في مشهد ثوري جديد، قرر الرئيس التونسي قيس سعيد تجميد البرلمان ورفع الحصانة عن جميع النواب، وإقالة رئيس الوزراء هشام المشيشي من منصبه بعد احتجاجات شعبية عنيفة، جرت في عدة مدن تونسية. دفعت ردود الأفعال الساحة التونسية باتجاه معضلة جديدة بين اعتبار ما جرى “قرارات تاريخية” أم “انقلاب على الشرعية”. وارتباطًا بذلك، شهدت الساحة الأمريكية انعكاسًا مباشرًا لهذه المعضلة تسببت في فجوة بين الموقف الرسمي للإدارة الأمريكية والموقف غير الرسمي المتمثل في مراكز الفكر والأبحاث الأمريكية. الأمر الذي يثير تساؤلًا حول موقف إدارة الرئيس “جو بايدن” من التطورات الجارية على الساحة التونسية، والعوامل المؤثرة على مساره.
موقف حذر
في أعقاب التحركات التي أقدم عليها الرئيس التونسي، أجرى وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” اتصالاً هاتفيًا يوم 26 يوليو مع الرئيس سعيد، أكد خلاله الشراكة القوية بين واشنطن وتونس ودعم واشنطن المستمر للشعب التونسي في مواجهة التحديات المزدوجة كالأزمة الاقتصادية ووباء كورونا، ودعا الرئيس سعيد إلى التمسك بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان التي تمثل دعائم الحكم في تونس، مؤكدًا ضرورة مواصلة الحوار المفتوح مع جميع الجهات السياسية والشعب التونسي، لافتًا إلى أن واشنطن ستواصل مراقبة الوضع والبقاء على اتصال.
وفي ذات السياق، أبدت واشنطن قلقها إزاء قرارات الرئيس “سعيد” على لسان المتحدثة باسم البيت الأبيض “جين ساكي”، ودعت إلى احترام “المبادئ الديمقراطية” في البلد التي تعد مهد “الربيع العربي”، وأكدت استمرار التواصل على أعلى مستوى. ودعت واشنطن إلى الهدوء ودعم الجهود التونسية للمضي قدمًا بما يتوافق مع المبادئ الديموقراطية. وفي ذات السياق، أوضحت”ساكي” أن البيت الأبيض لا يصف ما حدث في تونس بكونه “انقلاب”، استنادًا من كون هذا التوصيف قانوني يتطلب الانتظار حتى تجري وزارة الخارجية الأمريكية تحليلاً قانونيًا قبل اتخاذ قرار بهذا الشأن.
ومن جهتها، أوضحت الخارجية الأمريكية في بيانٍ لها أن واشنطن تراقب عن كثب التطورات في تونس، وتستمر في قنوات اتصالها مع المسؤولين في الحكومة التونسية للتأكيد على أن “حلول المشاكل السياسية والاقتصادية في تونس يجب أن تستند إلى الدستور التونسي ومبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية”. وأضاف البيان رفض واشنطن لأي إجراءات من شأنها خنق الخطاب الديمقراطي أو تأجيج العنف، وعبّر البيان عن الإنزعاج من التحركات من إغلاق مكاتب وسائل الإعلام، داعيًا إلى ضرورة احترام حرية التعبير وغيرها من الحقوق المدنية.
من جانبه، عبّر رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي “بوب مينينديز” عن قلقه الشديد حيال التقارير القادمة من تونس. قائلًا إنه يأمل أن تنتصر ما اعتبره الديمقراطية الناشئة والملهمة في تونس، وألا ينجرف أي من الأطراف صوب العنف، مؤكدًا ضرورة أن يسود السلام.
وعليه، يبدو أن الحذر يخيم على موقف إدارة “بايدن” من قرارات الرئيس التونسي، كما يبدو أن هناك رغبة في تجنب الظهور بمظهر منحاز لأحد الأطراف. ويمكن إرجاع حالة الحذر إلى عدد من الأسباب، أبرزها:
- أولوية الداخل: بالنظر إلى تعقد المشهد الأمريكي الداخل، يمكن التوصل إلى استنتاج مفاده أن أولوية التعاطي مع المشكلات الداخلية يضع قيودًا على التوسع في حجم الإنخراط الخارجي، سيما في القضايا غير الحيوية أو غير العاجلة.
- تجنب أخطاء الماضي: إذ يبدو أن إدارة “بايدن” تسعى لتجنب الوقوع في الأخطاء التي وقعت فيها إدارة سلفه “أوباما” في التعاطي مع القضايا المماثلة أثناء “ثورات الربيع العربي” والمرحلة التي تلتها، إذ يتضح أن اتخاذ واشنطن لمواقف جدية حيال بعض القضايا قد ساهم في عرقلة دورها وتشويه صورتها.
- الصورة الكاملة: يبدو أن موقف واشنطن الحذر قد يكون نابعًا من قدرتها على استقراء المشهد التونسي بكل أبعاده المتداخلة. أي أن واشنطن تدرك أن سيولة المشهد التونسي تتطلب منها استجابة مرنة ترتبط بتطورات الموقف على الأرض.
مراكز الفكر…موضوعية محل تساؤل
في مقابل الموقف الحذر والهادئ الذي يخيم على موقف الولايات المتحدة الرسمي جاءت مواقف مراكز الفكر والأبحاث على النقيض من ذلك، ما يعني أن النخبة الفكرية هناك قد يكون لديها مقاربة مختلفة. فعند النظر لعينة من أهم مراكز الفكر والأبحاث الأمريكية يتضح أنها –في الغالب– مالت إلى إدانة التحركات التي قام بها الرئيس “سعيد”، ودعت واشنطن إلى اتخاذ موقف أكثر صرامة حيالها.
فقد أشار معهد بروكنجز في مقال بعنوان: انتزاع قيس سعيد للسلطة في تونس، إلى أن انتزاع الرئيس سعيد للسلطة يمثل اختبارًا حقيقيًا للديمقراطية الوليدة في تونس؛ إذ سيشكل المسار الذي ستسلكه تونس ما بين أن تظل الديمقراطية العربية الوحيدة في العالم، أو تقع في نطاق “انقلاب ذاتي” أو استيلاء على السلطة. معتبرًا أن الرئيس سعيد استغل المشكلات المزدوجة في تونس، ولم يقم بتعديل دستوري بل قرر الاستيلاء على السلطة. مستنكرًا موقف الاتحاد العام التونسي للشغل الداعم لتحركات الرئيس سعيد. وندد بالموقف المحايد، وسياسة “الانتظار والترقب”، الذي تبنته أغلب الدول، داعيًا إلى ضرورة وقوف الديمقراطيات في وجه الانقلاب. أي أنه نظر إلى تحركات سعيد في إطار رغبته في إحكام قبضته على السلطة، متغافلًا عن المشكلات المركبة التي تشهدها الساحة التونسية والتي ساهمت في خروج الآلاف إلى الشوارع.
كما أشار مركز مالكوم كير – كارنيجي في مقال بعنوان:علق الرئيس قيس سعيد البرلمان التونسي وعزل رئيس الوزراء وعزز سلطته القضائية، إلى أن الرئيس سعيد استند إلى الفصل 80 من الدستور الذي يعطي الرئيس صلاحية اتخاذ تدابير استثنائية “في حالة خطر داهم”، مستغلًا عدم وجود محكمة دستورية من شأنها تقييد تأويلاته الواسعة للنص الدستوري. موضحًا أن المراقبين قد اعتبروا خطوات سعيد تشكل انقلابًا على الدستور، سيما أن الفراغ الدستوري الحالي يتيح لسعيد الاضطلاع بصلاحيات رئاسية وتنفيذية وقضائية استثنائية. علاوة على ذلك، فقد نشر أيضًا مقابلة مع سارة يركس -عضو سابق في فريق تخطيط السياسات في وزارة الخارجية– تحت عنوان: الزوبعة في تونس، التي أكدت خلالها أن ما فعله الرئيس غير قانوني ويمثل “انقلابًا”. أي أنه لم يُنظر إلى تحركات الرئيس التونسي كونها تأتي وفق التطورات الطبيعية للوضع التونسي، وإنما بوصفها هجمة انتهازية أطلقها سعيد.
ومن جانبه، أشار معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى في مقال بعنوان: الأزمة السياسية في تونس: الولايات المتحدة خيارات الاستجابة، إلى الرمزية المأساوية لانهيار الديمقراطية المنفردة في المنطقة ، معتبرًا أن عدم الاستقرار الشديد في تونس سيكون بمثابة نعمة للأطراف السيئة في ليبيا والجزائر وأماكن أخرى ممن يتوقون للسيطرة على البلاد، وبالتالي يعرضون حلفاء الولايات المتحدة للخطر -ليس فقط الشعب التونسي، ولكن الشركاء الأوروبيين أيضًا- أي أنه تجاوز كافة التهديدات المتعلقة بالإرهاب والمهاجرين، واعتبر أن التطورات الأخيرة هي المهدد لواشنطن وحلفائها.
فين حين أشار مجلس العلاقات الخارجية في مقال بعنوان: سوء التقدير بتونس، إلى سوء التقدير لدى بعض الخبراء والمحللين الذين عدّوا تونس نموذجًا ديمقراطيًا ناجحًا، معتبرًا إياه افتراض مزعوم؛ إذ تشهد تونس عددًا من المشكلات الضخمة التي قد تساهم في تعزيز الاستعداد للتخلي عن المكاسب التي تحققت بشق الأنفس بعد عقد من التحول الديمقراطي. موضحًا أن جزءًا من التونسيين بات على قناعة بأهمية الدولة الفعالة التي يمكنها توفير الوظائف وشبكة أمان اجتماعي بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي. على الرغم مما يبدو من المقال كتعاطٍ أكثر موضوعية مقارنة بالآخرين، إلا أن مضمون التحليل يدور في فلك اتجاه تونس للسير في مسار غير ديمقراطي.
وعليه، يتضح أن مواقف مراكز الفكر والأبحاث لم تحمل اشتباكًا حقيقيًا مع التطورات الجارية على المشهد التونسي، إذ كان من المفترض لها بحكم دورها التقليدي أن تقدم تحليلات متعددة الزوايا والأبعاد وتقدم بدائل متعددة أمام الإدارة الأمريكية تمكنها من تعزيز دورها وحماية مصالحها. ويمكن النظر لهذا التعاطي وفق عدد من الأسباب، منها أدلجة المواقف والتحليلات، وإطلاق الأحكام التعميمية، والعمل على ترويج لسردية دون الأخرى، واتخاذ مواقف أحد الأطراف، الأجندة التحريرية،….وغيرها.
ساحة حيوية
على الرغم من الدور الكبير لمراكز الأبحاث في صنع السياسة الأمريكية، إلا أن أي تشجيع للإدارة الأمريكية لاتخاذ موقف متشدد تجاه التطورات الجارية على الساحة التونسية قد لا يجد آذانًا مصغية، بالاستناد إلى الأهمية التي تتمتع بها تونس وتأثيرها على عدد متشابك من الملفات. وهو ما يمكن توضيحه في عدد من الأمور:
- التقارب الأمريكي – التونسي: داخل الكونجرس، ازدهر دعم الحزبين لتونس منذ 2011، وبالرغم من وفاة الداعم الأساسي السيناتور جون ماكين، استمر أعضاء الكونجرس في دعم تونس. في عام 2019 ، قدم بعض أعضاء مجلس الشيوخ مثل “روبرت مينينديز” و”ميت رومني” و”كريس كونز” قرارًا يؤكد “الشراكة القوية بين البلدين”. وتجاهل الكونجرس الاقتراح الذي قدمه الرئيس “دونالد ترامب” لإجراء تخفيضات كبيرة في المساعدات المقدمة لتونس. أما فيما يتعلق بالإدارة الأمريكية، يبدو أن منصب “بايدن” كنائب الرئيس خلال انطلاق ثورة الياسمين، يمثل منطلقًا لعلاقات أكثر دفئًا، بجانب أن “بلينكن” كان أحد المدافعين الأكثر صراحة عن زيادة الدعم الأمريكي لتونس في السنوات التي أعقبت الثورة.
- مصالح الحلفاء: من بين الأمور المهمة والمحددة لمسار العلاقات بين تونس وواشنطن، تتصدر فكرة كون تونس مسألة تقع في دائرة الاهتمام المشترك للحلفاء عبر الأطلسي، أي أنها قد تمثل ملفًا لتعزيز العلاقات عبر الأطلسية. إذ تعد تونس في قلب أزمة الهجرة، سواء كنقطة عبور للمهاجرين إلى أوروبا وكمصدر كبير للمهاجرين على نحو متزايد. وتتفاقم أهمية هذه النقطة مع الاتجاه للربط بين المهاجرين والعمليات الإرهابية؛ إذ يمثل الهجوم الإرهابي في نيس بفرنسا الذي نفذه تونسي أحد الأمثلة البارزة.
- القضية الليبية: تقع تونس على الحدود مع ليبيا بطريقة توسع المجال أمام تأثير كل ساحة على الأخرى، بل والتدخل في تشكيل المشهد. لذا، تدرك واشنطن أن ما يحدث في تونس سيكون ذا انعكاس مباشر على الساحة الليبية، سيما مع النظر إلى التصريح الذي غرد به رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبي، خالد المشري، واصفًا إجراءات الرئيس سعيد بـ “الانقلاب”. ما يعني أن الإخوان في البلدين قد يشكلون جبهة مشتركة لفرض واقع جديد يخدم مصالحهم. وعليه، فقد يعيق وضع الساحة التونسية المسار الليبي، بل ويدفع باتجاه تقويضه.
- قضية الإرهاب: تمثل قضية الإرهاب أهمية كبرى بالنسبة لواشنطن، بطريقة تجعلها تمثل عاملًا رئيسًا في تحديد سياستها تجاه القضايا المختلفة. فقد باتت الساحة التونسية رقمًا مؤثرًا في معادلة التعامل مع الإرهاب كونها باتت صاحبة عدد كبير من المنضمين لداعش، وسيطر الإسلاميون على الساحة السياسية على مدار العقد الأخير، بجانب الروابط التي تربط إسلاميي تونس بباقي الجماعات الإسلامية والتنظيمات الإرهابية بالمنطقة. إذ لمح زعيم حركة النهضة التونسية، راشد الغنوشي، في مقابلة مع صحيفة “كورييري ديلا سيرا” الإيطالية، إلى عودة العنف والإرهاب إلى تونس حال عدم تراجع الرئيس سعيد عن قراراته. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل لفت أيضًا إلى التهديدات التي قد تطال الدول الأوروبية.
مجمل القول، إنه على الرغم مما يمكن وصفه بتراجع أهمية تونس على رأس أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، إلا أن التطورات الأخيرة قد تدفع نحو اهتمام أمريكي متزايد بتونس. وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى الموقف الأمريكي الحذر في استجابته لتحركات الرئيس سعيد وفق نظرة إيجابية كونها تركت الباب مفتوحًا للتعامل وفق تطورات الوضع، إلا أن هذا الموقف قوبل بموقف غير رسمي من قبل مراكز الفكر والأبحاث الأمريكية يستند إلى عدسة تحليلية ضيقة تغفل واقع الوضع على الأرض. ولكن من غير المتوقع أن تعيد هذه التحليلات توجيه دفة السياسة الأمريكية إلى المسار السلبي، لأن العلاقة الأمريكية تجاه تونس يتحكم فيها عدد من العوامل المؤثرة من ناحية، وتشكلها ترتيبات وتطورات الوضع على الأرض من ناحية أخرى.