لعقود من الزمان، ظلت الطاقة محور العديد من المناقشات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في مصر. قبل عام 2013 عانت مصر من مشكلة نقص الطاقة دون سعي لوضع حلول جذرية لها، وما ساهم في تفاقم المشكلة النمو السكاني السريع الذي ترتب عليه ارتفاع في الطلب على الطاقة بقيادة التوسع الحضري السريع، كنتيجة حتمية لذلك الوضع تكرر انقطاع التيار الكهربائي نتيجة زيادة الأحمال المتكررة، وهو ما أثر على النشاط الصناعي والاستهلاكي والتجاري بالبلاد. في أعقاب أزمة الطاقة الماضية، بذلت الدولة جهودًا كبيرة لاستكشاف جميع موارد الطاقة المتاحة التي يُمكن تسخيرها تِقْنِيًّا إلى جانب استكشاف موارد طاقة أحدث وأكبر، لذا أدرجت الدولة الهيدروجين الأخضر ضمن استراتيجية الطاقة لمصر في عام 2035، وبحثت فرص التوسع في تحول مصر لمركز إقليمي لإنتاج ذلك النوع من الوقود مع كبرى الشركات العالمية، معتمدة في ذلك على إدارة سياسية ترغب في تَصدّر مصر تلك المكانة، وموقع جغرافي متميز تتوافر به مصادر الطاقة المتجددة، إلى جانب توافر البنية التحتية البرية والبحرية المؤهلة، والأيدي العاملة الماهرة، ولذا تُعتبر مركزًا مؤهلًا لجذب الاستثمارات في قطاع الهيدروجين الأخضر.
ما هو الهيدروجين الأخضر؟
الهيدروجين الأخضر هو وقود خالٍ من الكربون، يمكن إنتاجه من عدة مصادر منها المياه، أو طاقة الرياح والطاقة الشمسية أو الطاقة النووية، وغيرها من مصادر توليد الطاقة المختلفة. في حال توليد ذلك الوقود من خلال الماء فإن إنتاجه يتطلب فصل جزيئات الهيدروجين عن جزيئات الأكسجين بالماء، بواسطة كهرباء يتم توليدها من مصادر طاقة متجددة، ونظرًا للاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة لهدف التجديد فيعتبر ذلك الوقود صديقًا للبيئة نظرًا لاعتماده على موارد طبيعية ومتجددة في التوليد، ويقلل من الاحتباس الحراري لكونه يعتمد إزالة الكربون وتقليل نسبته في الهواء. وتطور الحديث دوليًا عن الهيدروجين الأخضر ليظهر مصطلح اقتصاد الهيدروجين (مصطلح يعني أن الاقتصاد سيعتمد فقط على الهيدروجين كوقود)، وهو افتراض يضع تصورًا لأن جميع الاستهلاكات من الطاقة ستعتمد على الوقود المستدام المتولد من الهيدروجين.
إن طرق إنتاج الهيدروجين الحالية تعتمد بشكل أساسي على الهيدروجين المتولد من الوقود الأحفوري، وبالتالي فهو يُعتبر بديلًا غير مستدامٍ “للاقتصاد الأحفوري”، غير أن إنتاج الهيدروجين من مصادر الطاقة المتجددة هو البديل الأكثر جدوى لإنتاج الهيدروجين بشكل أكثر استدامة، خاصة وأن مصادر الطاقة المتولدة عن الموارد المتجددة مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية هي مصادر متقطعة بطبيعتها، ومن ثمّ يمكن الحصول على الاستفادة الكاملة منها في حال تم النجاح إلى تحويلها من شكلها الحالي إلى أحد أشكال الطاقة مثل الهيدروجين، ومن ثم فإن الهيدروجين -في حد ذاته- ليس مصدرًا طاقة لكنه ناقل للطاقة. ولذا يُنظر إلى الهيدروجين الذي يتم إنتاجه من الوقود الأحفوري التقليدي الحالي أو الهيدروكربون على أنه مرحلة انتقالية لسيناريو طويل الأجل يتم التحول فيه لاقتصاد الهيدروجين.
ويُنظر للوضح الحالي لإنتاج الهيدروجين من الوقود الأحفوري على أنه غير مستدام على الأجل الطويل، وذلك نظرًا لقيود ندرة الموارد التي قد تكون عائقا لإتمام تلك العملية في المستقبل، ومن ثم فإن البديل لذلك المسار هو الطاقة المتجددة والطاقة النووية، حيث يُعتبر إنتاج الهيدروجين من الموارد المتجددة أمرًا مكلفًا للغاية في حال مقارنتها بإنتاج الهيدروجين من الوقود الأحفوري كما هو موضح في الشكل رقم (1)، لكن توقعت وزارة الطاقة الأمريكية أن تنخفض تلك التكلفة بمرور الوقت لتصل إلى نطاق اقتصادي في الإنتاج، لكن وفقًا للوضع الحالي فإن إنتاج الهيدروجين من مصادر الطاقة الشمسية والرياح أغلى بكثير من إنتاج الهيدروجين من مصادر حيوية، إذ إنه يُعتبر الأكثر قدرة على المنافسة من الناحية الاقتصادية.
تصور لخريطة التحول عالميًا يزعم البحث في طاقة الهيدروجين أنه بتطور الوقت سيحدث تحول عام إلى اقتصاد الهيدروجين، والمقصود بمصطلح اقتصاد الهيدروجين يعني أن الاقتصاد الكامل سيعتمد فقط على الهيدروجين كوقود، إذ يتم توليد الكهرباء التي يتم استخدامها في القطاع الصناعي بواسطة محطات توليد الطاقة الهيدروجينية، واعتماد النقل والمركبات على العمل بوقود الهيدروجين، وبالتالي فإن معظم الأجهزة والتطبيقات ستعتمد على الهيدروجين بدلًا من الأجهزة التي تعمل بالطاقة الكهربائية الحالية. وتستمد تلك الخريطة قوتها من الجهود الدولية المتسقة التي تعمل لتحقيق هذا الهدف، بداية من وضع الأمم المتحدة ذلك التحول ضمن الأهداف الأممية للتنمية المستدامة (الهدف رقم 7) والذي ينص على “ضمان حصول الجميع بتكلفة ميسورة على طاقة حديثة وموثوقة ومستدامة”، وهو الأمر الذي تمت ترجمته في جهود العديد من الجهات الدولية، مثل الشراكة الدولية لاقتصاد الهيدروجين (IPHE)، والرابطة الدولية للطاقة الهيدروجينية (IAHE)، التي تبذل جهودًا بهدف تسريع وتيرة التحول إلى اقتصاد الهيدروجين. ويمكن تخيل ذلك التحول في الشكل التالي
من المتوقع أن يحقق ذلك التحول مجموعة من الأهداف، منها ضمان حصول الجميع على الطاقة، وتحقيق زيادة كبيرة في حصة الطاقة المتجددة في المزيج العالمي، ومضاعفة كفاءة الطاقة المنتجة، وتعزيز التعاون الدولي في جميع الجوانب المتعلقة بإمدادات الطاقة، والتي تتمثل في توسيع البنية التحتية والتكنولوجيا لتوفير خدمات الطاقة المستدامة لجميع البلدان النامية والبلدان الأقل نموًا والدول الجزر الصغيرة النامية والشركات ذات المسئولية المحدودة.
تعاملت الدول المختلفة مع الانتقال إلى اقتصاد قائم على الهيدروجين بشكل من الجدية من خلال توفير المتطلبات والتشريعات اللازمة لتحقيق ذلك الهدف، وتصورت وزارة الطاقة الأمريكية إمكانية الانتقال إلى الهيدروجين الأخضر في مرحلة مبكرة للغاية في عام 2002، وحددت تلك الوثيقة المبادئ التوجيهية التي يمكن العمل لتحقيقها للتحول إلى الهيدروجين الأخضر خلال عقدين من الزمان، حيث إنها وضعت الأهداف خلال الفترة من 2010 وحتى 2020.
لم تكن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي اتجهت صوب ذلك التحول، إذ خطت العديد من الدول نفس الجهود، فوضعت ماليزيا خريطتها للتحول ونشرتها للعالم في عام 2009، وتصورت فيها أن يشهد عام 2015 استخدام نظام إعادة التزود بالوقود الهيدروجين المتولد من المصادر المتجددة، وتوقعت كذلك أن يشهد عام 2020 وجود بنية تحتية مطورة بالكامل لإنتاج وتسليم الهيدروجين لسوق الهيدروجين العالمي.
أوروبا هي الأخرى تبنت خريطة للتحول نحو الهيدروجين الأخضر خلال الندوة الدولية حول اقتصاد الهيدروجين من أجل التنمية المستدامة في عام 2006.
الجهود المصرية
مصريًا، عملت الدولة بجد لتحقيق حلم التحول لمركز إقليمي للطاقة على مدار السنوات الخمس الماضية، وتم وضع استراتيجية مستدامة متكاملة الأركان للوصول لذلك الهدف حتى عام 2035، من خلال تنويع مصادر الطاقة بين الطاقة النظيفة والطاقة المتولدة من المصادر المتجددة، لتكون تلك الاستراتيجية نقطة مركزية تهدف إلى وضع مصر كحلقة وصل بين أوروبا وآسيا وإفريقيا.
خطت الدولة خطوات متسارعة في ذلك الحلم بعد اكتشافات الغاز الهائلة في شرق البحر المتوسط، مثل “حقل ظهر” الذي استهدفت مصر بعده أن تصبح مركزًا لإنتاج وتداول الغاز الطبيعي في المنطقة.
طاقة الشمس والرياح هي الأخرى شهدت جهودًا متسارعة من جانب مصر للتحول إلى مركز إقليمي لتداول الطاقة المتجددة من خلال تنفيذ عدد كبير من المشروعات القومية لتوليد الطاقة المتجددة من الشمس والرياح، وذلك ضمن خطة مصر لرفع نصيب مزيج الطاقة المتجددة إلى 20 % بحلول عام 2022، وما يزيد على 43% بحلول عام 2035. وقد شهد عام 2021 إعلان وزير الكهرباء والطاقة المتجددة أن القطاع قد نجح بالفعل في تحقيق مستهدف 20 % متولد عن طاقة متجددة بنهاية عام 2021، بقدرات تصل إلى 6378 ميجاوات.
لكن اليوم وبعد خمس سنوات تقريبًا من إطلاق استراتيجية الطاقة بمصر 2035، بدأت مصر عقدها الجديد بالدخول في سوق إنتاج الهيدروجين الأخضر لتوليد الطاقة، لتكون ضمن الدول الأوائل عالميًا في الاعتماد على ذلك النوع من الطاقة، واستهداف أن تتحول للتصدير عالميًا، وذلك بعد أن حدثت وزارة الكهرباء والطاقة المتجددة استراتيجية الطاقة في مصر لتشمل الهيدروجين الأخضر. لكن ليس ذلك الإجراء هو الوحيد الذي قامت به مصر، حيث شهد مارس الماضي (مارس 2021) توقيع اتفاقية رباعية بين وزارة الكهرباء والثروة والطاقة المتجددة ووزارة البترول والثروة المعدنية والقوات البحرية مع شركة “ديمي” البلجيكية للبدء في الدراسات الخاصة لمشروع إنتاج الهيدروجين الأخضر وتصديره من مصر، وهي الاتفاقية الثانية من نوعها بعد الاتفاقية الأولى التي تم توقيعها مع شركة سيمنز الألمانية للبدء في المشروع التجريبي لإنتاج الهيدروجين الأخضر في فبراير من العام الحالي.
خلاصة القول، إن مصر تستهدف وضع استراتيجيتها للتحول نحو الهيدروجين الأخضر لتتسق مع التوجه العالمي للحد من انبعاثات الكربون وتخفيف آثار تغير المناخ، وتتماشى مع استراتيجية الاتحاد الأوروبي لخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون المعروفة بـ«الاتفاق الأخضر» خلال الفترة الزمنية 2035-2050، خاصة وأنه كما سبق التوضيح فإن الهيدروجين الأخضر ستكون له أهمية عالمية كمصدر واعد للطاقة في المستقبل القريب.