اختبرت إسرائيل تجربة صواريخ “أرو- 3” المضادة للصواريخ الباليستية بعيدة المدى في ولاية ألاسكا الأمريكية الأسبوع الماضي كنتائج مشروع تعاون عسكري أمريكي-إسرائيلي دون الإفصاح عن العديد من أبعاد التجربة التي وصفها الطرفان بالمثالية والناجحة. وعلى التوازي، اختبرت إيران صاروخ “شهاب-3”. وتتواكب هذه التطورات مع حالة التوتر الإقليمي التي تتصاعد وتيرتها وتظهر فيها إيران وإسرائيل كأبرز أطراف المواجهة على المسرح الإقليمي، حيث تمددت المواجهة في سوريا إلى العراق مؤخرًا وفق العديد من التقديرات.
وتعكس التجربتان واحدة من صور سباق التسلح الصاروخي الإيراني-الإسرائيلي، فخلف هذا المشهد تتسابق كل من إسرائيل وإيران على بناء قدرات الردع الصاروخي. ففي إسرائيل، وبعد نجاح التجربة الأخيرة، علق رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” بأن نظام الدفاع الجوي “أرو- 3” يمنح إسرائيل القدرة على العمل ضد الصواريخ الباليستية التي قد تطلق عليها من إيران أو من أي مكان آخر، مؤكدًا أن إسرائيل تعمل على تحقيق معادلة الردع من دفاع وهجوم في آن واحد، وهي نفس اللغة التي تستخدمها إيران في الكشف عن تجاربها الصاروخية، حيث صرح وزير الدفاع “أمير حاتمي” بأن القوات المسلحة الإيرانية تجري اختباراتها الصاروخية بصورة منتظمة تمامًا. بينما كشف مسئول أمريكي لشبكة CNN أن التجربة الإيرانية أُجريت في 24 يونيو، مشيرًا إلى أن تقييم الاستخبارات الأمريكية للتجربة يفيد بأن إيران تواصل جهودها لتحسين مدى ودقة صواريخها.
طبيعة السباق
تتصاعد وتيرة سباق التسلح العسكري الإيراني والإسرائيلي، حيث يقيس كل طرف مدى ما وصل إليه الطرف الآخر من تقدم عسكري يمكن أن يفرض عليه تحدي الردع. فقد اختبرت إسرائيل منظومة “أرو- 3” في إطار برنامج عمل سري مع الولايات المتحدة، لكنها قلصت السرية مع الإعلان عن نجاح التجربة. وربما كان الدافع إلى هذا الإعلان هو إجراء إيران تجربة على صاروخ “شهاب-3” طويل المدى الذي يصل مداه إلى 2500 كلم.
زمنيًّا؛ هناك بدايات متوازية لإطلاق كل من إسرائيل وإيران مشروعيهما، فالتجربة الإيرانية على صاروخ “شهاب 3” بدأت تقريبًا في عام 2008، لكنها كانت تجارب متعثرة فيما يتعلق بعامل الانحراف في إصابة الهدف. لكن على ما يبدو فإن التجربة الأخيرة بدأت تتجاوز هذا التحدي نسبيًّا مع تقليل عامل الانحراف بفضل استخدام تصحيح الأقمار الصناعية إلى 30 مترًا تقريبًا، وفق تقديرات روسية، وهي نسبة جيدة مقارنة بالتجارب السابقة حتى وإن لم تصل إلى النقطة المثالية بعد. كذلك من المعتقد أن إسرائيل بدأت العمل على تطوير “أرو- 3” بالتزامن مع الإعلان الإيراني آنذاك عن “شهاب -3”.
ولا يزال الطرفان في مرحلة التجارب، فالتجربة الإسرائيلية أُجريت في ألاسكا، وهو ما طرح السؤال حول لماذا ألاسكا وليس إسرائيل؟ على الرغم من أنه كان هناك تدريب مقرر للمنظومة في مطلع العام الجاري لقوات أمريكية إسرائيلية مشتركة، لكن تم إيقاف التدريب. ووفقًا للعديد من التقديرات فإن السبب يعود بالأساس إلى صعوبة إغلاق الأجواء في إسرائيل لإجراء التجربة، وبالتالي تم إجراؤها في الولايات المتحدة، وهو ما ألمح إليه أيضًا السفير الأمريكي لدى إسرائيل “ديفيد فريدمان” خلال مشاركته في جلسة الحكومة الأحد الماضي (28 يوليو 2019). في المقابل، فإن حديث وزير الدفاع الإيراني يؤكد أن إيران لا تزال بصدد تلك التجارب.
وفيما يتعلق بالسياق الإقليمي؛ لا يجب عزل تلك التجارب عن حالة التوتر الإقليمي الراهنة، التي أنتجت تداعيات عسكرية يعكسها العديد من المواجهات غير المباشرة في سوريا والعراق. ولا تمر أيضًا تلك التطورات بمعزل عن تعزيز إسرائيل قدراتها الهجومية، مع تفردها إقليميًّا بالحصول على طائرات F-35 من الولايات المتحدة بعد إلغاء الصفقة التركية. وفي المقابل، فإن إيران تعاني بدرجة كبيرة في قدراتها الجوية بسبب العقوبات المفروضة عليها، لكنها عوضًا عن ذلك نشرت صواريخها بدول الجوار في حوزة وكلائها، ولا سيما في سوريا ولبنان والعراق.
أهداف رئيسية
بالنظر إلى طبيعة السباق بين الطرفين، يمكن تحديد قائمة من الأهداف على مستوى كل طرف.
1- بالنسبة لإسرائيل
يرجح أحد السيناريوهات أن إسرائيل بصدد تحقيق عدة أهداف، أهمها:
أ- أن الاستراتيجية الإسرائيلية قائمة ليس فقط على مبدأ التفوق النوعي في السلاح في مواجهة كافة مصادر التهديد المتوقعة مجتمعة، بل أيضًا على مبدأ أن تسبق إسرائيل التهديد المحتمل بخطوة على الأقل، كما يقول “موشيه باتل” مدير منظمة الدفاع الصاروخي في إسرائيل.
ب- أن محاولة ردع إيران بالحديث عن نجاح اختبار صاروخ إسرائيلي معروف، وكُتب عنه مرارًا في الدوريات العسكرية المتخصصة؛ لا يشكل ردعًا حقيقيًّا، بل ربما يفعل العكس؛ إذ يصور إسرائيل والولايات المتحدة كما لو كانا لا يملكان ردًّا حقيقيًّا على تهديدات صواريخ إيران الباليستية سوى بأسلحة معروفة يمكن التعامل معها، وهو ما يعطي لإيران ثقة زائفة بالقدرة على الرد أو ردع الدولتين عن توجيه ضربة استباقية إليها.
هناك سيناريو آخر يرى أن هدف الولايات المتحدة وإسرائيل هو إجبار إيران على التفاوض، وليس الدخول معها في حرب، ولكن لا تستبعد الدولتان احتمال انزلاق الوضع إلى حرب قد تبدأ محدودة في مضيق هرمز، لكنها إذا ما بدأت فلا يُستبعد أن تتمدد وتصبح حربًا شاملة تستخدم فيها كل الأطراف ما لديها من أسلحة. وهنا سيكون الطرف القادر على إحداث مفاجأة من خلال دفع سلاح أو أسلحة جديدة إلى ميدان المعركة هو الأقرب للانتصار بسبب ما سيُحدثه هذا السلاح الافتراضي من إرباك للطرف المعادي. غير أن التلويح بامتلاك أسلحة سرية لم يكن ضمن الخطاب الأمريكي أو الإسرائيلي المعتاد والموجه لردع إيران، على العكس من إيران التي درجت على إطلاق مثل هذه الادعاءات. على سبيل المثال، صرح مساعد قائد القوة الجوية للجيش الإيراني العميد “عزيز نصير زاده”، في أكتوبر عام ٢٠١١ (أي قبل ثماني سنوات تقريبًا)، بأن الجمهورية الإسلامية الإيرانية لديها أسلحة سرية للرد على أي هجوم محتمل وستباغت العدو.
ج- استكمال بناء المنظومة الدفاعية متعددة الطبقات: هذه التجربة تأتي بعد سلسلة تجارب ومناورات مشتركة (إسرائيلية-أمريكية) لاستكمال تعزيز قدرات الدفاع الإسرائيلية بمدياتها المختلفة (قصيرة، متوسطة، طويلة). ففي مارس الماضي، وخلال تدريب إسرائيلي-أمريكي مشترك، كشفت مصادر عسكرية أمريكية عن تجربة معقدة في إسرائيل، وقامت وكالة MDAبمحاكاة تجربة إدماج كاملة لمنظومات الدفاع الأمريكية والإسرائيلية لأول مرة في تاريخ التعاون العسكري المشترك. ووفقًا لتقديرات أمريكية، تضمنت هذه المحاكاة عملية إدماج 6 منظومات عسكرية دفاعية هي الإسرائيلية (حيتس 2، والعصا السحرية، وحيتس 3) مع منظومات (ثاد، إيجيس، باتريوت) الأمريكية.
2- بالنسبة لإيران
تواصل إيران برنامجها الصاروخي إلى جانب استئناف العمل في برنامجها النووي في إطار التصعيد المتبادل مع الولايات المتحدة بعد انسحابها من الاتفاق النووي، لكن فيما يتعلق بإسرائيل هناك عدة أهداف، منها على سبيل المثال:
أ- نظرية الردع بالغموض: وهي إحدى النظريات التي تفسر لجوء إيران إلى عدم الإفصاح عن تفاصيل تجاربها الصاروخية. ويرى أصحاب هذا التوجه أن إيران تدعي أنها تمتلك أسلحة سرية يمكن أن تكون بمثابة مفاجأة استراتيجية لخصومها، وهي نفس الاستراتيجية التي تتبعها إسرائيل فيما يتعلق بأسلحتها النووية، حيث ترفض الاعتراف بحيازتها مثل هذه الأسلحة، في الوقت الذي تؤكد فيه تقارير دولية عديدة منذ ستينيات القرن الماضي أنها تمتلكها بالفعل. بمعنى أكثر وضوحًا، تشير القرائن إلى أن إسرائيل أجادت تنفيذ استراتيجية الردع بالغموض، وطبقتها في معارك كثيرة حتى مع إيران نفسها حينما تمكنت (أي إسرائيل) من مفاجأة إيران في الحرب السيبرانية منذ عام ٢٠٠٨ عندما نجحت في تعطيل آلاف من معدات التخصيب الخاصة بالمفاعلات النووية الإيرانية بتقنيات معقّدة وغير متوقعة. كما نجحت مؤخرًا في اختراق الأراضي الإيرانية ونقل أطنان من وثائق المشروع النووي الإيراني في عملية لم يتم الكشف عن تفاصيلها حتى الآن. وفي المقابل، لا نجد دليلًا على أن إيران قدمت لحلفائها في ميادين القتال المختلفة في سوريا والعراق واليمن سلاحًا شكّل مفاجأة لإسرائيل أو للولايات المتحدة.
ب- ضغط إضافي بهدف التفاوض: هناك تصور بأن إيران التي فُرض عليها عام 2015 حظر إجراء التجارب الصاروخية تتجاوز هذا الحظر بهدف ممارسة مزيد من الضغوط على القوى الدولية، وبالتالي تحقق أكثر من معادلة، منها معادلة الردع في مواجهة إسرائيل، برفع مستوى التهديد إلى أقصى درجة ممكنة، فضلًا عن تطوير أوراق إضافية في مسار التفاوض في حال اعتماد هذا المسار. وتُشير تقديرات دولية، خاصة التقديرات الروسية، إلى أنه على الرغم من ضمان الولايات المتحدة تفوق إسرائيل النوعي كاستراتيجية، لكن في المقابل لا تزال إيران لديها قدرة على تهديدها. وأشار أحد تلك التقديرات إلى أن التجربة الأخيرة، على سبيل المثال، أُجريت على استهداف صاروخ واحد يمكن أن تطلقه إيران، في حين أن إيران تضع في خطتها نصب نحو 600 صاروخ لن يكون بمقدور تلك المنظومة اعتراض إطلاق حزم منها على دفعات ما يشكل خطرًا وليس تهديدًا فقط لإسرائيل.
ج- إيران ليست وحدها: في إطار التطورات الأخيرة يصعب الفصل بين مسارات المواجهة مع إيران منفردة وبين المواجهة مع إيران ووكلائها الإقليميين الذين تعمم عليهم تلك القدرات. وأصبح العديد من الوكلاء يمتلك خبرات تطوير تلك المنظومات، مثل حزب الله والميليشيات العراقية الموالية لإيران، وبالتالي توسع إيران من جبهات التهديد حول إسرائيل، وتفرض عليها الاستعداد لمواجهة متعددة الجبهات. وإذا كانت إسرائيل تعمل من آن لآخر على استهداف الوكلاء فقد يكون من الصعب عليها خوض مواجهة واسعة مع إيران والوكلاء في الوقت نفسه.
د- دفع إسرائيل لتحويل استراتيجيها العسكرية من الهجوم إلى الدفاع: وهو أحد التفسيرات التي يقدمها الخطاب الإيراني، بمعنى أن تصبح طهران قادرة على تهديد تل أبيب وإيذاء إسرائيل، ما يدفعها إلى تعزيز قدراتها الدفاعية. ويستند هذا التحليل إلى طبيعة المنظومة الأخيرة كمنظومة دفاعية. لكن وجهة النظر تلك تتجاهل واقع آليات التهديد الإسرائيلية المتعددة التي اختبرتها إسرائيل في السنوات الأخيرة، واستهدفت المشروع النووي الإيراني والوكلاء على مختلف الساحات.
تحديات عديدة
في ضوء تقييم التجارب الأخيرة التي قامت بها كل من إسرائيل وإيران، ثمة تحديات عديدة تواجه الطرفين الإسرائيلي والإيراني في الاستمرار في حالة السباق الراهن، أو تحقيق أهدافهما منه.
بالنسبة لإسرائيل، يمثل الموقع تحديًا مهمًّا، وهو ما سبقت الإشارة إليه في تفسير صعوبة إجراء التجارب في إسرائيل، وبالتالي صعوبة عمل تلك المنظومة في حال دخولها حيز التنفيذ. كذلك في حال نجاح المنظومة الإسرائيلية، سيتعين عليها التعامل مع احتمالات التهديد الواسعة حال أطلقت إسرائيل حزمة من الصورايخ في وقت واحد، وبالتالي تظل هناك شكوك في فاعلية المنظومة من هذه الزاوية. أيضًا تُعد الولايات المتحدة طرفًا في تطوير المنظومة، وأيضًا في التحكم فيها، في ضوء الإعلان عن تبادل المعلومات على الجانبين، وهو ما يمثل قيدًا على إسرائيل، كونها لن تعمل منفردة على تشغيل المنظومة.
أما بالنسبة لإيران، فلا تزال هناك شكوك حول نجاح تجاربها على الرغم من التقدم الذي رصدته التقارير التي تناولتها، فقد تمكنت الولايات المتحدة من اختراق عملية تصنيعها في مرحلة من المراحل، حيث كشفت تقارير أمريكية وأكدتها تقارير إيرانية أن واشنطن خلطت مكونات في عملية تجميع الصاروخ الإيراني، ووصلت تلك المكونات بالفعل لإيران وكانت أحد أسباب فشل العديد من التجارب الصاروخية، وبالتالي هناك استعدادات أمريكية وإسرائيلية لتعطيل المنظومة أو شلها.
في الأخير، في ظل سباق الردع الحالي بين إسرائيل وإيران يظل إطلاق شرارة الحرب المباشرة بين الطرفين رهن الموقف الأمريكي، أو ما يعرف بقدرة الولايات المتحدة على تبريد الرؤوس الحامية، فالشراكة الإسرائيلية-الأمريكية تضمن للولايات المتحدة بشكل كبير القدرة على التحكم في زر إطلاق شرارة تلك الحرب، وأيضًا مستوى إدارتها لملف التفاوض مع إيران يضمن لها في الوقت ذاته منع تلك الحرب من الأساس. ومن المتصور أن نقطة تعادل قدرات الردع يقلص من فرص تلك الحرب، لكن دون الوصول إلى تلك النقطة تبقى كافة السيناريوهات محتملة، وفرص التسوية تعادل احتمالات الانزلاق إلى الحرب، وبالتالي فالاحتمال الأكثر ترجيحًا هو أن السباق سيتواصل دون الوصول إلى نقطة الصدام، لكن ستبقى المواجهة غير المباشرة هي صيغة التعامل بين الطرفين، أما السيناريو الأقل احتمالًا وإن لم يكن مستبعدًا فهو الحرب في حال خرجت المواجهات بينهما عن السيطرة، وهو الأمر الذي سيفرض تداعيات على الإقليم كله.