بعد أن ألقت جائحة كورونا بظلالها على الاقتصادات المختلفة لتتخذ معدلات النمو في جميع الدول اتجاهًا تنازليًا، جاءت أنباء تطوير وتوافر لقاحات فيروس كورونا بنتائج متباينة في الدول المختلفة لتعكس اختلاف وتباين مسارات التعافي المحتملة بين الاقتصادات. وفي هذا السياق، نشر صندوق النقد الدولي تقريرًا حول مستجدات آفاق الاقتصاد الإقليمي “الشرق الأوسط وآسيا الوسطى” والذي أشار إلى أن مسار تعافي اقتصادات دول الشرق الأوسط وآسيا الوسطى خلال عام 2021 من المتوقع أن يكون طويلًا ومتباينًا؛ إذ يتوقف على مسار الجائحة، والمدى الزمني المتوقع لنشر اللقاح، ومواطن الهشاشة الأساسية ومصادر النمو في الاقتصادات المختلفة، ونسبة مساهمة قطاع السياحة والقطاعات المعتمدة على الاتصال المباشر في معدل النمو، وحيز التصرف أمام السياسات وما تتخذه من إجراءات.
وفي هذا السياق، يستعرض المقال سياسات مواجهة الجائحة على النطاق الإقليمي، والمؤشرات الاقتصادية بدول الإقليم خلال عام الجائحة، ومسارات التعافي المحتملة، وما يواجهها من تحديات من واقع تقرير صندوق النقد الدولي.
سياسات مواجهة الجائحة على النطاق الإقليمي
طبقت العديد من الدول سياسات توسعية للخروج من الجائحة؛ فعلى مستوى السياسات المالية قدمت الحكومات حزم التحفيز المالية التي تم تقديرها بنحو 2% في المتوسط من الناتج المحلي الإجمالي لدول المنطقة، بالإضافة إلى إعادة ترتيب أولويات الإنفاق في اتجاه مزيد من الإنفاق على قطاع الصحة والرعاية الاجتماعية.
شكل (1): الدعم من المالية العامة للتصدي للجائحة
(نسبة من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي لعام 2020)
أما على مستوى السياسة النقدية، فقد تم تطبيق سياسات توسعية بتخفيض أسعار الفائدة الأساسية، وقد وصلت تلك التخفيضات أقصاها في مصر وباكستان، إذ خفضت مصر أسعار الفائدة بمقدار 400 نقطة أساس، وخفضت باكستان أسعار الفائدة بمقدار 625 نقطة أساس. وبالإضافة لتخفيض أسعار الفائدة قامت البنوك المركزية بتخفيض الاحتياطيات الإلزامية، وتأجيل سداد القروض، ووفرت السيولة وسمحت باستخدام هوامش حماية رأس المال لديها، وخفضت شروط الحد الأدنى من السيولة.
على جانب آخر، سجلت العديد من البلدان التي لديها أسعار صرف مرنة انخفاضًا في أسعار عملاتها في بداية فترة الجائحة، مثل: أرمينيا، وجورجيا، وكازاخستان، وجمهورية قيرغيزستان، والمغرب، وباكستان، وطاجيكستان، وتونس. وكان هناك بعض حالات من التدخل في سوق الصرف للحد من التقلب المفرط في أسعار العملات المحلية كما حدث في أرمينيا ومصر وجورجيا وكازاخستان وباكستان.
شكل (2): تعديل سعر السياسة النقدية
(التغير بنقاط الأساس منذ أواخر عام 2019)
وبجانب السياسات الوطنية المالية والنقدية للحد من الآثار السلبية للجائحة على الاقتصاد، فقد أدت بعض العوامل الخارجية إلى تعافي اقتصادات المنطقة خاصة بعد انحسار الموجة الأولى للجائحة؛ منها: استرداد النشاط الاقتصادي عافيته في الاقتصادات المتقدمة وكبرى الاقتصادات الصاعدة، وانتعاش التجارة العالمية، وتعافي أسعار السلع الأولية. ومن جهة أخرى، فقد ظلت الأوضاع المالية العالمية مواتية بوجه عام. فقد استقرت حركة تدفقات رؤوس الأموال في أواخر عام 2020 وارتفعت في بداية 2021، إلا أنه مع ارتفاع العائدات الأمريكية طويلة الأجل تم تسجيل بعض التدفقات الخارجية خلال الفترات الأخيرة.
المؤشرات الاقتصادية خلال عام الجائحة
معدل النمو الاقتصادي
تشير بيانات الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بالمنطقة إلى التعافي القوي خلال الربع الثالث من عام 2020 في ظل تخفيف إجراءات الإغلاق التام في معظم الدول، بما أدى إلى تصاعد معدلات النمو في أواخر عام 2020 وأوائل عام 2021 في بعض البلدان المصدرة للنفط مثل قطر والسعودية والإمارات. وعلى الجانب الآخر، استمر الانكماش في بعض الدول المستوردة للنفط وإن كان بدرجة أقل مما كان عليه خلال الموجة الأولى من الجائحة، كما في مصر، وكذلك لبنان التي قامت بفرض إغلاق تام مرة أخرى.
وقد سجل الناتج المحلي الحقيقي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا انخفاضًا بنسبة 3.4% عام 2020، والذي يعني ارتفاعًا بنسبة 1.6% عن التوقعات الصادرة في أكتوبر 2020، وذلك نتيجة نجاح السياسات المتبعة في الحد من الانكماش، وانحصار انتشار الفيروس جزئيًا خلال النصف الثاني من العام. أما بالنسبة لدول آسيا الوسطى ومنطقة القوقاز فقد سجلت انكماشا بنحو 1.9% بزيادة قدرها 0.2% عن التوقعات، مع وجود تباين بين البلدان، حيث انخفضت معدلات النمو الفعلية عن المتوقعة في بعض الدول، مثل أرمينيا وأذربيجان وتركمانستان، مقابل ارتفاع المعدلات الفعلية عن المتوقعة في دول أخرى، مثل قيرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان.
معدلات التضخم
شهدت معدلات التضخم ارتفاعًا كبيرًا في معظم دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ووسط آسيا، وذلك على الرغم من انخفاض معدلات الطلب، وانخفاض أسعار الطاقة؛ إلا أن ارتفاع أسعار الأغذية وتخفيض أسعار الفائدة وانخفاض سعر الصرف، أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم بالمنطقة باستثناء دول مجلس التعاون الخليجي والأردن والمغرب.
سوق العمل
ارتفعت معدلات البطالة خلال النصف الأول من عام 2020 (وصل إلى 25% في الأردن) واستمر الارتفاع حتى نهاية 2020، ويرجع ذلك إلى ارتفاع معدلات البطالة قبل الجائحة في العديد من البلدان، وخاصة بين الشباب، بالإضافة إلى استيعاب القطاعات التي تعتمد على الاتصال المباشر إلى ما يزيد عن 55% من وظائف القطاع الخاص في المنطقة قبل الجائحة. وعلى العكس من ذلك، ارتفعت الأجور في المؤسسات المملوكة للدولة نتيجة تطبيق السياسات الحكومية الرامية إلى دعم المؤسسات المملوكة للدولة والوظائف في القطاع العام.
الموازنة العامة
شهدت بلدان المنطقة ارتفاع معدلات عجز الموازنة العامة خلال عام 2020، حيث انخفضت الإيرادات العامة بصورة حادة نتيجة انكماش الطلب المحلي وهبوط أسعار النفط، وكذلك إجراءات السياسات الداعمة للتخفيف من تأثير الجائحة. وسجلت البلدان المصدرة للنفط تراجعًا لمواردها العامة مقارنة بالبلدان المستوردة للنفط، نتيجة انخفاض الإيرادات النفطية.
وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، اتسعت معدلات عجز المالية العامة وبلغت 10.1% من إجمالي الناتج المحلي 2020 مقابل 3.8 % من الناتج المحلي الإجمالي في 2019. وفي بلدان منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، سجل عجز الموازنة العامة -5.6% من الناتج المحلي الإجمالي في 2020، مقابل فائض بلغ 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2019.
وقد أدى ارتفاع معدلات عجز الموازنة إلى ارتفاع الدين العام في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ليسجل 56.4% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2020، مقابل 47.6% عام 2019. أما بالنسبة لمنطقة القوقاز ووسط آسيا فقد سجل الدين العام 33% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2020، مقابل 25.9% عام 2019. ويبين الشكل التالي تباين بلدان المنطقة فيما بينها فيما يتعلق بنسب الدين العام.
شكل (3): نسبة الدين العام من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي
مسارات التعافي المتباينة
أشار تقرير صندوق النقد الدولي إلى تباين توقعات النمو خلال عام 2021 نتيجة عدة عوامل، من بينها: اختلاف خطط نشر اللقاحات، حيث يتوقع ارتفاع معدلات النمو لمستويات قبل 2019 في البلدان المبكرة بالتطعيم، أما البلدان المتأخرة والبطيئة في تقديم اللقاحات فيتوقع عودة معدلات النمو لمستويات قبل عام 2019 خلال عامي 2022-2023.
ومن جهة أخرى، يتوقع أن تختلف مسارات التعافي وفقًا لسياسات مواجهة الجائحة؛ فالبلدان التي قدمت دعمًا من المالية العامة أعلى من المتوسط في 2020 من المتوقع أن تعود إلى معدلات نمو الناتج المحلي التي كانت سائدة قبل الأزمة خلال عام 2022. وعلى العكس من ذلك، فالبلدان التي قدمت دعمًا أقل من المتوسط لن تعود إلى مستويات عام 2019 حتى عام ۰2023
ويؤدي اختلاف نسبة عجز الموازنة العامة والديون الحكومية إلى تباين مسارات التعافي، نظرًا لما يترتب عليها من تزايد الاحتياجات التمويلية العامة، حيث تشير التوقعات إلى أن متوسطات إجمالي الاحتياجات التمويلية العامة خلال الفترة 2021 – 2022 في الأسواق الصاعدة بالمنطقة ستظل مرتفعة، ويصل أقصاها في البحرين ومصر، حيث يسجل 37% من الناتج المحلي الإجمالي سنويًا. وعلى الرغم من ارتفاع نسبة الديون إلا أنها ما زالت في المستويات التي يمكن تحملها.
وترتبط مسارات التعافي بمدى التماسك أو الصراعات المسلحة في البلدان المختلفة، لذا يتوقع أن يطول أمد التعافي في أفغانستان والصومال وسوريا واليمن، وأيضًا في العراق ولبنان وليبيا والسودان نتيجة الصراع الاقتصادى والسياسي.
ومع استمرار فرض إجراءات التباعد الاجتماعي والقيود على السفر المحلي والدولي يتوقع أن يتعافى قطاع السياحة تدريجيًا خلال الفترة بين 2022-2023 في أرمينيا والأردن والمغرب، بينما يمتد حتى نهاية 2024 و2025 في أذربيجان وجورجيا ولبنان.
تحديات التعافي الاقتصادي
أدت أزمة جائحة كورونا إلى تزايد الاحتياجات التمويلية العامة المقدرة على مدار الفترة 2021-2022 لتصل إلى 1.1 تريليون دولار مقارنة بنحو 754 مليار دولار في الفترة 2018-2019، ويزيد من خطورة ذلك ارتفاع درجة انكشاف البنوك المحلية للقطاع العام في العديد من بلدان الأسواق الصاعدة بالمنطقة. وقد يتفاقم هذا الوضع في حالة تشديد الأوضاع المالية العالمية، أو إذا أدى تباطؤ التعافي إلى تأخير إجراء التصحيح المقرر في 2021. وتهدد زيادة الاحتياجات التمويلية المحلية بزيادة مزاحمة الائتمان المتاح للقطاع الخاص، مما يضعف توقعات التعافي ويعرض الاستقرار المالي للخطر. ومع ارتفاع عوائد السندات الأمريكية مقارنة بالعائد على سندات الدين السيادي، يتوقع تدفق رؤوس الأموال المحلية للخارج بما يزيد من مخاطر الأوضاع المالية في اقتصادات المنطقة. ويواجه القطاع الخاص في دول المنطقة مخاطر احتمالية سحب السياسات الداعمة قبل انتهاء الجائحة، الأمر الذي سيؤدي إلى ارتفاع احتمالية إفلاس الشركات، وارتفاع معدلات البطالة، وزيادة القروض المتعثرة، وهو ما قد يترتب عليه مزيد من الانخفاض في السيولة المتاحة لدعم التعافي وتعريض الاستقرار المالي للخطر.
آفاق التعافي الاقتصادي على المدى المتوسط
من المتوقع أن تظل مستويات الناتج المحلي الإجمالي أقل مما جاء في التوقعات قبل الجائحة، نتيجة ارتفاع معدلات البطالة، وبطء تراكم رأس المال وضعف الإنتاجية. وتماشيًا مع الاتجاهات العالمية يُتوقع أن يطول أمد التعافي في البلدان المعتمدة على السياحة، ويتم تسريع التعافي في البلدان المصدرة للنفط.
وبالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، من المتوقع تحسن نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، إلا أنه يظل دون مستوى التوقعات قبل الأزمة بنحو 6 نقاط مئوية ليصل إلى 4٪ عام 2021 في المتوسط، مع وجود تباين بين دول المنطقة؛ حيث يتوقع انتعاش النمو بنسبة 1% في باكستان، وبقوة أكبر في أفغانستان في 2021 يصل إلى 4%. أما بالنسبة للبلدان المصدرة لنفط فيتوقع تحسن النشاط الاقتصادي خلال النصف الثاني من عام 2021، وفي المقابل يتوقع أن يكون التعافي بطيئًا في البلدان المستوردة للنفط في الأجل القصير ليصل إلى 2.3% في 2021 ويعتبر لبنان هو البلد الوحيد في المنطقة الذي يتوقع استمرار الانكماش في نشاطه، الأمر الذي يرجع إلى عمق الأزمة الاقتصادية والمالية التي تفاقمت بفعل الموجة الثانية للجائحة.
أما بالنسبة لمنطقة القوقاز وآسيا الوسطى، فيتوقع انتعاش النمو في عام 2021 ليعود إلى مستواه قبل الأزمة بفضل الدعم القوي من السياسات العام الماضي، وتشير التوقعات إلى وصول معدل نمو الناتج إلى 3.7% عام 2021، و4% عام 2025. ويتوقع نمو النشاط في البلدان المصدرة للنفط والغاز بالمنطقة عمومًا بنفس الوتيرة التي كانت متوقعة في أكتوبر 2020. وسيقع تأثير سلبي طفيف على النشاط في أذربيجان بسبب تخفيض إنتاج النفط في ظل اتفاقيات أوبك+، بينما تستطيع كازاخستان زيادة إنتاجها النفطي. ويتوقع تحسن الوضع في أوزبكستان بفضل انتعاش قطاع التعدين وكذلك النقل والضيافة. وخفضت توقعات النمو في بقية بلدان المنطقة بدرجة كبيرة انعكاسًا لتخفيض التوقعات شأن أرمينيا، نتيجة لتأثير الصراع الذي نشب العام الماضي، وكذلك الآثار المطولة والعميقة للموجة الثانية للجائحة، وضعف قطاع السياحة.
وأخيرًا، يمكن القول إن الآفاق الاقتصادية لدول شمال إفريقيا ووسط آسيا لا تزال محاطة بدرجة عالية من عدم اليقين، كما أن التحديات المباشرة مرتفعة، خاصة في ظل محاولة التوفيق بين الحفاظ على الأرواح واستمرار النشاط الاقتصادي، والتوازن بين تقديم الدعم الحكومي وضمان بقاء الدين في حدود مستدامة، الأمر الذي يشير إلى ضرورة أن تعمل بلدان المنطقة على تهيئة اقتصاداتها للمستقبل من خلال الاستفادة من الاتجاهات العامة السائدة كالرقمنة والتطور التكنولوجي، مع تعزيز شبكات الأمان الاجتماعي، وتحسين نظم الحوكمة للتخفيف من وطأة الصدمات المستقبلية، فضلًا عن أهمية تدعيم فرص التعاون الإقليمي والدولي لتدعيم السياسات المحلية القوية.