حتى وقت قريب كان يطلق على لبنان “سويسرا الشرق الأوسط”، إلا أنه منذ خريف 2019 ولبنان يواجه أزمة اقتصادية ومالية تبعتها أزمة فيروس كورونا وختمت بانفجار مرفأ بيروت في أغسطس 2020 الذي أودى بحياة أكثر من 200 شخص وترك مساحة كبيرة من العاصمة في حالة خراب. وقد تسببت تلك الأزمات في فقدان الليرة اللبنانية 90% من قيمتها، وبلغ معدل التضخم السنوي 84.9% في 2020، وتضاعفت أسعار السلع الاستهلاكية أربع مرات تقريبًا في العامين الماضيين، وفقًا للإحصاءات الحكومية. كما أدت الرؤية غير الصائبة للسياسات الاقتصادية المتبعة لإغراق الدولة في الديون، وعدم قدرة البنك المركزي على الاستمرار في دعم العملة بسبب انخفاض التدفقات النقدية الأجنبية إلى البلاد، ويعبر الواقع الآن عن وصول الاقتصاد للقاع، تاركًا نقصًا في الغذاء والوقود والكهرباء والدواء، وعدم ضمان توفير الخدمات الأساسية، حيث ينتظر اللبنانيون في طوابير طويلة لتزويد سياراتهم بالوقود. ونظرًا لارتفاع تكلفة الوقود المستورد، فقد امتد انقطاع التيار الكهربائي عن الشبكة من بضع ساعات يوميًا إلى ما يصل إلى 23 ساعة، فارتفع الطلب على الطاقة من المولّدات المملوكة للقطاع الخاص والتي تعمل بالديزل، إلى جانب ارتفاع تكلفة الوقود لتشغيلها، وتوضح الورقة الوضع الحالي للاقتصاد اللبناني ومآلات الأزمة الاقتصادية وأزمة الوقود.
مؤشرات الاقتصاد اللبناني
وفقًا لتقرير أعده البنك الدولي فقد تراجع إجمالي الناتج المحلي بنسبة 20.3٪ في عام 2020 ليعبر عن حالة الانكماش الاقتصادي الذي تعاني منه لبنان. وبلغ متوسط مؤشر مديري المشتريات 41.1 نقطة خلال عام 2020 (وهو المؤشر الذي يعكس نشاط القطاع الخاص وتسجيله أقل من 50 نقطة، ويعني انكماشًا في النشاط الاقتصادي) وهي أدنى قراءة للمؤشر يتم تسجيلها منذ نشره لأول مرة في عام 2013، ويمكن متابعة تطور نمو الناتج المحلي الإجمالي بلبنان من خلال الشكل التالي:
شكل رقم (1): تطور نمو الناتج المحلي الإجمالي بلبنان خلال الفترة 2010-2020
المصدر: صندوق النقد الدولي.
يبين الشكل السابق حجم التقلص الواضح في معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي خلال آخر ثلاث سنوات شملتها الفترة، حيث تراجع من معدلات إيجابية ليصل إلى -1.9% عام 2018، ويواصل الانخفاض إلى -6.7% عام 2019 وصولًا إلى -20.3% عام 2020.
وبمتابعة تطور الأنشطة الاقتصادية المختلفة، فبالنسبة للقطاع العقاري فقد عانت تصاريح البناء وتسليمات الأسمنت التي تعتبر مؤشرات على البناء المستقبلي والجاري، من انخفاضات بنسبة 26.9 في المائة (على أساس سنوي) و44.7 في المائة (على أساس سنوي) على التوالي خلال الـ10 أشهر الأولى من عام 2020، وفي الوقت نفسه ازدهرت مبيعات العقارات على مدار عام 2020، حيث سعى بعض المودعين إلى الاستفادة من ودائعهم المصرفية غير القابلة للتحويل، كما ارتفعت رسوم تسجيل العقارات بنسبة 104.8 في المائة في عام 2020.
وتكبد قطاع التجزئة خسائر كبيرة بسبب مزيج من الأزمة المالية وإجراءات الإغلاق إثر انتشار فيروس كورونا. وبالنسبة للميزان التجاري، فقد كان صافي الصادرات هو المساهم الوحيد في النمو في عام 2020. ووفقًا لبيانات الجمارك، انخفض عجز التجارة السلعية بنسبة 54.8% (على أساس سنوي) خلال الأشهر الـ 11 الأولى من عام 2020، مستفيدًا من تراجع بنسبة 45.4% (على أساس سنوي) في الواردات، على الرغم من التراجع بنسبة 4.2% (على أساس سنوي) في الصادرات، هذا وقد تم تعويض تحسن الميزان التجاري السلعي جزئيًا من خلال تدهور ميزان التجارة في الخدمات.
أما قطاع السياحة، فنتيجة للتأثير الكبير لـكوفيد-19 على قطاع السياحة، انخفض عدد السياح الوافدين بنسبة 71.5 في المائة (على أساس سنوي) في الأشهر الخمسة الأولى من عام 2020، وبلغ متوسط معدل إشغال الفنادق 16.6% فقط خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2020.
وفيما يتعلق بمعدل الاستهلاك الخاص، الذي بلغ متوسطه 92.3% من إجمالي الناتج المحلي خلال الفترة 2015-2018، فقد تلقّى ضربة قاسية في عام 2020، حيث انخفض مؤشر ثقة المستهلك لبنك بيبلوس / البنك الأهلي المتحد بنسبة 65.1 في المائة في الأشهر التسعة الأولى من عام 2020، مقارنة بالفترة نفسها من عام 2019، وذلك بحسب صندوق النقد الدولي.
قطاع الطاقة وتوليد الكهرباء بلبنان
لطالما كان قطاع الطاقة في لبنان في قلب التحديات الاقتصادية والمالية في البلاد لأنه يضيف أعباء إلى ارتفاع العجز المالي والتجاري نظراً لاعتماد لبنان على الواردات لتغطية احتياجاته من الطاقة، وتتمثل الأعباء في الدعم الحكومي الكبير والذي يؤدي إلى تحمل الحكومة تكاليف إضافية لخفض الأسعار على المواطنين، علما بأنه تمثل المنتجاب النفطية 97% من إجمالي إمدادات الطاقة الأولية بلبنان وذلك بحسب وكالة الطاقة الدولية.
ولم يكن قطاع الطاقة قادرًا على تأمين إمدادات كافية لمستهلكي الكهرباء، مما أثر بشدة على التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ويعاني قطاع الكهرباء منذ عقود من عجز مالي أدى إلى زيادة في عجز الميزانية السنوي المستمر من 1 إلى 2 مليار دولار أمريكي على شركة كهرباء لبنان، وتصل هذه العجوزات التراكمية إلى حوالي 40 مليار دولار أمريكي اعتبارًا من عام 2020، وهي حصة كبيرة من الدين العام.
هذا وقد انخفض بالفعل بشكل كبير إنتاج توليد الكهرباء لشركة كهرباء لبنان بنسبة 19% (على أساس سنوي) على مدار الأحد عشر شهرًا الأولى من عام 2020، ومن المتوقع المزيد من الانقطاعات المستمرة للتيار الكهربائي إذا لم يوافق البرلمان على المخصصات الخارجة عن الميزانية البالغة 1500 مليار ليرة لبنانية (996 مليون دولار بالسعر الرسمي) لشركة كهرباء لبنان لشراء الوقود.
وتتقلص إيرادات شركة كهرباء لبنان، وهي بالليرة اللبنانية، بسبب زيادة الخسائر الفنية والتجارية والتحصيلية التي تفاقمت بسبب ثبات التسعيرة والتي ظلت دون تغيير منذ عام 1994، ويعد هذا الاستنزاف المالي في عام 2020 والمتمثل في خسائر تحصيل بنسبة 20% وتراجع التدفق النقدي لشركة كهرباء لبنان بنسبة 50% مقارنة بعام 2019، ومن المتوقع أن يزداد سوءًا، ومن المرجح أن تزيد شركة كهرباء لبنان من انقطاع التيار الكهربائي المتداول لإدارة النقص في التدفق النقدي.
وتتفاقم الحالة الهشّة لشركة كهرباء لبنان بسبب النقص الحاد في العملات الأجنبية اللازمة لصيانة محطات الطاقة، ومع زيادة اعتماد شركة كهرباء لبنان على انقطاع التيار الكهربائي كأداة لإدارة النقد، ولإدارة الإمدادات المتناقصة من شركة كهرباء لبنان خلال العام الماضي، اضطر المستهلكون إلى زيادة اعتمادهم على مولدات الديزل الخاصة باهظة الثمن وذات التلوث العالي، والتي تصل تكلفتها التقديرية إلى 30 سنًتا أمريكيًا / كيلووات ساعة.
ومع استمرار الأزمة الاقتصادية في التدهور واستنزاف احتياطيات مصرف لبنان من العملات الأجنبية بشكل متزايد، تفكر الحكومة بجدية في رفع دعم الديزل، مما سيزيد التكلفة بشكل كبير من تكلفة المولدات الخاصة، وعلى هذا النحو قد يبدأ المستهلكون في تقليص استخدام المولدات الخاصة بسبب الضغوط الاقتصادية، والتي قد تؤثر على قوة العمل المقدرة في هذه الصناعة بـ 13200.
دعم المؤسسات الدولية للبنان
أطلقت مجموعة البنك الدولي، بالتعاون مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، تقييمًا سريعًا للأضرار والاحتياجات لتقدير تأثير انفجار مرفأ بيروت على السكان والأصول المادية، والبنية التحتية وتقديم الخدمات، وتم اتباع “نهج لبنان كله”، بإشراك السلطات والمؤسسات العامة ومنظمات المجتمع المدني، ووجد التقييم أن قيمة الضرر كانت في حدود 3.8 إلى 4.6 مليارات دولار أمريكي، مع خسائر في التدفقات المالية من 2.9 إلى 3.5 مليارات دولار أمريكي. وكان التأثير شديدًا بشكل خاص في القطاعات الرئيسية الحيوية للنمو، بما في ذلك التمويل والإسكان والسياحة والتجارة. حتى نهاية عام 2021، ومن المتوقع أن تصل تكاليف التعافي وإعادة الإعمار إلى ما مجموعه 1.8 إلى 2.2 مليار دولار أمريكي، بحسب صندوق النقد الدولي.
وبناءً على التوصيات، أطلقت مجموعة البنك الدولي والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة في (ديسمبر) 2020 إطار الإصلاح والإنعاش وإعادة الإعمار لتلبية احتياجات لبنان الفورية والقصيرة الأجل، وتضمن “إعادة البناء بشكل أفضل” من خلال اعتماد نهج متكامل يركز على الانتعاش الذي يركز على الناس وتمهيد الأرضية لإعادة الإعمار على المدى المتوسط، وعلى بدء الإصلاحات الهيكلية الرئيسية على أساس مبادئ الشفافية والشمول والمساءلة.
وعلى إثر ذلك تأسس صندوق التمويل اللبناني رسميًا، وهو صندوق استئماني متعدد المانحين، لبدء التعافي الاجتماعي والاقتصادي الفوري للفئات السكانية الضعيفة والشركات المتضررة من انفجار مرفأ لبنان، ولدعم الحكومة اللبنانية في تحفيز الإصلاحات، والاستعداد للتعافي على المدى المتوسط وإعادة الإعمار، وسيوفر الصندوق وسيلة مهمّة لتجميع موارد المنح وتعزيز تماسك وتنسيق التمويل بما يتماشى مع الأولويات المتفق عليها من قبل مجموعة البنك الدولي والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، وسيتبنى طرائق تنفيذ مرنة ومراقبة ورقابة ائتمانية قوية.
وفي أغسطس 2021، تم الاتفاق على منح لتمويل صندوق إعادة بناء مؤسسات الأعمال في بيروت، وتم التوقيع على الصندوق بعد المصادقة عليه في أبريل عام 2021 من قبل مجلس الشراكة التابع لصندوق التمويل اللبناني، هذا وقد قدرت منح صندوق إعادة بناء مؤسسات الأعمال في بيروت بقيمة 25 مليون دولار أمريكي وذلك لدعم تعافي 4300 من المؤسسات الصغيرة والمتناهية الصغر المستهدفة، بغرض الحفاظ على وظائف القطاع الخاص وتقليل إغلاق الأعمال وتسريح العمال، ولدعم الانتعاش الاجتماعي والاقتصادي الفوري للأشخاص المعرضين للخطر والشركات المتضررة من انفجار ميناء بيروت.
أخيرًا، يتضح مما سبق أن التوقعات بشأن تحسن معدلات النمو الاقتصادي أكثر تعقيدًا، وتخضع إلى قدر أكبر من عدم اليقين، فلا توجد أي مؤشرات متفائلة قد تساهم في تحسن الوضع الاقتصادي للبنان نظرًا لعدم وجود تطورات إيجابية على الصعيد السياسي، كما أن هناك حاجة لاتخاذ إجراءات عاجلة لتجنب الانهيار الكامل للقطاع الكهربائي في المستقبل القريب. وعلى المدى القصير، هناك حاجة إلى معالجة النقص النقدي لشركة كهرباء لبنان لتجنب زيادة انقطاع التيار الكهربائي. وبالرغم من التحركات الدولية لدعم الاقتصاد اللبناني إلا أن عدم توصل الفرقاء السياسيين لاتفاق يقف كحجر عثرة أمام وضع سياسات اقتصادية تساهم في عودة الأوضاع الاقتصادية لمستويات ما قبل الأزمات الأخيرة ومعالجتها بشكل جذري، خاصة لما لها من أبعاد اجتماعية مع وقوع أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر الوطني.