تَوالت المواقف الدولية والإقليمية في أعقاب الانقلاب الثاني لمالي في أقل من عام من خلال دعوة الجهات الفاعلة الوطنية والدولية إلى تعزيز مؤسسات الدولة وسيادة القانون لتجنب الأزمات المُتكررة، وضمان احترام حقوق الإنسان، وضرورة الدخول في حوار لاستعادة السلام الدائم والاستقرار والحريات الأساسية في مالي. وفي هذا السياق، عينت المحكمة الدستورية “أسيمي جويتا” رئيسًا انتقاليًا بعد يومين من إعلان نفسه زعيمًا مؤقتًا في الثامن والعشرين من مايو 2021، وفقًا للمادة رقم (37) من الدستور، والذي أدى اليمين الدستوري رسميًا أمام المحكمة العليا في السابع من يونيو 2021 بمركز باماكو الدولي للمؤتمرات (CICB).
تعليق العضوية والتعاون مع مالي
في الثلاثين من مايو 2021، قررت الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) في القمة الاستثنائية للوضع في مالي، تعليق عضوية مالي في مؤسساتها، ولكن لم تُعلن عن عقوبات مثل التي فرضتها بعد الانقلاب في أغسطس 2020، كما جددت الدعوة إلى تعيين رئيس وزراء مدني جديد على الفور، لكن لم تشكك في شرعية تنصيب “جويتا” كرئيس انتقالي جديد، بعد تصديق المحكمة الدستورية في مالي، ولم تُطالبه بالتنحي. ونتيجة تعليق عضويتها لن تتمكن مالي من المُشاركة في اجتماعات جماعة (إيكواس)، أو استضافة اجتماعات الجماعة، أو شغل مناصب إقليمية أو شبه إقليمية، أو تولّي الرئاسة الدورية للجماعة.
وبعد أيام قليلة من إعلان جماعة (إيكواس) تعليق عضوية مالي، علق الاتحاد الإفريقي (AU) عضويتها في بيان أقره مجلس السلم والأمن الإفريقي في الأول من يونيو 2021، حتى استعادة النظام الدستوري في البلاد. كما دعا الاتحاد الإفريقي الجيش المالي للعودة بشكل عاجل وغير مشروط إلى ثكناته، والامتناع عن أي تدخل مُستقبلي في العملية السياسية، مُطالبًا بتهيئة الظروف للعودة إلى الانتقال الديمقراطي بدون عوائق، وحذر من أنه “إذا لم يسلم الجيش السلطة لقادة المرحلة الانتقالية المدنيين، فلن يتردد في فرض عقوبات مُحددة الهدف وإجراءات عقابية أخرى”.
وتزايدت عزلة مالي بتعليق المنظمة الدولية للفرنكوفونية في الثالث من يونيو 2021، عضوية مالي من المنظمة وأوقفتها من هيئات صنع القرار حتى استعادة الحكم الديمقراطي. إضافة إلى ذلك، أوقف البنك الدولي مؤقتًا المدفوعات لعملياته بمالي في الرابع من يونيو 2021، حيث وصلت قيمة المشروعات التي تُمولها مؤسسته الدولية للتنمية (IDA) حوالي 1.5 مليار دولار. كما أوقفت الولايات المتحدة الأمريكية جميع المساعدات الأمنية لمالي.
مُشاورات وقمة استثنائية للوضع في مالي
تُواصل بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (مينوسما) مُراقبة التطورات السياسية في مالي عن كثب، وكررت التزامها بالعمل مع جماعة (إيكواس) والاتحاد الإفريقي للعودة لدعم مالي لمواكبة ومُواصلة التنفيذ الناجح للمرحلة الانتقالية، والعودة إلى النظام الدستوري وسيادة القانون من خلال انتخابات حرة وشفافة. ومن ثم استضاف “نانا أكوفو-أدو”، رئيس دولة غانا والرئيس الحالي لهيئة رؤساء دول وحكومات جماعة (إيكواس)، المحادثات في العاصمة الغانية أكرا، وجاءت القمة لاستعراض الأزمة السياسية والاجتماعية الحالية في مالي، ولتحديد مسار العمل التالي للانتقال، وسياق التحديات الأمنية والهجمات الإرهابية المُستمرة، والتأكيد على أهمية وضرورة احترام العملية الديمقراطية بما يتفق مع بروتوكول جماعة (إيكواس) لعام 2001 وتحديدًا المادة رقم (45) بشأن الديمقراطية والحكم الرشيد.
وخَلصت القمة إلى مجموعة توصيات، بالدعوة إلى تعيين رئيس وزراء مدني جديد، وضرورة تشكيل حكومة شاملة جديدة لاستكمال المرحلة الانتقالية، وإعادة التأكيد على ضرورة احترام الفترة الانتقالية لمدة 18 شهرًا حتى السابع والعشرين من فبراير 2022، وانعقاد الانتخابات الرئاسية، وسيتم وضع آلية مُراقبة لهذه الانتخابات. فضلًا عن التأكيد على عدم ترشيح رئيس المرحلة الانتقالية ونائب الرئيس في الانتخابات الرئاسية المُقبلة.
تعليق العمليات العسكرية المُشتركة
حذر الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” من مخاطر تحرك مالي نحو نفوذ إسلامي أكبر، وتأتي هذه التصريحات مواكبة لإعلان فرنسا إنهاء عملية برخان وإعادة هيكلة حضورها العسكري في منطقة الساحل الإفريقي. وبرر “ماكرون” خطابه الجديد بالمخاطرة، بأن هذا انقلاب جديد على رأس السلطة في مالي يدفعها لأن تكون أكثر انفتاحًا على الإسلام الراديكالي.
واتصالًا بالسابق، ترددت دعوات لفكرة الحوار مع الجماعات المُسلحة بمالي خلال الفترة الانتقالية، حيث أبدت الحكومة الانتقالية في مالي التي تم تشكيلها في أكتوبر 2020 استعدادها لفتح الحوار مع الجماعات المُسلحة، ولكن عارضت فرنسا هذه الرؤى بشأن الحوار، وأوضح “جان إيف لودريان” -وزير الخارجية الفرنسي- أثناء زيارة إلى باماكو في السادس من أكتوبر 2020، موقفه المعارض للحوار والذي يُشاركه فيه مجلس الأمن الدولي ودول الساحل الخمس (G5).
وفي الثالث من يونيو 2021 أعلنت وزارة القوات المُسلحة الفرنسية أن فرنسا تُعلق عملياتها العسكرية المُشتركة مع القوات المالية كإجراء مؤقت، وقال البيان إن “المتطلبات والخطوط الحمراء حددتها جماعة (إيكواس) والاتحاد الإفريقي لتوضيح إطار العمل للانتقال السياسي في مالي، وتم اتخاذ هذا القرار بعد التشاور مع السلطات والجيش المالي، وسيعاد تقييمه خلال الأيام المُقبلة، وستواصل القوات الفرنسية العمل هناك بشكل مُستقل. وقد يكون هذا البيان بمثابة تحذير عن تسمية الشخصيات المؤيدة للجماعات الجهادية في الحكومة الانتقالية والدعوة إلى الحوار مع هذه الجماعات. فضلًا عن ضرورة وجود ضمانات لعودة المدنيين والحياة الديمقراطية في مالي.
وفي السياق ذاته، قالت “أنجيلا ميركل”، المستشارة الألمانية في مؤتمر صحفي مُشترك مع “ماكرون”، إن ألمانيا تُشارك بعدة مئات من الجنود في مهام بعثة “مينوسما” لتحقيق الاستقرار في مالي، ومهام التدريب التابعة للاتحاد الأوروبي (EUTM)، حيث أنفقت ألمانيا حوالي 3.2 مليارات يورو بين عامي 2016 و2020 على تدابير الاستقرار المدني في دول الساحل الخمس، وأكدت “ميركل” ضرورة مُواصلة عمليات الانتشار بشرط عدم تجاوز الخطوط الحمراء، وإجراء انتخابات، وعدم وجود اتصال مع الحركات الجهادية، والاتفاق على إجراء تبادل حول التطورات في مالي.
وكرد فعل رسمي من مالي بعد قرار فرنسا تعليق العمليات المشتركة مع القوات المالية، استقبلت وزارة الخارجية المالية في الرابع من يونيو 2021 “جويل ماير”، السفير الفرنسي لدى باماكو، من أجل التهدئة والبحث عن حل، وشدد البيان الرسمي الذي نشر في نهاية الاجتماع على أن “مالي ستحترم التزاماتها تجاه المجتمع الدولي، وتأكيد فرنسا على أهمية الشراكة بين البلدين في مُكافحة الإرهاب بشرط أن تقدم مالي التعهدات والضمانات الأولية للمرحلة الانتقالية”.
باختصار، فإن الانقلاب الأخير في مالي يخلق حالة من عدم اليقين السياسي، ويُضاعف من التوترات الاجتماعية والانقسامات الإثنية داخل البلاد، فضلًا عن التحديات الأمنية والهجمات الإرهابية، ويفرض على مالي عزلة إقليمية ودولية خاصة بعد تعليق عضويتها في المنظمة الإقليمية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) أو المنظمة القارية (الاتحاد الإفريقي)، أو تعليق المساعدات الأمنية من قِبل الداعمين الدوليين الرئيسيين.