شهدت مدينة أسوان، تزامنًا مع عيدها القومي، احتفالية كبرى أخرى تحت عنوان “الوفاء بالوعد” لصرف تعويضات أهالي النوبة ممّن أضيروا من بناء وتعلية خزان أسوان وإنشاء السد العالي، ولم يتم تعويضهم من قبل. وقد جرى في الحفل تسليم مستندات التعويض للدفعة الأولى من المستحقين، على أن يتم تسليم باقي المستحقين تعويضاتهم وفقًا لجدول زمني تعده محافظة أسوان. وكانت الاحتفالية بمثابة اعترافٍ وتقديرٍ من الدولة لصبر وتحمل أهالي النوبة لأكثر من قرن، وتقديرٍ للتضحية التي قدموها عندما انحازوا للمصلحة العامة أثناء إقامة كل من سد أسوان والسد العالي. فرغم طول مدة انتظار التعويضات، ورغم الوعود الكثيرة التي سبق تقديمها، ورغم محاولات عازها العدل والإنصاف من جانب حكومات متعاقبة؛ فإن أهالي النوبة أثبتوا أنهم أبناء مصر الأوفياء الملتزمون بالمصلحة الوطنية.
بداية المشكلة
كانت البداية في عام 1902 مع بناء خزان أسوان، حيث ارتفع منسوب مياه النيل خلف الخزان إلى 106 أمتار لتغرق عشر قرى نوبية، بما فيها من مساكن وأراضٍ زراعية وسواقٍ ومزروعات ونخيل وأشجار. في عام 1912، تمت التعلية الأولى للخزان، فارتفع منسوب مياه الخزان إلى 114 مترًا، وأغرقت المياه 8 قرى نوبية أخرى. وفقد النوبيون عشر قرى إضافية بعد التعلية الثانية للخزان في عام 1932، عندما ارتفع منسوب المياه ليصل لأكثر من 121 مترًا. وتضررت 28 قرية بسبب بناء خزان أسوان، فانتقل أهلها للعيش في المناطق المرتفعة قليلة الخصوبة، وزاد من وطأة المشكلة أن التعويضات الهزيلة التي تلقاها هؤلاء كانت أقل من أن توفي حاجتهم للعدل، وأن تساعدهم على مواصلة الحياة بطريقة آمنة كريمة، ومنذ ذلك الحين والنوبيون يطالبون بإعادة النظر في هذه التعويضات.
وفي بداية عام 1953، بدأت الدولة تُجري دراسات حول مشروع السد العالي من كل جوانبه الهندسية والاجتماعية والاقتصادية، ثم تَشَكّلت بعد ذلك لجان لمواجهة الآثار الجانبية للمشروع، وصدر القانون رقم 67 لسنة 1962 بشأن نزع ملكية الأراضي التي تغمرها مياه السد العالي، وكذلك القرار الوزاري الذي أصدرته الشئون الاجتماعية، برقم 106 بتاريخ 24/9/1962، بشأن قواعد تعويض وتمليك سكان أهالي النوبة. بدأت الدولة في تنفيذ المشروع عام 1964، وتم نقل عدد كبير من أهالي النوبة للعيش في هضبة كوم امبو وإسنا، وتم وقتها صرف معاش شهري يُقدر بحوالي ثلاثة جنيهات لكل أسرة شملتها هذه الإجراءات. لكن التنفيذ جاء مخيبًا لآمال النوبيين، فقد قدرت الحكومة في ذلك الوقت قيمة تعويضات الأراضي والمزارع والمساكن التي فقدها الأهالي وفقًا لأسعار عامي 1902 و1912، دون مراعاة لفروق الأسعار والتضخم الذي حدث مع مرور السنين، حيث قدر وقتها ثمن النخلة بخمسين قرشًا وأحيانًا بعشرة قروش، وفدان الأرض بأربعين جنيهًا وأحيانا بعشرين جنيهًا، أما الغرفة المسقوفة في المسكن فتم تقديرها بخمسة جنيهات فقط.
مبادرة الرئيس “السيسي” لحل المشكلة
أثناء المؤتمر الوطني للشباب في أسوان عام ٢٠١٧، وبحضور الرئيس “عبدالفتاح السيسي”، تحدث أحد الشبان النوبيين مطالبًا بإنهاء مشكلة تعويضات أهالي النوبة. وردًّا على حديث هذا الشاب، أصدر الرئيس “السيسي” قرارًا بمراجعة موقف من لم يتم تعويضه في الفترة السابقة لإنشاء السد العالي من خلال لجنة وطنية يتم إنشاؤها لهذا الغرض، مؤكدًا عدالة المطالب وأهمية حلها. واستنكر الرئيس “السيسي” تأخر حل المشكلة طوال هذا الوقت قائلًا: “يعني إحنا المصريين كلنا مش هنعرف نراضيكو!”. ومن ضمن القرارات المهمة التي اتخذها الرئيس “السيسي” في هذا الصدد قرار استبعاد منطقة “خور قندي” من مشروع شركة الريف المصري، ومن مشروع المليون ونصف مليون فدان، وهي المنطقة التي طالما طالب أهالي النوبة بتعويضهم فيها، نظرًا لقربها من أبي سمبل بحوالي 16 كيلومترًا.
وقد عكست هذه الرسائل الرئاسية إقرارًا بالتقصير الذي حدث في العقود السابقة، كما عكست وجود إرادة سياسية حقيقية لتعويض وإرضاء أهالي النوبة.
التحرك الحكومي
تنفيذًا لتوجيهات الرئيس، قامت الحكومة بوضع أسس جديدة لحل مشكلة تعويضات أهالي النوبة، فقامت بتشكيل لجنتين؛ الأولى لتلقي وفحص الطلبات المُقدمة للحصول على تعويضات، برئاسة وزير العدل. وقد انتهت هذه اللجنة إلى أحقية 11 ألفًا و716 شخصًا في الحصول على تعويضات. أما اللجنة الثانية، ويرأسها وزير شئون مجلس النواب، فتختص بالنظر في آليات التعويض، وتحديد شكل التعويض النهائي، سواء كان أرضًا زراعية أو مسكنًا أو تعويضًا ماليًّا، طبقًا لاختيارات وتفضيلات المتضررين. وكقواعد تنظيمية، قررت هذه اللجنة أنه لا يجوز الجمع بين أكثر من شكل من أشكال التعويض، وأنه إذا اختلف الورثة فيما بينهم حول طريقة التعويض فيتم تعويضهم نقدًا.
ومن بين الحالات التي تم الإقرار بأحقيتها في التعويض، تم استكمال المستندات اللازمة لعدد 6350 مواطنًا، وقررت اللجنة صرف التعويضات لمن استوفوا المستندات المطلوبة، على أن يتسلم الباقون مستحقاتهم فور استيفاء المستندات اللازمة. وقد أعلن رئيس مجلس الوزراء أثناء احتفالية “الوفاء بالوعد” عن فتح مرحلة ثانية لتلقي طلبات ورغبات من لم يستطيعوا التقدم بطلباتهم في المرحلة السابقة.
طرق وآليات تعويض أهالي النوبة
تم تقسيم مستحقي التعويضات إلى ثلاث فئات، هم المتضررون من كافة مراحل بناء وتعلية خزان أسوان، ومن فقدوا مساكنهم من المتضررين من إنشاء السد العالي، وأخيرًا من فقدوا أرضًا زراعية نتيجة إنشاء السد العالي، وقد تم تعويض كل فئة بطريقة مناسبة على النحو التالي:
الفئة الأولى، هم مستحقو التعويضات من متضرري بناء وتعلية خزان أسوان في الفترة من عام 1902 وحتى عام 1933، حيث يتم تمليكهم الأراضي المقام عليها مساكنهم مجانًا، أو منحهم حق الانتفاع بها إن كانت من أراضي طرح النهر.
الفئة الثانية، هم مستحقو التعويضات من متضرري إنشاء السد العالي ممن فقدوا مساكنهم، حيث تقرر إعطاؤهم الحق في الاختيار من بين ثلاث طرق للتعويض:
أ- تملك شقق سكنية، حيث تم توفير وحدات إسكان اجتماعي في محافظة أسوان بكوم إمبو وإدفو، بالإضافة إلى توفير وحدات للإسكان في 12 محافظة أخرى.
ب- التعويض المالي، حيث يمكن استبدال التعويض السكني بتعويض مالي بواقع 225 ألف جنيه عن المسكن.
ج- الاستفادة من خطة الدولة المستقبلية في التنمية، حيث سيتم إرسال أسماء مستحقي التعويض الراغبين في هذه الآلية إلى هيئة تنمية الصعيد للتواصل معهم في ضوء ما تتيحه هذه الخطة من فرص. ومن الجدير بالذكر أنه لم يتم الإعلان عن هذه الآلية للتعويض إلا أثناء “الاحتفالية الخاصة بالتعويضات”، وأنه لم يتم الإعلان عن طريقة تنفيذ هذا البديل، ولا موعد البدء في تنفيذه.
الفئة ثالثة، هم مستحقو التعويضات من متضرري إنشاء السد العالي ممن فقدوا أراضي زراعية، حيث تقرر إعطاؤهم الحق في الاختيار من بين ثلاثة بدائل أيضًا:
أ- تملك أراضٍ قابلة للزراعة بمساحات مماثلة لمساحات الأراضي التي فقدوها، مع جبر كسر الفدان إلى فدان لمن كان يملك دون الفدان. وقد تم تجهيز 50 بئرًا بمنطقة خورقندي بالقرب من أبو سمبل، البئر الواحد يغذي 120 فدانًا، لتصبح مساحة الأراضي الزراعية الجاهزة للتسليم 6000 فدان، بالإضافة إلى مناطق الخدمات التي تشمل مدارس ومستشفيات ومحطات للكهرباء. أما في منطقة وادي الأمل فتقوم القوات المسلحة بتجهيز 20 بئرًا، يغذي كل منها 60 فدانًا، بإجمالي 1200 فدان، على أن يتم استكمال هذه التجهيزات في ديسمبر من العام الجاري.
ب- التعويض المادي، بواقع 25 ألف جنيه للفدان، مع جبر كسر الفدان إلى فدان كامل لمن كان يملك دون الفدان أيضًا.
ج- الاستفادة من خطة الدولة المستقبلية في التنمية، على أن يتم أيضًا إرسال أسماء مستحقي التعويض الراغبين في هذه الآلية إلى هيئة تنمية الصعيد للتواصل معهم.
وقد شملت التعويضات النوبيين الموجودين خارج مصر، وهذه هي المرة الأولى التي تشمل فيها التعويضات هذه الفئة. وقد أعلنت وزارة الخارجية في جميع السفارات المصرية عن الإجراءات التي يجب اتباعها للمطالبة بالتعويض والحصول عليه.
جدول يوضح تفضيلات المستحقين للتعويضات من أهالي النوبة
خاتمة
إن تحريك المياه الراكدة في هذا الملف، والتنفيذ السريع لقرارات ووعود رئيس الجمهورية، والتطبيق الشامل لعملية تعويض أهالي النوبة، والتي اهتمت بحصر جميع مستحقي التعويض المتضررين من بناء خزان أسوان أو السد العالي، سواء المقيمين داخل مصر أو خارجها؛ كلُّ هذا يمثل مؤشرًا إيجابيًّا على اهتمام الدولة بتطبيق مفهوم المواطنة بعيدًا عن الشعارات الرنانة.
وحتى تتم كتابة الفصل الأخير لهذه المشكلة، لا بد من التأكد من أن كل المستحقين قد حصلوا على ما تم وعدهم به، وأن الإجراءات تسير بمعدل لا يؤدي إلى إعاقة وصول القطار إلى محطته الأخيرة، ففي كثير من الحالات قد تتسبب المشكلات الصغيرة في إفساد الخطط والمشروعات الكبيرة.