كلما اقترب موعد لقمة عربية مرتقبة، هذه المرة فى الجزائر سيُحدد موعدها لاحقاً، يثور الحديث عن مدى إمكانية رفع تجميد العضوية عن سوريا.
المؤيدون لرفع التجميد يرون أن الأمر مطلوب لاستعادة الشمل العربى وإغلاق واحدة من أكبر ثغراته، المتمثّلة فى ابتعاد سوريا عن مجمل منظومة العمل العربى المشترك.
وهم مع العودة فى ظل الوضع السورى الراهن، يقابلهم تيار متحفّظ على قرار رفع التجميد، ينظر إلى الموضوع من زوايا متعددة، هى خليط من التأكيد على مكانة سوريا عربياً وإقليمياً، وكونها ضلعاً مهماً من أضلاع الأمن العربى، فى الآن نفسه يؤكدون أن الأوضاع السورية الراهنة بحاجة إلى أسلوب جديد تتبنّاه الحكومة السورية، بما يسهم فى استعادة وحدة سوريا الإقليمية وسيادتها على كامل أراضيها، والأهم ممارسة أسلوب مختلف فى الحكم والإدارة، يصوغه السوريون أنفسهم عبر حوار جاد والتزام بتطبيق ما يتم الاتفاق حوله، وينضوى تحته كل السوريين أياً كانت عرقيتهم أو موطن سكنهم وإقامتهم، وهو أمر إن حدث سوف يشكل نقلة مفصلية تجعل أى تحفّظات على عودة دمشق إلى الجامعة العربية لا معنى لها.
المسألة إذاً لا تتعلق بمكانة سوريا العربية، ولكنها تتعلق بالحاجة إلى سوريا جديدة، تراعى المتغيرات التى حدثت فى السنوات العشر الماضية، سواء ما يتعلق بمكافحة الإرهاب وجماعات الإسلام السياسى العنيفة، أو حل المسألة الكردية وفق منظور شامل، أو الانفتاح المناسب والمعقول على كل مكونات المجتمع السورى دون استثناء، والتخفّف من القبضة الأمنية، ووضع أطر فعالة لحل المشكلات المجتمعية التى نجمت عن الحرب والانقسام، فضلاً عن التدخّلات الأجنبية التى يعمل بعضها من الجار تركيا على الوجود فى الأراضى السورية إلى ما لا نهاية، ونواياه فى الاحتلال واضحة كالشمس فى منتصف النهار.
الرئيس بشار الأسد فى استقباله الأخير لوزير خارجية عمان قبل يومين، دعا إلى مقاربة جديدة فى العلاقات العربية ووضع أسس عقلانية مبنية على مصالح الشعوب، ومؤكداً أن المتغيرات فى الواقع العربى تتطلب تغيير المقاربة السياسية الراهنة.
وهى دعوة مهمة، وكما تنطبق على الشأن العربى برمته، تنطبق أيضاً على الداخل السورى.
فالمتغيرات فى الداخل السورى تبعث على الحزن، والأرقام والحقائق التى تضمّنها تقرير الأمين العام للأمم المتحدة جوتيريش الذى قدّمه لمجلس الأمن يوم 11 يناير الماضى، لغرض تمديد آلية تقديم المعونات الإنسانية عبر الحدود الدولية، تثير الكثير من القلق على واقع المجتمع السورى ككل، سواء فى مناطق النزاع فى شمال شرق البلاد، أو فى شمال غرب البلاد، أو فى المناطق التى تحت سيطرة الحكومة السورية.
ومن بين ما تضمنه التقرير الأممى أن 90 فى المائة من السوريين يعيشون فى فقر، و60 فى المائة منهم يعانون من انعدام الأمن الغذائى، وأن نحو 9 ملايين سورى من بين 24 مليون سورى يعيشون خارج مناطق السيطرة الحكومية، منهم ما يقرب من ستة ملايين بحاجة إلى المساعدات الإنسانية.
ويتركز المحتاجون فى المناطق غير الخاضعة لسيطرة الحكومة فى الأجزاء الشمالية من البلد، مع وجود عدد أقل فى الجنوب الشرقى فى مخيم الركبان.
ويشير التقرير أيضاً إلى ارتفاع نسبة النازحين الذين يعيش عدد منهم فى مخيمات أو مستوطنات عشوائية أو مراكز جماعية غير آمنة، وأن مؤسسات الأمم المتحدة تقدم مساعدات غذائية لـ650 ألف شخص شهرياً، وتقدّم المنظمات غير الحكومية إعانات لعدة آلاف أخرى من السوريين.
ويخلص تقرير جوتيريش إلى ما وصفه بانخفاض قدرة الشعب السورى على الصمود بعد عقد من النزاع والأزمة الاجتماعية والاقتصادية الحادة والأزمات المتصلة بالمياه، و«كوفيد 19»، وحلول فصل الشتاء.
ويعيش حالياً 90 فى المائة من السوريين فى فقر، ودمّرت أجزاء كبيرة من الهياكل الأساسية المدنية، أو أصبحت آخذة بالتفكّك.
وفى عام 2020 لم يعد متوسط الدخل الشهرى للفرد قادراً على تلبية الحاجات الأساسية.
ومع تزايد الإجهاد المائى وانخفاض محصول الحبوب فى موسم 2020 – 2021، فإن الفرصة كبيرة لحصول مزيد من النقص فى الغذاء.
مثل هذه الأوضاع الصادمة وإن يصعب تحميل المسئولية عنها كاملة على عاتق الحكومة السورية، ومع عدم إغفال الأدوار الخارجية فى تعميق أزمة السوريين وسد أبواب المصالحات السياسية، يظل على حكومة دمشق الدور الأكبر فى تقديم مبادرات ومعالجات وسياسات واقعية تهدف إلى بناء سوريا جديدة لكل أبنائها.
هناك قرارات دولية تضع معايير للخروج من الأزمة، وهناك مبعوث أممى تدور مهمته فى تيسير الظروف، لتطبيق تلك القرارات الدولية، من خلال التواصل مع كل الأطراف ذات الصلة.
ومع ذلك تبدو كل الجهود محلك سر، ولا ينتج عنها أى تقدّم حقيقى فى بناء سوريا جديدة، لا غنى عنها لكل مواطنيها وكل حاملى الجنسية السورية.
إن بقاء الأوضاع السورية على ما هى عليه بدون تحريك الوضع السياسى الداخلى، والاكتفاء بهذا المشهد المحزن، يضيف إلى هؤلاء الراغبين فى تفتيت البلاد، ويخصم كثيراً من وحدة سوريا الإقليمية.
ويلعب عامل الزمن هنا دوراً عكسياً لكل من يتصور أن بقاء الأمور على حالها الراهن سوف يؤدى إلى استعادة سوريا كما كانت قبل عشر سنوات.
فاعتياد ملايين السوريين على المعونات الإنسانية وافتقادهم أدنى الحقوق المعيشية والتعايش مع المنظمات الإرهابية وجيوش الاحتلال الأجنبى، يخصم كثيراً من مشاعر الانتماء إلى الوطن، كما يعطى المزيد من النفوذ للقوى والجماعات المناهضة لسوريا البلد والمكانة.
المحبون لسوريا العربية المستقرة كثيرون، منتشرون فى جميع أرجاء الوطن العربى، يتطلعون إلى سوريا الموحّدة والقوية والرامية بظلالها وأمنها على كل بقعة من الأرض السورية، مستعدون لتقديم كل أنواع الدعم والمساندة لسوريا جديدة بمجرد أن تبدأ خطواتها الأولى والجادة بأيدى كل أبنائها دون استثناء.
وحينذاك لن يثور الجدل حول عودة سوريا للجامعة، وسترفع التحفّظات، وتعود الأمور إلى نصابها الصحيح.