خلال شهري مارس وأبريل 2022 اندلعت في ولاية الوحدة الغنية بالنفط بدولة جنوب السودان اشتباكات مسلحة بين قوات موالية للرئيس سلفاكير ميارديت، وأخرى تابعة لنائبه ريك مشار، وجاءت الاشتباكات بعد فترة وجيزة من ترتيبات لتوحيد القوات المسلحة في جنوب السودان، من أجل إنشاء قيادة عسكرية موحدة للجيش وفقًا لاتفاق السلام الذي أٌبرم في عام 2018، بعد حرب أهلية استمرت خمس سنوات. وتشير المؤشرات إلى تدهور الأوضاع بصورة كبيرة مما قد يؤدي إلى إعادة الصراع إلى المربع الأول، وتفاقم الأزمات الإنسانية. فلماذا تجدد العنف في جنوب السودان؟ وما هي فرص حل الأزمة وتنفيذ اتفاق السلام؟.
مظاهر انتكاس الهدنة
تشهد العديد من الولايات في جنوب السودان حالة من انعدام الأمن، مما أدى إلى تزايد حالات العنف والهجمات والاشتباكات القبلية، التي باتت تمثل عائقًا كبيرًا لعملية السلام في البلاد. كما يستند العنف -إلى حد كبير- على الانقسامات العرقية والقبلية في البلاد.
وقد ألقت الخلافات السياسية المستمرة، وعدم وجود اتفاقيات لتقاسم السلطة بين العديد من الفصائل المتنافسة في جنوب السودان في الحرب الأهلية التي انتهت في عام 2018، بظلال من الشك حول ما إذا كانت الحكومة ستكون قادرة على منع العنف في الفترة المقبلة أم لا.
فقد شهدت منطقة (كوتش ميرمير)، بولاية الوحدة في 8 أبريل 2022، معارك عنيفة بين مليشيات وقوات تابعة لكل من الرئيس ميارديت ونائبه مشار. وبالإضافة إلى ذلك يقود الجنرال توماس سيريلو تمردًا مسلحًا لجبهة الإنقاذ الوطني (NSF)، وبات ذلك يشكل تهديدًا خطيرًا للمدنيين ويهدد عملية السلام برمتها.
وعلى الرغم من أن الجيش الشعبي شن هجمات ضد بعض مواقع جبهة الإنقاذ الوطني، وألحق بهم العديد من الخسائر؛ لكن دائمًا ما تتجدد الصراعات ذات الصلة بالحدود القبلية. وفي يناير 2022، لقي 31 شخصًا على الأقل من قبيلة الدينكا مصرعهم في اشتباكات مع مجموعة مسلحة من قبيلة المورلي في ولاية جونقلي المضطربة بجنوب البلاد، وأسفرت الاشتباكات عن إصابة أكثر من 20 شخصًا، وتم إحراق بعض المنازل. كما شهدت مؤخرًا ولايات الوحدة الغنية بالنفط وأعالي النيل اشتباكات بين قوات حكومية وقوات أخرى موالية لنائب الرئيس. فيما حذر نائب الرئيس ريك مشار، من عودة الحرب وسط هجمات مزعومة من قبل قوات حكومية ضد قواته، على حد قوله. كما حث الوسطاء على التدخل لحماية اتفاق السلام في جنوب السودان قبل انهيار. وأضاف مشار أن الوضع الأمني في بلاده يتدهور بسرعة، وطالب الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية والشركاء الدوليين الآخرين بالتدخل لعدم انزلاق بلاده في أتون الحرب مرة أخرى.
في السياق ذاته، شهدت الشوارع والطرق الرئيسية في العاصمة جوبا انتشارًا عسكريًا مكثفًا، خاصة قرب المطار والقصر الرئاسي، وهو الأمر الذي يسلط الضوء على زيادة التوترات بين الأطراف بعد اتفاق بينهما دام قرابة خمس سنوات. وتجددت تلك الاشتباكات مرة أخرى قبل أقل من عام إلى نهاية الفترة الانتقالية في البلاد. أضف إلى ذلك أن حالة الجمود السياسي بشأن القضايا الرئيسية في الاتفاق المبرم بين الرئيس ونائبه تمثل معضلة أخرى تهدد اتفاق السلام الهش الذي تم التوصل إليه بمساعدة أطراف خارجية، بما في ذلك الولايات المتحدة ودول الترويكا.
وقد نشرت بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان تقريرًا يفيد بأن جميع الجماعات المسلحة في أجزاء البلاد المختلفة ترتكب عمليات عنف واسعة النطاق، وغالبًا ما يكون هذا العنف نوعًا من التكتيكات العسكرية التي تستخدمها كافة الأطراف بهدف تحقيق مكاسب سريعة على أرض الواقع.
أسباب تجدد الصراع
من الواضح أن دولة جنوب السودان تواجه أخطر أزماتها الداخلية منذ ولادتها في يوليو عام 2011، كما يبدو أنها حملت بذور أزمتها معها عندما انفصلت عن الشمال، فالانفصال الذي جرى تسويقه بوصفه حلًا لهيمنة الشمال العربي المسلم على الجنوب المسيحي الإفريقي لا يبدو أنه أنهى مشاكل الدولة الجنوبية الوليدة، فلم تمضِ على الدولة الجديدة بضع سنوات حتى دخلت في صراع مرير وطويل بسبب النخبة القبلية التي تتصارع على السلطة والثروة، مما أدخل جنوب السودان في صراع مفتوح، وأزمة إنسانية واقتصادية كبيرة، بل وتحولت إلى مصدر قلق وتدخل إقليمي ودولي. وبسبب هذه النخبة القبلية التي تتصارع على السلطة والثروة، لا تزال وتيرة الصراعات والعنف في ارتفاع، وهو ما يمثل تحديًا لدولة جنوب السودان، وأيضًا فرصة لدول الجوار من أجل الانخراط في تفاصيله وفق أجندات مختلفة تذكي الصراع.
وفي الواقع فإن اتفاق السلام الذي أُبرم عام 2018، يبدو أنه مطبق على مستوى العاصمة جوبا، فالنخبة السياسية تتنافس على السلطة في الحكومة الانتقالية بالعاصمة، ويخوضون الحروب في الأجزاء الأخرى من البلاد.
وعلى الرغم من التعهد الذي التزم به الرئيس سلفاكير ونائبه ريك مشار، بالتخلي عن خلافاتهما؛ إلا أنهما لم ينفذا بعض بنود ونصوص الاتفاق الفعلي، ومن ضمنها القيام بسلسلة من الإصلاحات، كتجميع وفحص وتدريب ودمج قواتهما في جيش وطني جديد، وإعادة تشكيل النظام الإداري الأصلي للدولة، ومعالجة سنوات من التلاعب العرقي والبيروقراطيات الموازية التي تضاعف من عدد الولايات إلى أكثر من ثلاثة أضعافها، فضلًا عن التفاوض بشأن مجموعة من بروتوكولات تقاسم السلطة بينهما.
كما تسبب القادة السياسيون في انحراف حملات نزع السلاح التي يدعمها المجتمع الدولي عن مسارها إلى حملات نزع السلاح بالقوة من الجماعات القبلية التي تعاديهم وتخاصمهم تحت ستار نزع السلاح. كما كافأت الحكومةُ القادة السياسيين الذين ساهموا في نزع السلاح بمناصب محلية، وهو ما تسبب في أزمة شرعية سياسية بالكثير من مناطق البلاد. ومن المرجح أن تزداد التوترات مع تقدم البلاد نحو الانتخابات التي يتوقع لها عام 2023، كما أن اختيار المرشح سيكون مناسبة للمناورة السياسية على المناصب، ومن المتوقع أن يتزايد استخدام العنف في المفاوضات السياسية بين النخبة السياسية.
وترتبط كذلك تلك النزاعات والعنف المسلح القبلي بالفيضانات والجفاف داخل العديد من المناطق في البلاد، مما يعني أن الصراع قد ازداد إلى حد كبير بسبب التنافس على الموارد النادرة بشكل متزايد، خاصة الأرض والمياه، وكلاهما من ضروريات القبائل لبلد يعتمد 87% من سكانه على الزراعة والماشية والغابات كمصادر اقتصادية لا يمكن الاستغناء عنها.
وتُهيمن القبلية والمناطقية على المشهد السياسي بحكم تعدادهم وانتشارهم في مساحات كبيرة، ويكاد يكون الوضع انعكاسًا حقيقيًا أو أشبه بدولة شمال السودان في حالة عدم الاستقرار، ربما يكون بصفة الديمومة بفضل العديد من التحديات الداخلية في بنية الدولة الهشة.
فرص استدامة اتفاق السلام
في يناير 2022، توصل الرئيس سيلفا كير إلى اتفاقات مع بعض القيادات المعارضة، ومن ضمنها “سايمون جاتويك” و”جونسون أولوني”، وهما قائدان انفصلا عن نائبه ريك مشار في أغسطس 2021، وتفتح تلك الاتفاقات مساحة لحل الخلافات، وتزيد من احتمال اقتتال أوسع بين رفاق المعارضة السابقين. وتظهر قضيتان أساسيتان لتثيرا الشكوك بشأن استدامة اتفاق السلام، أولهما قضية توحيد الجيش كمؤسسة عسكرية وتيار موحد يمثل جميع الجنوبيين، أما الثانية فتتعلق بالنزاع الحدودي طويل الأمد حول مدينة ملكال بين قبيلتي دينكا والشلك.
وعلى الرغم من الترحيب الكبير بالاتفاقات مع قادة المعارضة في البلاد، إلا أنها تقوض اتفاق السلام الموقع بين الرئيس سلفاكير ونائبه مشار في عام 2018، فالاشتباكات الأخيرة بين طرفي السلطة في جنوب السودان تمثل خطرًا حقيقيًا لعملية السلام بينهما، فالكل يريد أن يكون فاعلًا دون تحقيق إيجابيات ملموسة على مستوى المجتمع الجنوب السوداني ورفع كاهل المعاناة عنه.
أمام هذا الوضع، يتعين على المجتمع الدولي والضامنين الدوليين والإقليميين، الضغط على أطراف الاتفاق، حول حجم الجيش الوطني وتكوينه وتقليص حجمه النهائي، لتقليل الآثار الاقتصادية والعبء على الإنفاق المالي الكبير، إذ سيكون بمثابة عامل مهم لوقف الاشتباكات، كما ينبغي على الفواعل الدولية حث الفرقاء الذين لم ينضموا إلى السلام في جنوب السودان على المضي قدمًا في تسهيل الحوار المجتمعي الذي تشتد الحاجة إليه والمنصوص عليه في اتفاق السلام الأخير، تفاديًا وتجنبًا لإثارة الصراع من جديد، فضلًا عن منع إعادة التعبئة بين الأطراف في دولة جنوب السودان، وهو ما يؤدي إلى الاستقرار، ولا يستنزف ميزانية ضخمة يستفيد منها الشعب الجنوب سوداني. كما أن الجنود الذين لم يتلقوا رواتبهم يقومون بفرض ضرائب غير مشروعة عند نقاط التفتيش في أنحاء البلاد، وهو عائق يؤدي إلى تضخم تكاليف أعباء المعيشة.



