربط مدينة 6 أكتوبر بالأقصر، وفيما بعد يمتد إلى أسوان، بطول 800 كيلومتر، ويجرى إكمال الدراسات الخاصة به.
الخط الثالث يربط الغردقة بسفاجا بقنا بالأقصر بطول 285 كيلومتراً والدراسات الخاصة به مكتملة.
الخط الرابع يربط العلمين بمرسى مطروح بطول 200 كيلومتر ودراساته تحت الإعداد.
وسألت الفريق الوزير: من أين سيأتي التمويل؟
أجاب: “بقروض ميسرة من مجموعة بنوك عالمية بضمان الحكومة الألمانية، وكذلك بتمويل من الموازنة العامة للدولة”.
لعل السيسي هو الرئيس الوحيد الذي يسأل عندما ينجز المشروعات، من أين جئت بالأموال.. بينما غيره كان لا يسأل: أين ذهبت أموال الدولة!
مثال آخر، على خبايا جبل الجليد العائم، هو طريق الضبعة، الذي ما يزال البعض يتساءل: ما جدواه، برغم وجود طريق وادي النطرون العلمين!
ثمة من رآه إنفاقا على غير أولوية، وثمة من أخذ يدلل به على غيبة التخطيط السليم!
الحق أنه برهان ساطع على أن مشروعات هذا البلد في عهد السيسي، يسبقها دراسات متأنية تتوخى المستقبل، ونظرة استراتيجية تربط كافة عناصر التنمية المستدامة.
يوم الجمعة قبل الماضي، تفقد الرئيس السيسي مشروعاً ضخماً للإنتاج الزراعي تقيمه القوات الجوية لاستصلاح 500 ألف فدان باسم مشروع “مستقبل مصر”، على امتداد محور الضبعة، وقد انتهى بالفعل استصلاح نحو 200 ألف فدان فى هذا المشروع المتكامل للإنتاج والتصنيع الزراعي.
إذن كانت هناك رؤية لإنشاء طريق الضبعة لتخطى الربط بين العاصمة وهذه المنطقة في الساحل الشمالي الغربي.
سألت المحاسب السيد القصير وزير الزراعة: هل مساحة مشروع “مستقبل مصر” هي ضمن مشروع استصلاح المليون ونصف المليون فدان؟!
قال: لا.. هذا مشروع منفصل.
ثم فاجأني قائلاً: أزف إليك خبرا آخر؟!.. نحن نجرى الآن دراسات لاستصلاح نصف مليون فدان أخرى جنوب محور الضبعة. والنتائج المبدئية مبشرة وواعدة.
وأضاف: نحن نجري دراساتنا في وزارة الزراعة مع جامعتي القاهرة والإسكندرية، والبعض يتصور أنك إذا أردت زراعة أرض تلقى فيها بحبات أو بذور فتثمر! لابد أولاً من إجراء دراسات استكشافية للأرض، وحصر تصنيفى للتربة وتحديد درجة ملوحتها، لبيان صلاحيتها والزراعات المناسبة لها، وتحديد مصدر المياه الجوفية وصلاحيتها أو توصيل مياه ري لها، ثم إنشاء البنية الأساسية من طرق وكهرباء وغير ذلك.
وقال: الدراسات جارية والنتائج المبدئية -كما ذكرت- مبشرة.
قلت للوزير: ما هي المشروعات التي تقوم وزارة الزراعة باستصلاحها ضمن المليون ونصف المليون فدان؟
أجاب: المليون ونصف المليون فدان تتولاها شركة الريف المصري، أما الوزارة فتقوم حاليا باستصلاح 400 ألف فدان في شمال ووسط سيناء بخلاف 128 ألف فدان مزروعة بالفعل، بجانب دراسة استصلاح مناطق في منخفض توشكي والوادي الجديد، و50 ألف فدان في المحسمة، ومن المقرر أن ينتهي العمل في منتصف هذا العام في انشاء محطة معالجة مياه الصرف الزراعي بمصرف بحر البقر، وهى أكبر محطة معالجة من نوعها في العالم.
وقال: “هذه المساحات، ومعها مشروع مستقبل مصر لاستصلاح نصف مليون فدان، والمشروع تحت الدراسة لاستصلاح نصف مليون فدان أخرى بمحور الضبعة، وكذلك مشروع إنشاء مائة ألف صوبة زراعية، كلها لا تدخل ضمن مشروع المليون ونصف المليون فدان”.
إذن مشروعات الاستصلاح التي تقام تقترب مساحتها من 4 ملايين فدان.
حوار طويل جمعني تليفونيا باللواء عمرو عبد الوهاب رئيس مجلس إدارة شركة الريف المصري المسئولة عن مشروع المليون ونصف المليون فدان عن جوانب المشروع.
الرجل تولى منصبه منذ 4 شهور فقط، ومنذ شهرين عرض على الرئيس السيسي موقف المشروع وخطته المستقبلية، وتلقى توجيهات الرئيس التي تركزت على ضرورة الانتهاء بأسرع وقت من البنية الأساسية من طرق وشبكات كهرباء ليتسنى الانطلاق بعمليات الاستصلاح، وتقديم تيسيرات لصغار المزارعين والمستثمرين.
شركة الريف المصري ليست مالكا للأراضي، وانما هي مطور يستهدف إقامة مجتمعات عمرانية زراعية صناعية، تعتمد على الزراعة والتصنيع الزراعي وتنمية الثروة الحيوانية والداجنة والسمكية، ويبلغ رأسمال الشركة 80 مليار جنيه، منها 8 مليارات رأسمال مدفوع، والمساهمون فيها هم وزاراه الزراعة بحصة عينية من الأراضي وهيئة المجتمعات العمرانية بحصة نقدية ووزارة المالية.
إجمالي المتعاملين مع الشركة -حسبما يقول اللواء عمرو عبد الوهاب- 13 ألفا، منهم 9 آلاف من صغار المزارعين، الذين تخصص لكل مجموعة منهم يتراوح عددها ما بين 10 إلى 23 فرداً، مساحة 230 فدانا، من خلال شركة يكونونها لأن كل بئر منشأة تخدم هذه المساحة، وقد انتهى توزيع 80٪ من مساحة 285 ألف فدان على صغار المزارعين والشباب فى منطقة المغرة بمحور الضبعة.
من بين المتعاملين نحو 350 شركة لصغار المستثمرين بمساحة نحو 500 فدان لكل شركة، و15 شركة خاصة لكبار المستثمرين يستصلح كل منها ما بين ألفين إلى 10 آلاف فدان.
سألت اللواء عمرو عبد الوهاب عن الموقف الحالي للمشروع.
قال: نحن نركز الآن على استصلاح 850 ألف فدان، وسوف ننتهي بحلول شهر يونيو المقبل من استصلاح أكثر من نصف هذه المساحة، ونأمل أن نجذب مستثمرين جدداً من مصر وخارجها في الفترة المقبلة، ونتعشم أن نكون قد انتهينا من تخصيص ما يقرب من 90٪ من هذه المساحة في يونيو، لنتمكن في عام 2023/2024 من زراعة 60٪ من المساحة الكلية للمشروع، واستغلال الباقي في مشروعات التصنيع الزراعي وتربية الماشية والدواجن والاستزراع السمكي.
أما باكورة الإنتاج الزراعي لأراضي المشروع فسوف تظهر -بإذن الله- بحلول العروة الصيفية المقبلة.
ويوضح اللواء عبد الوهاب أن أراضي المشروع تقع في المغرة على مساحة 285 ألف فدان، وغرب غرب المنيا 160 ألفا وامتداد غرب المنيا 165 ألفا وسيوة 60 ألفا والطور 25 ألفا وتوشكى 89 ألفا والفرافرة 150 ألفا.
ويؤكد على أن الشركة تضع نماذج للالتزام بها في تصميم وتنفيذ المنازل وغيرها وتطبيق نظم الري الحديثة وإجراء دراسات بالتعاون مع أكاديمية البحث العلمي لتحديد التركيب المحصولي الأنسب لكل منطقة.
سألت رئيس الشركة عن خطط المستقبل.. أجاب قائلاً: هدفنا هو زيادة مساحة المليون ونصف المليون فدان بنسبة 10٪ على الأقل، وقد انتهينا من تجهيز 170 ألف فدان، سنعرض أمر تخصيصها على القيادة السياسية وهناك 11 مستثمراً تقدموا للحصول على قطع أراض منهم مستثمر عربي كبير طلب تخصيص 120 ألف فدان لإقامة مشروع زراعي رائد متكامل.
تلك كانت إطلالة سريعة على جانب من صورة مصر الجديدة، التي تحتاج إلى تسليط الأضواء لإبراز ما يجرى على أرضها.
نعم.. الإعلام عليه دور، لكن الدور الأول والأكبر يقع على كاهل المسئولين، من أجل إظهار الإنجازات الخبيئة وما أكثرها. فنحن لا نروج لأوهام ولا نعدو وراء سراب في صحراء قاحلة…!




