أعلن البيت الأبيض، في 14 ديسمبر 2018، عن اتفاق الرئيسين التركي “رجب طيب أردوغان”، ونظيره الأمريكي “دونالد ترامب”، على استمرار التنسيق والتعاون بين الولايات المتحدة وتركيا قبل شن أي عمليات عسكرية تركية في شرق الفرات. كما كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن “ترامب” طالب “أردوغان” بوقف عملية شرق الفرات، حيث ترفض واشنطن شن أنقرة أي عملية عسكرية في المنطقة الواقعة في شمال شرق سوريا، والتي تستهدف بالأساس القضاء على الفصائل الكردية المسلحة ومن بينها “قوات سوريا الديمقراطية” المعروفة باسم “قسد” التي تتلقى دعمًا أمريكيًّا، والمتمركزة بتلك المنطقة، والتي تصنفها أنقرة جماعةً إرهابيةً. كما أعلن المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) “شون روبتسون”، في 13 ديسمبر 2018، أن أي إجراء أحادي الجانب لأي طرف شمال شرقي سوريا يمثل “مصدر قلق شديد، وغير مقبول”، وأكد “روبتسون” استمرار التنسيق مع “قسد” في ظل الالتزام بالحفاظ على أمن تركيا.
بيد أن هذا الرفض الأمريكي العلني لأي تحركات تركية لم يُثنِ أنقرة عن استمرار التعبئة والحشد العسكري، استعدادًا لإطلاق عملية عسكرية، حيث أرسلت ولاية هاتاي التركية إلى الحدود التركية-السورية قافلة عسكرية جديدة تضم مركبات، وناقلات جنود مدرعة، ومنصات مدفعية، وذلك في مؤشر واضح ومهم على اعتزام “أردوغان” تنفيذ وعده بشن عملية عسكرية بشرق الفرات.
وتستهدف العملية التركية المخططة ضد شرق الفرات تحقيق عددٍ من الأهداف، نوجزها فيما يلي:
1- تعزيز الوجود التركي الاستراتيجي في شرق سوريا: وذلك من خلال نقل الثقل الاستراتيجي للعمليات العسكرية التركية في سوريا من وسط سوريا إلى منطقة شرق الفرات التي تسيطر عليها وحدات “حماية الشعب الكردية”، بجانب قوات سوريا الديمقراطية “قسد” (المكونة من عناصر كردية وعربية، وساهمت في محاربة تنظيم “داعش” الإرهابي وتسيطر حاليًّا على 30% من مساحة سوريا، وتتلقى دعمًا لوجيستيًّا أمريكيًّا مستمرًّا). وبالإضافة إلى وحدات حماية الشعب، وقوات سوريا الديمقراطية، توجد في هذه المنطقة أيضًا قاعدة عسكرية أمريكية هي قاعدة “التنف” التي تضم أكثر من 2000 جندي أمريكي، وشهدت تعزيزات في بنيتها التحتية واستقبلت وفودًا عسكرية أمريكية خلال الفترة الماضية، إلى جانب صدور تأكيدات أمريكية متواترة حول تعزيز التواجد العسكري بسوريا حتى إتمام التسوية النهائية. من ناحية أخرى، تُعد شرق الفرات منطقة متاخمة للحدود العراقية-السورية، ولآبار النفط السورية بدير الزور. لذا فإن الوجود العسكري التركي المباشر في شرق الفرات سيعزز من أوراق التفاوض التركية خلال أية ترتيبات مستقبلية في إطار التسوية النهائية، فضلًا عن إمكانية تأثيره على التوازنات الداخلية في سوريا.
2- تعبئة الداخل التركي قبل الانتخابات المحلية: يسعى “أردوغان” إلى حشد الرأى العام التركي، وتعبئة القوى السياسية لصالحه ولصالح حزب العدالة والتنمية قبل إجراء الانتخابات المحلية المقررة في مارس 2019، خاصةً بعد الإعلان عن فض التحالف بين “العدالة والتنمية” وحزب “الحركة القومية” المعروف عنه عداؤه للأكراد ولأي قوميات غير تركية، كما يدعو لمحاربة حزب العمال الكردستاني بجنوب تركيا والجماعات المرتبطة به في سوريا والعراق مثل “قسد”. وفي هذا الإطار، اتخذ “أردوغان” عدة إجراءات لحشد مؤيدي الحزب لصالحه لضمان الفوز بالانتخابات المحلية المقبلة التي سيتنافس فيها مع حليفه السابق، ومنها الإعلان عن فرض حظر التجول في محافظة ديار بكر (جنوب البلاد) ذات الأغلبية الكردية، وكذلك الإعلان عن شن عملية عسكرية في شرق الفرات على نحو ما جاء في كلمةٍ له في تجمع انتخابي.
ومن الجدير بالذكر أن شن عمليات عسكرية بالخارج قبل الانتخابات أصبح إحدى الآليات التي درج عليها “أردوغان” لحشد الأصوات لصالحه؛ فقد شن عملية “درع الفرات” في 24 أغسطس 2016 ضد “داعش”، والتي انتهت بتأكيد وجود تركيا في شمال سوريا، وذلك قبل إجراء الاستفتاء على التعديلات الدستورية في أبريل 2017، والذي انتهى بإقرار تحوّل تركيا من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي. وتم شن عملية “غصن الزيتون” في عفرين في 20 يناير 2018، واستمرت ثلاثة أشهر، ضد “وحدات حماية الشعب” الكردية، وأسفرت عن احتلال تركيا لمدينة عفرين، وذلك قبل إجراء الانتخابات الرئاسية المبكرة في 24 يونيو 2018 وفاز فيها “أردوغان” بنسبة 52.9%.
3- دعم الفصائل المسلحة: فقد عقد “أردوغان” ونظيره الروسي “فلاديمير بوتين”، في 17 سبتمبر 2018، قمة ثنائية بمدينة “سوتشي” الروسية، اتفقا خلالها على إقامة منطقة منزوعة السلاح في إدلب، آخر معقل للمعارضة المسلحة السورية بالبلاد. وقد حال هذا الاتفاق دون بدء العملية العسكرية التي كانت تعتزم دمشق تنفيذها لاستعادة السيطرة على إدلب. بيد أنه منذ ذلك التاريخ والخروقات من قبل الفصائل المسلحة والقوات الحكومية مستمرة، وهناك مخاوف من انهيار الاتفاق في أي وقت، وبدء العملية العسكرية. لذا يسعى “أردوغان” إلى دعم حلفائه من الفصائل المسلحة عبر شن هجوم في مناطق سورية أخرى لتشتيت القوات الحكومية، حيث تقوم القوات التركية باستمرار بشن غارات على مناطق بشمال سوريا في حلب وعفرين. كما نفذت في 30 أكتوبر 2018 قصفًا مدفعيًّا عنيفًا على بلدة “زورمغار” بريف عين العرب (كوباني) في هجوم فُسّر على أنه دعم لتنظيم “داعش” لتستمر سيطرته على تلك المنطقة. وبالفعل، أعقب هذا الهجوم تمدد للتنظيم الإرهابي بدير الزور وهزيمة لقوات “قسد”، ما يُعزز الاتهامات الغربية لأنقرة حول تعاونها مع “داعش”.
4- مناورة واشنطن: ما زال التوتر هو السمة الغالبة على العلاقات التركية-الأمريكية في مدينة منبج الكردية شمال سوريا. فرغم تسيير 3 دوريات أمريكية تركية مشتركة لحفظ الأمن بالمدينة، إلا أن “أردوغان” هدد، في 14 ديسمبر 2018، بدخول القوات التركية منبج لإخراج المسلحين الأكراد منها حال فشل واشنطن في ذلك. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه يوجد في منبج قوات أمريكية لدعم “قسد”، ما يُثير مخاوف من احتمالات الصدام العسكري بين أنقرة وواشنطن في منبج وشرق الفرات، وهو ما يكشف بدوره عن أزمة حقيقية في أولويات أنقرة وواشنطن في سوريا، وفي إدارة العلاقات التركية-الأمريكية بشكل عام، ولا سيما بعد تصاعد الخلافات بين الدولتين العضوين في حلف شمال الأطلسي حول عدد من الملفات، ومنها الرفض الأمريكي لتكثيف التواجد العسكري التركي بسوريا، واتجاه أنقرة إلى شراء صواريخ “إس 400” من روسيا وما تبعه من تقارب تركي روسي يهدد المصالح الأمريكية، والموقف التركي المتعنت في حادثة مقتل الصحفي السعودي “جمال خاشقجي” بقنصلية بلاده بإسطنبول، ورفض واشنطن تسليم أنقرة الداعية الإسلامي التركي المعارض “فتح الله جولن” المقيم بولاية بنسلفانيا الأمريكية، والذي يتهمه “أردوغان” بتدبير الانقلاب العسكري الفاشل في 15 يونيو 2016. أضف إلى ذلك الاعتراضات الأمريكية المستمرة على حملات الاعتقالات الواسعة التي تقوم بها أنقرة ضد المعارضة داخل تركيا. لذا، فإن تحرك أنقرة العسكري في شرق الفرات سيكون من أوراق الضغط والتفاوض بين أنقرة وواشنطن خلال المرحلة المقبلة.
ومن المنتظر كذلك أن تبدأ تركيا بالفعل عملية عسكرية في شرق الفرات خلال الأيام القليلة المقبلة. وقد أعلن عدد من فصائل المعارضة السورية دعمها لها، وربما سيشارك فيها عناصر من “الجيش الحر” كما حدث في عملية “غصن الزيتون”. وعلى الجانب الآخر، أعلن النظام السوري رفضه هذه العملية، كما تعهدت القوات الكردية و”الإدارة الذاتية” الكردية بشمال سوريا بالرد على أي هجوم عسكري تركي. بيد أن هذا الرد الكردي سيكون رهنًا بالموقف الأمريكي من التحرك التركي. كما يظل هناك غموض بشأن الموقف الأمريكي النهائي من هذا التحرك التركي المتوقع، بمعنى: هل ستتمكن واشنطن من منع التحرك التركي أو تحجيمه على أقل تقدير بحيث تكون العملية التركية محددة وليست شاملة عبر مفاوضة أنقرة التي ربما تغير وجهتها من شرق الفرات لمنبج؟ أم ستفشل واشنطن في إقناع حليفتها الأطلسية بوقف العملية العسكرية؟ وهو ما يثير مخاوف من حدوث صدام عسكري بين القوات الأمريكية والتركية بشرق الفرات.