أضافت استقالة نواب التيار الصدري من البرلمان متغيرًا جديدًا للعملية السياسية في العراق، مما تكون له ارتدادات على التحالفات والتجاذبات التي تتشكل الفترة القادمة لاستكمال الاستحقاقات الدستورية، بعد انتخابات مضى عليها أكثر من ثمانية أشهر، ولم يتم البناء على نتائجها حتى الآن من حيث اختيار رئيس للجمهورية، ثم اختيار رئيس الوزراء بسبب تباين المواقف والتوجهات بين القوى السياسية، بالإضافة إلى الأزمة الدستورية التي شكلت هذا المشهد. ضمن هذا السياق ستناقش تلك الورقة دوافع الاستقالة والمسارات المحتملة المترتبة عليها.
دوافع الاستقالة
أعلن مقتدى الصدر تقديم استقالة أعضاء الكتلة الصدرية من البرلمان في 12 يونيو 2022. وتعد استراتيجية الانسحاب التي اتبعها الصدر أداة معتادة لدى هذا التيار، حيث سبق وأن أعلن عدم مشاركته في الانتخابات الأخيرة لكنه عدل عن ذلك القرار وعاد مرة أخرى للمشاركة. وكذلك في سياق مشاورات إنشاء الكتلة الأكبر لتشكيل الحكومة، أعلن ترك الفرصة لقوى الإطار التنسيقي لتشكيل حكومة دون الكتلة الصدر ومنحهم مدة 40 يومًا؛ لكنها تختلف هذه المرة لأنها تعد انسحابًا من العملية السياسية برمتها، وعدم رغبة في المشاركة بالبرلمان أو الحكومة مع النخبة الفاسدة في العراق، وذلك وفقًا للبيانات الصادرة عن مقتدى الصدر عقب الاستقالة، ويبدو عبر تاريخ حضور التيار الصدري في العملية السياسية أنه جمع بين أن يكون جزءًا من معادلتي السلطة والمعارضة.
وترجع هذه الاستقالة إلى احتدام الصراع بينه وبين منافسيه من القوى المتراجعة أوزانها في الانتخابات، ولا سيما تحالف الإطار التنسيقي، حيث شهدت الأشهر الماضية منذ انتهاء الانتخابات حالة من الصراع بين القوى السياسية، وتفاقم الخلاف الشيعي-الشيعي، كون التيار الصدري الحاصل على أكبر عدد من الأصوات في الانتخابات التشريعية التي عقدت في 10 أكتوبر 2021، ورغب في تشكيل حكومة أغلبية من الأحزاب الفائزة في الانتخابات، وشكل تحالف إنقاذ وطن كلًا من التيار الصدري (73 مقعدًا)، والحزب الديمقراطي الكردستاني (31 مقعدًا)، وتحالف السيادة (عزم وتقدم) 67 مقعدًا، ليمثلوا أكثر من نصف أعضاء البرلمان بحوالي 171 مقعدًا من إجمالي 329 مقعدًا. بينما كان يرغب تكتل الإطار التنسيقي تشكيل حكومة توافقية (حكومة محاصصة طائفية وحزبية)، وضم تكتل الإطار كلًا من: دولة القانون برئاسة نوري المالكي، وتيار الفتح برئاسة هادي العامري، وائتلاف قوى الدولة برئاسة عمار الحكيم، وائتلاف النصر برئاسة حيدر العبادي. وكان يرفض الصدر التحالف مع نوري المالكي، وقد صرح بذلك عبر صفحته على توتير في 25 يناير 2022: أبلغت العامري والفياض برفضي التحالف مع المالكي. وكانت قوى الإطار ترغب في أن تتواجد القوى الشيعية في تحالف واحد على غرار الحكومات السابقة، واعتبرت أن ما يسعى إليه الصدر من حيث تشكيل حكومة أغلبية سيؤدي إلى انقسام القوى الشيعية لأول مرة منذ انتخابات 2006 إلى قوى ممثلة في الحكومة، وأخرى في المعارضة، وهو ما يتعارض مع رغبة القوة الإقليمية الموالين لها، إذ يوفر بقاء الكتلة الشيعية موحدة تنفيذ مشروعها وأهدافها في العراق.
مارست قوى الإطار التنسيقي والأذرع التابعة لها، ضغوطًا على القوى المتحالفة مع الصدر حتى تفشل فكرة تشكيل حكومة أغلبية، إذ تم استهداف منزل رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي بمدينة الكرمة شرق محافظة الأنبار من خلال صواريخ كاتيوشا في 25 يناير 2022، بعد التأكد من خلال مسئولين أمنيين بمحافظة الأنبار أنه تم تنفيذ الهجوم من منطقة ذراع دجلة الواقعة على الحدود الإدارية بين الأنبار ومدينة سامراء، وهي خاضعة لنفوذ كتائب حزب الله العراقي، وقد تزامن هذا الهجوم مع قرار المحكمة الاتحادية بدستورية الجلسة البرلمانية الأولى، والذي عزز من موقف التيار الصدري بتشكيل حكومة أغلبية. كذلك شهد مقر الحزب الديمقراطي الكردستاني هجومًا بقنبلة يدوية، وأيضًا المقار الحزبية التابعة لتحالفي (عزم وتقدم) والتي تعرضت لهجوم بطائرات مسيرة.
كل هذه الأسباب هي ما دفعت التيار الصدري للاستقالة، ولا سيما في ظل حالة التعطيل التي مارستها القوى الموالية لإيران على مدار الثمانية أشهر الماضية، حيث تبادل الطرفان “إنقاذ وطن” و”الإطار التنسيقي” الاتهامات بشأن مسئولية كل طرف عن تعميق الأزمة السياسية باعتباره الطرف المعطل لعملية انتخاب الرئيس وتشكيل الحكومة، نتيجة لعدم اكتمال النصاب القانوني المطلوب برلمانيًا لانتخاب الرئيس (220 نائبًا من 329 نائبًا) عبر ثلاث محاولات فاشلة تخطت كافة المدد الدستورية، لعبت خلالها قوى الإطار التنسيقي دور الثلث المعطل من خلال استمالة عدد من النواب المستقلين، مما مكن الإطار من تشكيل تكتل قوامه 110 نواب. لذلك لم ينجح تحالف إنقاذ وطن في تأمين جلسة اختيار رئيس الجمهورية ثلاث مرات متتالية، وقد تم تجاوز المدد الدستورية المحددة لذلك، وكان من المفترض اختيار رئيس للوزراء من الكتلة الأكبر بحوالي 165 نائباَ، لكن لم تنجح مبادرات التيار الصدري في ذلك، وقرر الانسحاب من البرلمان وأعلن عدم الرغبة في الاشتراك مع القوى الفاسدة في تشكيل الحكومة. وبحسب قانون انتخابات مجلس النواب العراقي رقم 9 لسنة 2020 تنص المادة 15 على: “إذا شغر أي مقعد في مجلس النواب، يحل محله المرشح الحائز على أعلى الأصوات من الخاسرين في الدائرة الانتخابية ذاتها”، وذلك بعد تعديل نص القانون رقم 49 لسنة 2007 والذي يتضمن في نصه “على عضو مجلس النواب وأعضاء هيئة الرئاسة في حالة تقديم استقالته، وقبولها من قبل المجلس بالأغلبية المطلقة، على ألا تقل فترة عضويته في مجلس النواب عن سنة واحدة”. لذلك قوبلت استقالة أعضاء التيار الصدري من قبل مجلس النواب العراقي استنادًا إلى نص القانون الجديد لسنة 2020، ومن ثم تقود هذه الاستقالة إلى بعض المسارات المحتملة.
المسارات المحتملة
ترتب هذه الاستقالة تغيرًا في أوزان القوى السياسية وتحولًا في المشهد، ومن ثم يتم الإشارة هنا إلى بعض المسارات المحتملة كالآتي:
• الأول تشكيل حكومة بدون الصدر: ساهمت هذه الاستقالة في تعزيز أوزان القوى الشيعية التي كانت حاصلة على أصوات ضئيلة في الانتخابات. وبعد قبول الاستقالة من قبل البرلمان العراقي في 24 يونيو 2022، تم استبدال نواب الكتلة الصدرية بآخرين من الكتل الحاصلة على أعلى الأصوات من الخاسرين في الدائرة الانتخابية ذاتها، ومن ثم أصبحت قوى الإطار التنسيقي الكتلة البرلمانية الأكبر بعد إضافة حوالي 44 مقعدًا وبلغت حاليًا 120 نائبًا، بينما بلغ عدد المستقلين 60 نائبًا، مما قد يقود قوى الإطار مع بعض المستقلين إلى تشكيل حكومة توافقية دون الصدر، وفي هذه الحالة سيستطيع الإطار توفير النصاب القانوني لانتخاب الرئيس وهو 220 نائبًا، ومن ثم تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر التي تمكنه من اختيار رئيس الحكومة.
لكن تبقى هناك بعض التحديات أمام هذا المسار في ظل تباين المواقف، ولا سيما التباين بين الحزب الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني على منصب رئيس الجمهورية. وربما يتم الاتجاه إلى تسوية في هذا الصدد مع الاتحاد الوطني الكردستاني بسحب مرشحه للرئاسة “برهم صالح” الذي لا تكن له بعض قوى الإطار الود، وطرح مرشح آخر من قبل الحزب الديمقراطي الكردستاني. بالإضافة إلى وقف الهجمات الصاروخية التي تشنها فصائل مقربة من الإطار التنسيقي على مواقع في إقليم كردستان، وحل إشكالية قانون النفط والغاز بما يُرضي الحزب. فربما يقود عدم تقديم تنازلات لقوى إقليم كردستان إلى انسحابها ورفض المشاركة في الحكومة. كذلك ربما تتجه في هذا المسار التيارات التي شاركت الصدر في تحالف إنقاذ وطن، وتحديدًا تحالف السيادة السني إلى التحالف مع قوى الإطار التنسيقي لضمان نفوذها في الحكومة المقبلة. وبحسب التقديرات سوف تتجه قوى الإطار إلى عقد جولات من الحوار مع مختلف القوى للتوصل إلى تفاهمات بشأن الحكومة. ومن بين الأسماء المطروحة لرئاسة الوزراء هادي العامري رئيس منظمة بدر، مصطفى الكاظمي رئيس الوزراء الحالي، النائب أسعد العيداني محافظ البصرة، والنائب على يوسف شكري، محمد شياع السوداني وزير العمل والشئون الاجتماعية في حكومة حيدر العبادي.
• الثاني اتجاه الصدر إلى المعارضة: يرتب البيان الذي أصدره مقتدى الصدر بشأن الاستقالة، احتمالية تبني الخطاب المناوئ (المعارضة)، لا سيما في ظل تبنيه خطابًا إصلاحيًا يقوم على رفض النخبة الفاسدة في العراق، والعمل على إنقاذ الدولة، وهو يحظى بقاعدة شعبية عريضة يعول عليها، مما قد يقود إلى حراك في الشارع بما يحمله ذلك من إشكاليات على صعيد الاستقرار السياسي والأمني، وتعطيل مسار الحياة السياسية مما يشكل تحديًا أمام رئيس الوزراء القادم، ويعيد للأذهان حالة الحراك الشعبي في أكتوبر 2019، التي تزعمها التيار الصدري، ونتج عنها آنذاك استقالة حكومة عادل عبدالمهدي، وتشكيل حكومة برئاسة مصطفى الكاظمي رئيس الوزراء الحالي.
• الثالث استمرار سيناريو الانسحاب: قد يرتب المشهد المعقد بين القوى السياسية استمرار انسحاب أعضاء البرلمان، واتساع دائرة الانسحاب على غرار التيار الصدري، وهو ما يقود إلى سيناريو حل البرلمان وإعادة الانتخابات مرة أخرى، وهو ما لا يحل المعضلة في العراق لا سيما في ظل تعدد الطوائف بها، الأمر الذي يتطلب معه تعديل الدستور العراقي، وهو ما قد ترفضه قوى الإطار لأنها ترغب في تغيير قانون الانتخابات المعدل في عام 2020، حيث تعتبره سببًا في تراجع نتائجها الانتخابية، وهو ما يعني استمرار حالة عدم الاستقرار في العراق والبقاء في الدائرة ذاتها.
ختاما؛ يعكس متغير استقالة نواب الكتلة الصدرية وعدم تشكيل حكومة أغلبية وطنية وفقًا لنتائج الانتخابات باعتبارها الكتلة الحاصلة على أكبر عدد من الأصوات، تغير ميزان القوى لصالح الإطار التنسيقي ونجاحه في تفكيك تحالف الصدر الذي هدف إلى إحداث توازن في علاقات العراق الخارجية. وعليه، يستمر المسار التقليدي في العراق من حيث تشكيل حكومة توافقية، والتبعية السياسية للمشروع الإيراني الإقليمي، مما قد ينعكس على مفاوضاتها النووية، وامتلاكها أوراق ضغط حيث تأجيج الأزمات من خلال أذرعها الإقليمية، والإضرار بمصالح القوى المختلفة في مناطق نفوذها.