أعادت “قمة جدة للأمن والتنمية” الاعتبار للأمن القومي العربي، على الرغم من أن أجندة المؤتمر تركز على اعتبارات الأمن الإقليمي، لكن من الناحية الواقعية، ومن خلال تحليل القمة، سواء خطابات القادة المشاركين، أو التصريحات التي صاحبت فاعليات المؤتمر وزيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى المنطقة بشكل عام؛ يمكن التفرقة بوضوح بين قضية الأمن الإقليمي التي كانت مدرجة على جدول أعمال القمة، وبين المهددات الإقليمية المرحلية التي يتعين التعامل معها وفق ترتيبات معينة، ومن هنا تظهر فكرة الأمن القومي العربي التي كان هناك حرص واضح عليها وربما تنسيق مسبق بين القادة العرب يعكس هذا المنظور إلى حد كبير، لكنها كانت أكثر وضوحًا في كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي، حينما أكد على أن الأمن القومي العربي كل لا يتجزأ، وأن ما يتوافر لدى الدول العربية من قدرات ذاتية بالتعاون مع شركائها كفيل بتوفير الإطار المناسب للتصدي لأي مخاطر تحيط بعالمنا العربي. ثم انتقل إلى مفهوم الأمن الإقليمي المتكامل، من منظور “القضايا المشتركة”، كإخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل.
واقعيًا ومنطقيًا أيضًا، يمكن القول إن مصطلح الأمن القومي العربي هو مصطلح إشكالي، ارتبط تاريخيًا في الذهنية العربية بالبعد الأيديولوجي الخاص بمشروع القومية العربية في عقد الستينيات من القرن الماضي، ولكن هذا لم ينفِ أبدًا وجود مشتركات أمن عربي، وضرورات التنسيق المشترك لمواجهة التحديات الأمنية، لاعتبارات عديدة لها شواهدها في ملفات الصراعات والأزمات والتهديدات التي يتعرض لها الأمن القومي العربي، لكن يكون مصطلح الأمن الإقليمي أكثر إشكالية، خاصة عندما يتم التطرق لما يعرف أو يتداول عن “ترتيبات أمن إقليمي”، وهو ما يمكن التطرق إليه في عدة نقاط منها على سبيل المثال:
- تصدرت القضية الفلسطينية محور خطابات القادة العرب في قمة الأمن والتنمية (مجلس التعاون الخليجي + مصر والعراق والأردن)، أو مجموعة (5+3)، وتم التأكيد على ضرورة تحريك المفاوضات بين الفلسطينيين وإسرائيل لحل الدولتين، بغض النظر عن إمكانية ترجمة هذه الخطوة على أرض الواقع، إلا أنها تظل مسألة شرطية للقبول بإدماج إسرائيل في المنطقة بالشكل الذي يروج له أو تسعى له إسرائيل، وبالتالي لا يمكن القفز على هذه القضية العربية الرئيسية، وهو ما أشار إليه بوضوح الرئيس عبد الفتاح السيسي باعتبارها إحدى أزمات الماضي الممتدة التي تتطلب حلًا، بالإضافة إلى ما أشار إليه أمير قطر تميم بن حمد بأن العرب لا يتعين عليهم فقط طرح المبادرات وإسرائيل لا تتجاوب معها، وكذلك حتى بالنظر إلى مقاربة الأمن والتنمية وهي عنوان القمة، حينما أشار ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى أن ازدهار المنطقة ورخاءها يتطلب الإسراع في إيجاد حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية، وفقًا لمبادئ وقرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية.
- ما سبق القمة من أحاديث عن ترتيبات أمن الإقليمي كانت محل مبالغة شديدة، ولا سيما محاولة إحياء فكرة ما يطلق عليه “ناتو عربي” كمظلة لهذه الترتيبات، لم تجد لها مكانًا على طاولة القمة، بل وصرح وزير الخارجية المصري سامح شكري قبيل القمة بأنها مسألة غير مطروحة، كما أكد على الأمر ذاته وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان. بل على العكس وكما سلفت الإشارة بشأن القضية الفلسطينية فإن الخطاب العربي كاشف عن أن إسرائيل هي جزء من المشكلة الإقليمية بسبب موقفها من القضية الفلسطينية، وليس مطلوبًا أن تكون جزءًا من مشكلة إقليمية أخرى بتشكيل تحالف للتصعيد ضد إيران، فعلى الرغم من أن إيران هي الأخرى جزء من مشكلة الأمن الإقليمي، لكن لا يمكن معالجة المشكلة بخلق مشكلة أخرى، والمتصور أن العرب استوعبوا الكثير من الدروس في هذا الشأن في حروب الخليج، كما أن الظروف الإقليمية خلال ما يزيد على عقد أكدت على أن مشكلة الدول العربية من سوريا إلى العراق إلى اليمن وحتى ليبيا هي تدخل الأطراف الإقليمية غير العربية في الدول العربية بالاحتلال والتصعيد ونشر الوكلاء ونشر الجيوش. وكل هذه الاعتبارات كانت حاضرة بوضوح في القمة.
- عقب انتهاء قمة جدة مباشرة، توجه قائد القيادة المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط “سنتكوم”، مايكل كوريلا، إلى تل أبيب، وبحث مع رئيس الأركان الإسرائيلي أفيف كوخافي منظومة الدفاع الجوي، والتحديات الأمنية المشتركة للجيشين، وفق بيان عسكري إسرائيلي، وتطرقا إلى توصيات ونتائج اجتماع المنتدى الاستراتيجي والتشغيلي المشترك الذي عقد في شهر يونيو الفائت من الجانبين الاستراتيجي والعملي التشغيلي بين الجيش الإسرائيلي والقيادة المركزية الأمريكية، في إطار التحديات الأمنية التي تواجههما في منطقة الشرق الأوسط، وإمكانية خوض حرب مشتركة، ومناقشة الاستعدادات العسكرية المشتركة لسيناريوهات تصعيد إقليمية، بالإضافة إلى فرص توسيع التعاون العسكري. ومن المتصور أن اللقاء تزامن مع القمة، وليس بناء على مخرجاتها، ولكنّ هناك ارتباطًا كاشفًا فيما يتعلق بمسألة الترتيبات الإقليمية، وهي هنا مسألة ثنائية بين إسرائيل التي أصبحت عضوًا في “سنتكوم” وبين الولايات المتحدة، ولا يتعين بالضرورة الإشارة إلى أن الأطراف العربية يتعين عليها أن تكون جزءًا من التصعيد، وهو ما أكد عليه بوضوح “بن فرحان” في التصريحات المشار إليها سلفًا بقوله: “لا تعاون عسكري مع إسرائيل” وهي نقطة تتضمن التعاون بالمعنى الشامل، ولا يفهم أيضًا من أن مناقشة السيناريو الاحتمالي بشأن اندلاع حرب إقليمية أنه احتمال وارد قطعًا أو سيتحول من احتمال إلى واقع، فلا دلائل أمريكية على ذلك، بل إن ثمة تقديرات إسرائيلية تشير إلى أن الجيش الإسرائيلي نفسه لا يتبنى هذا الخيار على عكس الموساد، إلا أن ذلك لا يمنع من دراسة الاحتمالات في كل الأحوال.
- لا يمكن التقليل من أهمية الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، ودورها في المنطقة، لكن من الأهمية بمكان النظر إلى حسابات الأطراف ومصالحهم ووضعها في الاعتبار، ففي مقدمة البيان الختامي للقمة تمت الإشارة إلى المصلحة الأمريكية في عدم ترك المنطقة، واستدراكها أن الغياب سيعوض بمنافسيها، كروسيا والصين، لكن لا يمكن تجاهل أن هناك مصالح عربية مشتركة مع كل من روسيا والصين، وأن النظام الدولي في لحظة تغير، كما أن المدرك الأمريكي لأهمية الشرق الأوسط الجيوستراتيجية كحلقة وصل ما بين المحيطين الهندي والهادي، تقابله حسابات الأطراف العربية تجاه هذا المنظور، وأن عسكرة المنطقة وتعبئتها فقط لصالح هذا المنظور سيخل بهذه المصالح، مع الوضع في الاعتبار أن هذه المصالح لا تقتصر على الحسابات العربية، لدى إسرائيل علاقات متنامية مع الجانب الصيني، ومنفتحة على روسيا في الملفات المشتبكة معها من سوريا إلى أوكرانيا وغيرها. وبالمنطق ذاته فإن كلًا من الصين وروسيا يعززان السيناريو المضاد للاستراتيجية الأمريكية، فمقابل التنسيق الأمني والفعاليات الأمريكية في الشرق الأوسط، قامت روسيا والصين وإيران بخطوة مقابلة وأجروا مناورات العام الماضي (يناير 2021)، وعلى غرار قمة جدة هناك قمة ثلاثية في طهران مع موسكو وأنقرة، لكن قبل تلك القمة كان وزير الخارجية الروسي قد شارك نهاية مايو الفائت في قمة وزراء خارجية مجلس التعاون. إذن، مرة أخرى هناك مدرك عربي واضح لمنظور المصالح العربية وسط سيولة النظامين الدولي والإقليمي.
ثمة ملاحظات أخرى تتعلق بموضوع الأمن القومي العربي بشكل عام، من بينها على سبيل المثال:
- غالبًا ما يتم ربط هذا المفهوم بالبعد العسكري، وقضية الدفاع العربي المشترك، حتى عندما صرح وزير الخارجية السعودي بأنه لا وجود لناتو عربي أثار طرح مسألة إنشاء “منظومة دفاع عربي مشترك” قال إن الرياض سبق وطرحتها منذ خمس سنوات. لكن بشكل عام فإن النظرة إلى الأمن القومي العربي بهذه العدسة وحدها هو اختزال للفكرة. فمفهوم الأمن أوسع من ذلك بكثير، بل وتناولته القمة بشكل واضح في الإشارة إلى الأمن الغذائي والأمن المائي وقضايا المناخ والأمن الإنساني بشكل عام.
- يمكن القول إن هناك أرضية واضحة لمنطلقات ترتيبات الأمن القومي العربي، سواء بالمعنى الفني المتعلق بالقضايا الأمنية، على الرغم من تباين وجهات النظر العربية حول الكثير من القضايا، لكن القواسم المشتركة وانعكاسات التهديدات على الدول العربية يدفع إلى هذه الترتيبات بغض النظر عن مستوى التباينات، بالإضافة إلى الفاعليات العسكرية المشتركة بطبيعة الحال بين الدول العربية، لكن تظل هناك حاجة إلى وجود منظومة تترجم هذا الأمر، بخلاف ما يُطرح في الجانب العسكري فقط رغم أهميته.