أعلن الرئيس الأمريكي بدء انسحاب القوات الأمريكية من سوريا، مبررًا ذلك بهزيمة “داعش”، على اعتبار أن ذلك كان هو سبب الوجود الأمريكي هناك. وقد اعتبرت روسيا -من جانبها- هذا الوجود العسكري غير شرعي، وكان يعيق عملية تسوية الأزمة السورية. كما صرّح رئيس الوزراء الإسرائيلي بأن “ترامب” أخطره بالقرار مسبقًا، مؤكدًا أن ذلك لن يعني تخليًا عن حماية المصالح الإسرائيلية والأمريكية.
هذا التحول المفاجئ في الموقف الأمريكي يثير الكثير من التساؤلات حول الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، والموقف الأمريكي من التطورات السورية التي كانت واشنطن إحدى القوى الفاعلة بقوة في مراحلها خلال الفترة الأخيرة، خاصة بالنظر إلى الملاحظات التالية:
– أن الولايات المتحدة بذلت جهودًا مكثفة لإنشاء إقليم كردي في شرق الفرات في سوريا، وحالت دون تقدم الجيش السوري إلى تلك المنطقة، وساهمت في تمكين قوات الحماية الكردية من فرض سيطرتها على ثلاث محافظات في تلك المنطقة، وآبار البترول، وقدمت كل مظاهر الدعم العسكري والاقتصادي لها، ومكّنتها من إقامة منطقة حكم ذاتي مستقلة عن الدولة السورية وتحت حمايتها.
– أن الولايات المتحدة أقامت في تلك المنطقة، وخاصة بالقرب من الحدود العراقية، عشر قواعد عسكرية، أهمها قاعدة “التنف” قرب مثلث الحدود السورية الأردنية العراقية، وهي قاعدة ضخمة تغطي بنشاطها منطقة عمليات واسعة في سوريا وغرب العراق. ويتمركز في تلك القواعد حوالي 2500 فرد، فضلًا عن المستشارين ووحدات المخابرات الموجودة في غرف عمليات الموك في الأردن، وغرفة عمليات “الموم” في تركيا.
– أنه تزامن مع قرار الانسحاب العسكري الأمريكي بعض التطورات ذات الدلالة، والتي من أهمها الموافقة على صفقة الباتريوت لتركيا، والتي ظلت واشنطن تماطل في الموافقة عليها لأكثر من عامين بعد أن اقتربت تركيا من حسم صفقة إس 400 الروسية، وتراجع الولايات المتحدة عن تسيير دوريات أمريكية عسكرية للفصل بين القوات التركية والقوات الكردية في شمال سوريا، وهو أمر رفضته تركيا.
– أن الانسحاب يتزامن كذلك مع إعلان تركيا أن قواتها سوف تتحرك لمواجهة القوات الكردية في شرق الفرات للحيلولة دون إقامة إقليم حكم ذاتي هناك، وبالتالي فإن الانسحاب على هذا النحو يمثل استجابة للطلب التركي، وتخليًا عن الأكراد، الأمر الذي دفع بعض القيادات الكردية إلى اعتباره طعنة في الظهر للأكراد.
وترتيبًا على ما سبق، يمكن القول إن القرار الأمريكي كان مفاجئًا، ويتجاوز التطورات العسكرية الجارية، حيث إن الجيش الأمريكي نقل منذ أسابيع معدات وقوات إضافية إلى منطقة شرق الفرات ومنبج شمال حلب.
ولا شك في أن بعض جوانب الانسحاب العسكري تتعلق بالحرص الأمريكي على تحجيم التقارب التركي-الروسي، واستعادة تركيا تحت المظلة الأمريكية، والتضحية بالأكراد في صفقة تبادلية تكفل أن تعود تركيا فاعلًا رئيسيًّا في الأزمة السورية، وحامية للمصالح والرؤية الأمريكية بخصوصها، وهو ما يُساهم -من وجهة نظر بعض دوائر صنع القرار الأمريكية- في إرباك السياسة والحضور الروسي بأقل تكلفة. وقد عبر عن ذلك البنتاجون الذي أكد أن الولايات المتحدة ستواصل العمل مع شركائها في المنطقة لتحقيق المصالح الأمريكية.
وفيما يتعلق بتداعيات قرار الانسحاب العسكري الأمريكي على تطورات الأزمة السورية، وقدرة الولايات المتحدة على التأثير على مساراتها القادمة، نشير للاعتبارات التالية:
– أن التصريحات التي صدرت منذ أيام من مسئولين أمريكيين، والتي أكدت أن واشنطن لا تسعى لإزاحة الرئيس السوري، تكشف عن المأزق الذي تواجهه السياسة الأمريكية في سوريا، فهي لم تتمكن من طرح خريطة طريق ومسار للتسوية بديل للخطة والمسار الذي تبنته روسيا وساندته تركيا وإيران، فضلًا عن ضعف قوى المعارضة التي حرصت على رعايتها ودعمها، سواء الفصائل العسكرية التي نجح الجيش السوري في محاصرتها والقضاء عليها، وكذلك مجموعات المعارضة السياسية التي تفتقر إلى أي ثقل داخلي.
– لا شك في أن الانسحاب العسكري يعني -في جانب منه- خفض الانخراط الأمريكي في الأزمة، والتركيز في مجال التأثير على مسارها من خلال الأمم المتحدة والمجتمع الدولي لممارسة أكبر قدر من الضغوط السياسية وتوسيع خيارات الحركة على هذا المستوى.
– أن تركيا هي أكثر الأطراف استفادة من قرار الانسحاب، وإن كان من المتوقع أن يواجه الموقف التركي صعوبة في التوفيق بين مسئولية حماية الرؤية والمصالح الأمريكية واستمرار إطار التنسيق مع روسيا وإيران. ومن الواضح أن أنقرة تُبلور حاليًّا صياغة جديدة لموقفها، وهو ما عبر عنه وزير خارجيتها الذي أكد أن بلاده سوف تتعامل مع الرئيس “الأسد” إذا ما فاز في انتخابات حرة، وذلك في مسعى لاستثمار الرفض السوري الحكومي لإقامة كيان كردي في شرق الفرات، وهو ما أكده مؤخرًا وزير الخارجية السوري في ظل توقع قيام القوات التركية بمهاجمة القوات الكردية في شرق الفرات، وهو الأمر الذي أكده “أردوغان” لـ”ترامب” في حديثهما الهاتفي منذ أيام، بأن قرار الانسحاب العسكري الأمريكي سوف يجنب أمريكا حرج المواجهة العسكرية مع القوات التركية، مدركة أن تركيا سوف تسعى لتكرار نموذج ما حدث في عفرين وشمال سوريا من احتلال عسكري وتولي فصائل مرتبطة بها حكم المنطقة، وهو ما يتفق مع استراتيجية واشنطن في منع تمدد النظام السوري إلى شرق الفرات دون تكلفة أمريكية، إلا أن ذلك لن يمنع حدوث مواجهات بين الجيشين السوري والتركي هناك، كما أنه من المتوقع أن تسعى الحكومة السورية لاستثمار هذا الانسحاب الذي طالما اعتبرته احتلالًا غير مشروع بنشر قواتها في غرب الفرات، وتحقيق مكاسب داخلية، والتأكيد على استمرار تحالفها مع روسيا وإيران كقوى فاعلة.
ومن الواضح أن الأزمة السورية سوف تشهد نوعًا من إعادة الهيكلة، خاصة أدوار بعض القوى الفاعلة، حيث سيتزايد الدور التركي، وربما يتأثر بصيغة الحل من خلال مؤتمر سوتشي، وسيشهد التحالف الثلاثي الروسي التركي الإيراني اهتزازات سوف تسعى واشنطن لتعميقها.
كما أن موقف الدول المنخرطة في الأزمة عسكريًّا، خاصة الأوروبية، وتلك التي تقدم دعمًا ماديًّا لها، سوف تراجع مواقفها للبحث عن صيغة تبرر بها هذا الانخراط بعد الإعلان الأمريكي عن نهاية “داعش”.
من ناحية أخرى، فإن الانسحاب الذي يبدأ من مناطق التمركز الأمريكي التي تمثل ميدان حركة تنظيم “داعش” سوف يسمح بصحوة جديدة للتنظيم وإعادة انتشاره، خاصة وأن هناك بيئة حاضنة متزايدة بسبب ممارسات القوات الكردية ضد العشائر العربية في تلك المنطقة.
وإذا كانت واشنطن قد رفضت انتشار فصائل الحشد الشعبي العراقية المرتبطة بإيران قرب الحدود السورية في شرق الفرات، فإن إمكانية تمركزها هناك سوف تكون متاحة، خاصة بعد عودة قائد الحشد الشعبي “فالح فياض” إلى منصب مستشار الأمن القومي في العراق، وكونه المرشح القوي لتولي وزارة الداخلية، في انعكاسٍ لذلك كله على النفوذ والتأثير الإيرانيين في الأزمة السورية.
ومن اللافت أن ذلك التطور قد تزامن مع موقف عربي مفاجئ، خاصة مطالبة الاتحاد البرلماني العربي بعودة سوريا للجامعة العربية، وتحرك دول عربية كانت تساند بقوة الفصائل العسكرية المعارضة لسنوات بإعادة علاقاتها مع دمشق، وهو ما يثير الكثير من التساؤلات حول التأثير الأمريكي، وإذا ما كانت تتم إعادة صياغة استراتيجية أمريكية لمجمل قضايا المنطقة تخدم مبادرتها لحل الصراع العربي الإسرائيلي، وهل سيتم توريط دول عربية لملء الفراغ الأمريكي بقوات عسكرية، خاصة وأن بعضها كان يدفع جزءًا من تكاليف الوجود العسكري الأمريكي؟ وهل هناك علاقة بين هذا الانسحاب والاستعدادات الأمريكية لحرب قريبة على إيران في ضوء الجهود المبذولة للوساطة مع طالبان تمهيدًا لسحب القوات الأمريكية من أفغانستان أيضًا؟.
إن مجمل التطورات السورية الراهنة، وما هو متوقع من تغير في أدوار وتأثير القوى الإقليمية فيها، تشير إلى تداعيات متوقعة لمساحات الحركة والتأثير على الساحة الإقليمية، الأمر الذي يتطلب المزيد من الاهتمام المصري والتنسيق مع دول التحالف الخليجي لموازنة التمدد التركي والإيراني، وقد يكون من المفيد رفع درجة التمثيل الدبلوماسي مع سوريا، وتنشيط العلاقات مع المعارضة السورية ذات الصلة بمصر لتكون القاهرة قريبة من تطور الأزمة في سوريا.