تكنولوجيا الرقائق الإلكترونية (أو الدوائر المتكاملة) هي واحدة من الركائز الأساسية لصناعة الإلكترونيات الحديثة، وتعد من أهم التطورات التي أحدثت ثورة في التكنولوجيا العالمية منذ منتصف القرن العشرين. هذه الرقائق تعتبر الأساس لمعظم الأجهزة الإلكترونية التي نستخدمها يوميًا مثل الهواتف الذكية، أجهزة الحاسب الآلي، الأجهزة الطبية، وحتى صناعة السيارات.
تكنولوجيا الرقائق الإلكترونية هي العمود الفقري للتقدم التكنولوجي في العالم، وتستمر في التطور بسرعة مذهلة. بفضل الابتكارات المستمرة، ستشهد المزيد من التحسينات في القدرات الحاسوبية، وتقنيات الاتصالات، والذكاء الاصطناعي؛ مما يفتح آفاقًا جديدة لا حدود لها في جميع جوانب الحياة. تسيطر أسواق مثل الولايات المتحدة وتايوان وكوريا الجنوبية والصين واليابان وأوروبا على الأسواق العالمية لصناعة الرقائق الإلكترونية، ويستمر البحث والتطوير والابتكارات في هذا المجال للوصول إلى حدود مذهلة من استخدام الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المواد لتفتح آفاقًا واسعة في العديد من المجالات؛ مثل الاتصالات، الطب، الفضاء، الصناعات الدفاعية، وصناعة الطاقة الجديدة والمتجددة.
ولم تكن مصر ببعيدة عن هذا المجال الحيوي. حيث تمثل صناعة الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات أهمية كبرى في الاقتصاد، فاتخذت مصر خطوات واعدة في هذا المجال. فقد صدر قرار مجلس الوزراء رقم (2732) لسنة 2024، بإنشاء المجلس الوطني لتوطين تكنولوجيا صناعة الرقائق الإلكترونية والخلايا الشمسية. وتطوير استراتيجية لتوطين الصناعة في مصر والاستفادة من موارد مصر الطبيعية وموقعها الجغرافي لحجز مقعد بين الدول الرائدة في المنطقة والإسهام في سلاسل الإمداد العالمية.
الرقائق الإلكترونية: هي دائرة كهربائية متكاملة مصغرة على قطعة صغيرة جدًا من مادة شبه موصلة، غالبًا ما تكون السيليكون أو الجرمانيوم بدرجة أقل. هذه الرقائق تحتوي على ملايين أو حتى مليارات الترانزستورات والدوائر الإلكترونية الأخرى التي تعمل معًا لأداء وظائف متعددة، مثل معالجة البيانات أو تخزينها أو التحكم في العمليات.
الرقائق الإلكترونية
تختلف الرقائق الإلكترونية في الحجم والتعقيد والتصميم والأداء، ويتطلب تصنيعها استخدام تقنيات حديثة ومتطورة، في عملية تتطلب مراقبة دقيقة لدرجة الحرارة والضغط وتركيز المواد المستخدمة، كما تتطلب إجراءات تنظيف وتحضير دقيقة للسطح قبل إضافة العناصر الإلكترونية. الرقائق الإلكترونية تأتي في أنواع مختلفة بناءً على الوظائف التي تؤديها والتطبيقات المختلفة لها في الأجهزة الإلكترونية. يمكن تقسيمها إلى عدة أنواع منها:
- الرقائق الرقمية (Digital Chips):
تُستخدم الرقائق الرقمية لمعالجة البيانات بشكل رقمي (أي باستخدام النظام الثنائي المكون من 0 و1). هذه الرقائق تُعتبر الأساس في معظم الأجهزة الحديثة مثل الحواسب والهواتف الذكية. ومن أمثلتها:
- المعالجات الدقيقة (Microprocessors): هذه الرقائق الأساسية لأي حاسوب أو جهاز ذكي، حيث تقوم بتنفيذ الأوامر والتعليمات الرقمية.
- وحدات المعالجة الرسومية (GPUs): تُستخدم لمعالجة الرسومات والفيديو، وهي ضرورية في الألعاب والذكاء الاصطناعي.
- الدوائر المتكاملة للمنطق (Logic ICs): تُستخدم في تنفيذ عمليات المنطق الرقمي مثل الجمع والطرح والعمليات المنطقية الأخرى.
- الرقائق التناظرية (Analog Chips):
الرقائق التناظرية تُستخدم لمعالجة الإشارات التي تكون في شكل موجات مستمرة، مثل إشارات الصوت والفيديو. ومن أمثلتها:
- المضخمات (Amplifiers) : تُستخدم لتكبير الإشارات التناظرية مثل إشارات الصوت.
- محولات الإشارات التناظرية إلى رقمية (ADC) : تقوم بتحويل الإشارات التناظرية إلى إشارات رقمية يمكن للحواسيب معالجتها.
- محولات الإشارات الرقمية إلى تناظرية (DAC): تقوم بتحويل الإشارات الرقمية إلى إشارات تناظرية.
- الرقائق المختلطة (Mixed-Signal Chips):
الرقائق المختلطة تجمع بين الدوائر الرقمية والتناظرية على الشريحة نفسها. هذه الرقائق تُستخدم بشكل واسع في الأجهزة التي تحتاج إلى التعامل مع كلا النوعين من الإشارات؛ مثل الهواتف الذكية، أجهزة الاستشعار، وأجهزة الاتصالات اللا سلكية.
- رقائق الذاكرة (Memory Chips):
تُستخدم رقائق الذاكرة لتخزين البيانات بشكل مؤقت أو دائم. هذه الرقائق تختلف بناءً على نوع الذاكرة التي تحتويها وقدرتها على الاحتفاظ بالمعلومات، مثل:
- الذاكرة العشوائية (RAM) : تُستخدم لتخزين البيانات بشكل مؤقت في أثناء تشغيل الجهاز.
- ذاكرة القراءة فقط (ROM) : تُستخدم لتخزين التعليمات التي لا تتغير، مثل البرامج الثابتة (firmware).
- الذاكرة الفلاشية (Flash Memory) : نوع من ذاكرة ROM التي يمكن إعادة كتابتها، تُستخدم في وحدات التخزين الخارجية والهواتف الذكية.
- الدوائر المدمجة القابلة للبرمجة (Programmable Logic Devices – PLDs):
هي رقائق يمكن برمجتها لأداء وظائف مختلفة بعد تصنيعها؛ مما يجعلها مرنة للغاية ويمكن تعديلها لتتناسب مع احتياجات معينة.
- الرقائق الكمية (Quantum Chips):
الرقائق الكمية هي أحدث تطورات التكنولوجيا التي تعتمد على ميكانيكا الكم. هذه الرقائق قادرة على إجراء حسابات أكثر تعقيدًا بكثير مقارنة بالرقائق التقليدية. تستخدم في الحوسبة الفائقة، الذكاء الاصطناعي، التشفير.
صناعة الرقائق الإلكترونية وتطوير أشباه الموصلات
تقود صناعة وتطوير أشبه الموصلات تطبيقات الثورة الصناعية الرابعة بكل ما تتضمنه من تطبيقات للذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة والروبوتات وإنترنت الأشياء والتحول الرقمي حتى السيارات ذاتية القيادة. وتتنافس الدول والشركات العالمية على تطور التصميم والتصنيع لهذه المكونات عالية التقنية والتي شكلت مكونًا رئيسيًا مهمًا للغاية في الاقتصاد العالمي حاليًا. ولعل أسواق مثل تايوان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة والصين واليابان هم الأكثر تنافسًا والأكثر استثمارًا في مجال الصناعات التكنولوجية عالية التقنية ومكوناتها الرئيسية من أشباه الموصلات والدوائر المتكاملة، وتطوير تطبيقاتها في صناعة الإلكترونيات ولصناعات الدفاعية وتكنولوجيا الفضاء وغيرها.
مع الطلب المتزايد على الرقائق الإلكترونية، تعمل الشركات على تطوير الرقائق عالية الدقة والكفاءة، مع تصغير الحجم ودمج التطبيقات المختلفة والقدرة العالية على نقل البيانات بسرعة ودقة عالية مع خفض التكلفة. وبالتالي هناك تغييرات مستمرة في السوق العالمي وتنافس دولي على الصناعة.
أسواق الرقائق الإلكترونية عالميًا
بلغ حجم أسواق الرقائق الإلكترونية عالميًا لعام 2023، حوالي 544.8 مليار دولار. ومع تزايد الطلب على التكنولوجيا المتقدمة وتطبيقاتها الحديثة، يتوقع أن ينمو سوق الرقائق الإلكترونية ليصل إلى أكثر من تريليون دولار بحلول عام 2030، وتستحوذ أسواق مثل تايوان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة واليابان على السوق العالمية. وتستمر الشركات في الاستثمار في البحث والتطوير بكثافة لتطوير التصميم والكفاءة والتطبيقات مع إمكانية خفض التكلفة، وكانت شركات مثل ” TMSC” في تايوان متصدرة السوق العالمي بحصة تزيد عن 50% والتي كانت ترتكز على التصنيع أكثر من التصميم فأصبحت أكبر مصنع مستقل في صناعة أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية عالميًا، وتخطت قيمتها السوقية لعام 2024 حوالي 694 مليار دولار.
تليها شركة “سامسونج” في كوريا الجنوبية بحصة 17% من السوق العالمي، وهي ثاني أكبر مصنع للرقائق في العالم، وهي رائدة في مجال تصنيع رقائق الذاكرة (DRAM وNAND).
وفي الولايات المتحدة تعد شركة “Intel Corporation” أحد أقدم وأكبر اللاعبين في صناعة أشباه الموصلات، وتركز على صناعات معالجات x86 المستخدمة في الحواسيب الشخصية والخوادم.
يوضح الجدول التالي أكبر 10 شركات في صناعة الرقائق الإلكترونية عالميًا وفقًا لبيانات عام 2023.
الشركة | البلد | الحصة السوقية | |
1 | TSMC (Taiwan Semiconductor) | تايوان | 54% |
2 | سامسونج للإلكترونيات (Samsung) | كوريا الجنوبية | 17% |
3 | إنتل (Intel) | الولايات المتحدة | 12% |
4 | SK Hynix | كوريا الجنوبية | 6% |
5 | كوالكوم (Qualcomm) | الولايات المتحدة | 4% |
6 | Broadcom | الولايات المتحدة | 3% |
7 | Micron Technology | الولايات المتحدة | 3% |
8 | NVIDIA | الولايات المتحدة | 2% |
9 | Texas Instruments | الولايات المتحدة | 2% |
10 | AMD (Advanced Micro Devices) | الولايات المتحدة | 1% |
آفاق صناعة الرقائق الإلكترونية في مصر
على الرغم من سيطرة عدد محدود من دول العالم على صناعة الرقائق الإلكترونية عالميًا، فإن بعض الاقتصادات الناشئة بدأت في التوجه لهذا القطاع الرئيسي، فظهرت أسواق مثل الهند وماليزيا وسنغافورا؛ مما ساعد هذه الدول على التقدم في مجال التكنولوجيا الرقمية وظهور شركات ناشئة تركز على ابتكار وتطوير الرقائق الإلكترونية، وظهرت بعض التجارب العربية مثل تجربة الإمارات في توطين الصناعة من خلال الاستثمار في شركة ” جلوبال فاوندرز” لتصنيع الرقائق الإلكترونية.
بالنظر إلى تطور الأسواق الناشئة فهناك فرصة لكي تدخل مصر سوق الرقائق الإلكترونية ووضع استراتيجية متكاملة للاستفادة من الموارد الطبيعية وتوافر العمالة ودعم الصناعات التكنولوجية عالية التقنية بشكل عام وصناعة الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات بشكل خاص. بجانب الاستفادة من التعاون الدولي ونقل المعرفة من خلال الشركات العالمية والتي تمتلك مصر بالفعل وجودًا لها على أرضها مثل شركتي سامسونج وإل جي.
ومن خلال تحليل جاهزية الاقتصاد المصري حاليًا لدعم صناعة مثل صناعة الرقائق الإلكترونية وتعزيز دورها في الاقتصاد المصري. نجد أن هناك محاور رئيسية تتمتع بها مصر تشجع على الدخول في نادي الصناعات التكنولوجية عالية التقنية وهي:
- جاهزية البنية التحتية الصناعية.
- تشجيع الشركات الناشئة والصغيرة لدخول مجال الرقائق الإلكترونية.
- وجود الكوادر العلمية والفنية والبحثية اللازمة لتطوير الصناعة.
- إمكانية الشراكات الدولية مع كبرى الشركات العالمية في المجال.
- وأخيرًا والمحور الأهم هو تطوير بيئة محفزة وسياسات داعمة للصناعة وتوضيح الإجراءات والقوانين وأطر العمل.
وهناك بعض الحوافز الأخرى التي تدعم هذه الصناعة مثل انخفاض تكلفة مدخلات الإنتاج مثل دفع ضريبة جمركية موحدة 2% فقط على الآلات والمعدات والأجهزة. فضلًا عن توفر بعض المواد الخام من العناصر اللازمة لتلك الصناعة مثل ( التنجستين – النيوبيوم – التنتاليوم)، بالإضافة إلى الرمال البيضاء التي تُعتبر العنصر الأساسي المكون للسيلكون الذي هو عصب التكنولوجيا. فضلًا عن اتجاه الدولة لإنشاء المجمعات الصناعية والتكنولوجية وتزويدها بالبنية التحتية الجاذبة للاستثمار.
تحديات أمام الصناعة
هناك عدد من التحديات التي تواجه مصر في توجهها نحو الصناعات التكنولوجية مثل: انخفاض ترتيب مصر في مؤشر الابتكار العالمي وهو الذي يقيس قدرتها على الابتكار والتنافسية بين دول العالم المتقدم؛ حيث احتلت المركز 86 من بين 132 دولة وكذلك المركز 64 في مؤشر تنافسية الأداء الصناعي. كما أن مصر لا تزال محدودة الإنفاق على البحث العلمي والتطوير، حيث بلغ الإنفاق على البحث والتطوير أقل من 1% من الناتج المحلي الإجمالي لتصل تقريبًا إلى 305 مليارات جنيه لعام 2023، في حين يبلغ إنفاق دول أخرى في المنطقة حوالي 4.5% من الناتج المحلي الإجمالي.
كما أن هناك بعض العقبات التي تتعلق ببناء القدرات الفنية وتدريب العمالة حيث لا يزال التعليم الفني والتكنولوجي رغم الجهود المبذولة والخطوات الواسعة في إنشاء المدارس والجامعات التكنولوجية بحاجة لمزيد من التطوير وربط الجانب النظري بالعملي ومتطلبات سوق العمل العالمي.
والعقبة الأهم واللازمة لجذب الاستثمار في مجال صناعة التكنولوجيا بشكل عام هي تعدد الجهات والمؤسسات المختصة سواء بتطوير الصناعة أو إنشاء المجمعات الصناعية أو تطوير الخطط والاستراتيجيات وعدم وجود هيكل مؤسسي واحد يختص بكل ما يتعلق بالصناعات التكنولوجية. ولعل قرار مجلس الوزراء لعام 2024 بإنشاء المجلس الوطني لتوطين تكنولوجيا صناعة الرقائق الإلكترونية والخلايا الشمسية، وتطوير استراتيجية وطنية متكاملة لتوطين الصناعة تكون هي بداية المسار الصحيح نحو تعزيز تطور هذه الصناعة.
خطوات تنفيذية لدعم الصناعة في مصر
وجه رئيس مجلس الوزراء بسرعة الانتهاء من تطوير الاستراتيجية الوطنية لصناعة الرقائق الإلكترونية والخلايا الشمسية، وكذلك مراجعة التشريعات والسياسات وآليات الاستثمار في هذا المجال. كما هناك توجه بتدبير 2 مليون دولار من موازنة عام 2025 لدراسة إمكانيات الاستفادة من موارد مصر وتوطين الصناعة وعمل الدراسات المطلوبة من خلال التعاقد من استشاري دولي متخصص.
إقامة مشروع وادي السليكون على مساحة 200 فدان وبتكلفة تفوق المليار دولار من خلال 4 مراحل:
- إنشاء مجمع إنتاج السيلكون المعدني بطاقة إجمالية 45 ألف طن سنويًا ومن المخطط بدء الإنتاج في الربع الثاني من عام 2025، وإيقاف تصديره في صورته الخام.
- دراسة إنتاج مصنع لإنتاج السيلكون مونمر بطاقة إنتاجية 100 ألف طن سنويًا وذلك عقب تنفيذ المرحلة الأولي.
- دراسة مصنع لإنتاج البولي سيلكون بطاقة إنتاجية 10 آلاف طن سنويًا.
- دراسة مشروعات مشتركة مع الشركات الدولية بعد تنفيذ المراحل الثلاث الأولى لصناعة الرقائق الإلكترونية واستخدام المنتجات الأولى كمدخلات إنتاج.
وختامًا، العمل على دعم وتطوير صناعة من أهم الصناعات التي يقوم عليها الاقتصاد العالمي يجب أن يكون وفقًا لخطة عمل محددة الأهداف والمعالم، والبدء في تفعيل المجمعات التكنولوجية المتخصصة من خلال عمل شراكة مع إحدى الشركات العالمية سواء الأمريكية أو التايوانية وتطوير برنامج عمل حتى عام 2030. يشمل البرنامج زيادة الاهتمام بالبحث والتطوير والتصميم ونقل المعرفة وصولًا إلى التصنيع والتجميع والتغليف. بالإضافة إلى التواصل مع الشركات الدولية لفتح فروع للمصانع في مصر، أو إنشاء ما يسمى ” المسبك” وهو مصنع تابع للشركة العالمية على أرض مصرية. وتطوير بيئة عمل جاذبة للاستثمارات تساعد في توطين الصناعة وزيادة الصادرات.