مع بدء الحرب الروسية الأوكرانية، ردت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي على الهجوم العسكري الروسي من خلال مجموعة جديدة شاملة من العقوبات الاقتصادية، بما في ذلك الخطوة غير المعتادة المتمثلة في عزل المؤسسات المالية الروسية عن نظم الاتصالات المالية العالمية بين البنوك (SWIFT)، وبذلك يزيد حجم العقوبات الاقتصادية المتوالية على الدولة الروسية منذ سنوات، إذ أدت الحرب الروسية المتصاعدة في أوكرانيا إلى فرض عقوبات اقتصادية غير مسبوقة على البلاد.
ويبدو أن واقع الحرب يجعلها لا تدور فقط في ساحات معارك عسكرية، بل تدور أيضًا في ساحات اقتصادية موازية. ويرجع هذا الأمر إلى التفوق الروسي الواضح من الناحية العسكرية من قبل أن تبدأ الحرب، وهو ما تبعه اتجاه الرئيس الروسي بوتين إلى الاعتماد على الإجراءات العسكرية التقليدية التي تعمل لصالحه. كما جاء الرد من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالتحرك صوب المقاطعة الاقتصادية الدولية.
الحرب الاقتصادية على الروس
الحرب الاقتصادية ليست مصطلحًا جديدة، بل يعود تاريخها لمئات بل وآلاف الأعوام بما يقارب تاريخ الحروب نفسها، حيث تم استخدام فكر الحصار والمقاطعات الاقتصادية مرات يصعب حصرها، وكذلك الوضع مع عمليات الحظر بهدف إلحاق الضرر بأي بلد اقتصاديًا عن طريق وقف التجارة المادية، إضافة لما جد في التاريخ الحديث من وقف حركات التجارة الإلكترونية والمعاملات المصرفية الرقمية. فعلى سبيل المثال، اعتمدت الحروب العالمية الأخيرة تجاه الجماعات الإرهابية على عقوبات تستهدف كيانات وأشخاصًا ومنظمات بعينها بهدف وقف جهات التمويل لتلك الكيانات.
وفي حالة العقوبات الموقّعة على روسيا مؤخرًا، فقد تم الاعتماد على إجراءات غير تقليدية في الحرب الاقتصادية تجاهها، مثل استبعاد الجهات الفاعلة المالية الروسية من نظام SWIFT، علمًا بأن الوصول إلى المدفوعات يعد شرطًا أساسيًا لعمل اقتصاد الدولة هذه الأيام. فكل بلدٍ لديه بنك مركزي يلعب دور منسق نظام الدفع، والربط الشبكي بين البنوك في تلك الدولة. وفي غياب بنك مركزي عالمي، يلعب نظام SWIFT دور التنسيق بين البنوك المركزية في مختلف الدول والبنوك حول العالم لتمرير ومعالجة المدفوعات. وبالتالي لم يعد لدى الفاعلين الماليين الروس طريقة سهلة أو عالمية لتحريك الأموال.
وقد اتضح حجم الاضطراب الاقتصادي لروسيا مع قطع نظام SWIFT في عدة عوامل. منها الانخفاض الحاد بحوالي 30 في المائة في قيمة عملة الروبل الروسية بمجرد الإعلان عن هذا الإجراء. وكان من الممكن أن تزيد هذه النسبة وقتها لولا قيام البنك المركزي الروسي بزيادة أسعار الفائدة بشكل حاد في محاولة للاحتفاظ بالأموال داخل روسيا، حيث قفزت أسعار الفائدة من 9.5٪ إلى 20٪ في يوم واحد. وبالفعل بدأت بعض العلامات التجارية الكبيرة مثل Ikea في الانسحاب، مما يؤثر على آلاف العمال.
بينما تم اتخاذ خطوات لمنع البنك المركزي الروسي من استخدام احتياطياته الأجنبية البالغة 630 مليار دولار (562 مليار يورو)، وذلك بالتزامن مع منع البنك مؤقتًا من بيع الأوراق المالية التي يحتفظ بها الأجانب. إلا أنه لا يزال يصعب على البنوك في روسيا أو في أي دولة عمومًا القيام بمهامها دون الاعتماد على عملة الاحتياطي العالمية الدولار، مما يعني المزيد من احتمالات انخفاض قيمة الروبل أكثر أمام الدولار مع استمرار الحرب. كما أن قرار الولايات المتحدة الأخير برفع سعر الفائدة في البنوك الأمريكية بهدف مكافحة التضخم، قد يدفع لرفع الفوائد في بنوك دول عديدة أخرى وانخفاض قيم العملات أمام الدولار في محاولة لإبقاء تلك الدول على الاستثمارات ومنع خروجها للولايات المتحدة الأمريكية.
وبالتالي، نتيجة للتنسيق التاريخي متعدد الأطراف، أصبحت روسيا منبوذة اقتصاديًا وماليًا عالميًا بصورة غير معتادة، حيث أعلنت أكثر من 30 دولة تمثل أكثر من نصف اقتصاد العالم عن عقوبات تحاول فرض تكاليف اقتصادية فورية وشديدة على روسيا، وتقطع عنها الوصول إلى التكنولوجيا الفائقة، وتضعف إمكانيات نموها، كما تستهدف إضعاف جيشها لسنوات قادمة. وبالفعل بدأت قائمة الإجراءات المتصاعدة تؤثر بشدة على اقتصاد البلاد، فالبورصة مغلقة، والمواطن الروسي يقف في طوابير طويلة عند ماكينات الصرف الآلي.
عقوبات أمريكية بالجملة
كان الرئيس بايدن قد وقّع، في مارس 2022، على أمر تنفيذي لحظر استيراد النفط الروسي والغاز الطبيعي المسال والفحم إلى الولايات المتحدة، بهدف سلب الرئيس بوتين موارد اقتصادية هامة يعتمد عليها في ميزانيته. وقد اتخذت الولايات المتحدة هذا القرار بعد التشاور مع حلفائها في جميع أنحاء العالم، وكذلك أعضاء الكونغرس من كلا الحزبين. وأعلنت الولايات المتحدة أنها قادرة على اتخاذ هذه الخطوة بسبب بنيتها التحتية القوية للطاقة المحلية، لكنها تعلم أيضًا أن ليس كل حلفائها في وضع يسمح لهم حاليًا بالانضمام إليها.
تعتمد الولايات المتحدة على استيراد جزء من مواردها للطاقة من دول مختلفة منها روسيا. ففي العام الماضي وحده، استوردت الولايات المتحدة ما يقرب من 700000 برميل يوميًا من النفط الخام والمنتجات البترولية المكررة من روسيا. وبالتالي، ترى الحكومة الأمريكية أن هذه الخطوة ستحرم روسيا من عائدات بمليارات الدولارات من مستخدمي السيارات والمستهلكين الأمريكيين سنويًا. كما شمل الحظر أي استثمار أمريكي جديد في قطاع الطاقة الروسي، فضلًا عن منع الأمريكيين من تمويل أو تمكين الشركات الأجنبية التي تستثمر في إنتاج الطاقة في روسيا.
ردود أفعال عالمية
مع تصاعد المخاوف بشأن الوضع المالي لروسيا، تراجعت العديد من الشركات والمستثمرين الدوليين عن الاستثمار في البلاد. كانت الحكومة النرويجية قد أعلنت أن صندوقها النفطي البالغ 1.3 تريليون دولار، وهو أكبر صندوق للثروة السيادية في العالم، سيبيع استثمارات روسية بقيمة 3 مليارات دولار. كما تحركت شركة بريتيش بتروليوم لقطع علاقاتها مع شركة النفط الروسية روسنفت، حيث تخلت عن 20٪ من حصتها في الشركة. كما ستنهي شركة شل جميع روابطها مع غازبروم. في السياق نفسه، تحركت وكالات التصنيف الدولية بالفعل لخفض تصنيف روسيا الائتماني. وشمل هذا وكالتي استاندرد آند بورز وموديز. كما أشار محللون في بنك جولدمان ساكس إلى أن البنك الاستثماري خفض توقعاته للناتج المحلي الإجمالي الروسي هذا العام من نمو بنسبة 2٪ إلى انخفاض بنسبة 7٪. وعلى صعيد آخر، أنهى الاتحاد الأوروبي لكرة القدم، صفقة الرعاية التي امتدت لعشرة أعوام مع شركة غازبروم، والتي تبلغ قيمتها حوالي 40 مليون يورو.
لكن لا يزال لدى روسيا حوالي 15 ٪ من احتياطياتها الأجنبية محتفظ بها في الصين. كما تمتلك روسيا أيضًا أحد أكبر مخزونات الذهب في العالم، حوالي 2300 طن بقيمة حوالي 142 مليار دولار بالأسعار الحالية. ومع ذلك، فإن مثل هذه الخيارات محفوفة بعدم اليقين أيضًا، حيث إن بيع الذهب أو اليوان ليس خاليًا من التعقيدات. فالبنوك الحكومية الصينية تمنع بالفعل تمويل مبيعات النفط الروسي، ربما تحسبًا لأي عقوبات اقتصادية تصيبها.
حرب اقتصادية ذات حدين
لكلّ هذه الأسباب وأكثر، تعمل حزمة العقوبات الاقتصادية ضد الدولة الروسية بشكل مضر حقًا لها، حتى وإن كان ليس كافيًا لإثنائها عن الخيار العسكري حتى الآن. لكن ترابط الاقتصاد العالمي يعني أيضًا أن الضحايا في مثل هذه الحرب يمكن أن يكونوا من كلا المعسكرين، إذ سوف يتردد صدى عزل روسيا عن النظام الاقتصادي على المستوى الدولي والحرب الروسية الأوكرانية عمومًا. وظهرت مؤشراته بالفعل في عدة قطاعات بدول عديدة منها قطاعات تجارة القمح والوقود الأحفوري وبصورة أبسط قطاع السياحة. على سبيل المثال، ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي وليس فقط النفط على معظم دول العالم، وهو ما قد يؤدي إلى صعوبات اقتصادية عدة خاصة للدول النامية التي لم تأخذ تلك الزيادات في حساب ميزانياتها الصغيرة نسبيًا مقارنة بالدول الكبرى. وفي حالة استمرار الزيادات الأخيرة في أسعار النفط والغاز، يتوقع الاقتصاديون أن ارتفاع التضخم قد يضرب الأسر والشركات، كما قد يؤدي إلى تباطؤ اقتصادي في جميع أنحاء العالم.
ويتوقّع الخبراء كذلك ضررًا في إمدادات السوق الأوروبي من الغاز الطبيعي بسبب العلاقة الوطيدة مع استيرد الغاز الروسي وعدم جاهزية دول الاتحاد لإيجاد بدائل. كما تراجعت أسواق الأسهم الأمريكية بشكل حاد عندما بدأت الحرب، وهو ما يميز عواقب هذه الأزمة بالتحديد. فالحروب الدولية المؤثرة خلال العقود الأخيرة كحرب الخليج وحرب تحرير البوسنة والهرسك وغزو أفغانستان، رغم ضحاياها البشرية العديدة والخسائر الجمة الناتجة من الخراب والتدمير، لم تحدث مثل هذا التوتر الاقتصادي العالمي القائم حاليًا، بل وربما لم تحدث مثل تلك المؤشرات منذ أوقات الحرب العالمية الثانية، خاصة مع بعض التوقعات برفض بوتين دفع ديون بلاده الخارجية مع استمرار وزيادة وتيرة العقوبات الاقتصادية ضد بلاده.