في خطوة مفاجئة، أعلن الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” في التاسع عشر من شهر ديسمبر الماضي (٢٠١٨)، سحب القوات الأمريكية من سوريا. وقد برر قراره هذا بأن هذه القوات حققت الهدف من وجودها على الأراضي السورية، وهو القضاء على تنظيم “داعش” الإرهابي.
وقد أثار هذا القرار ردود فعل متباينة، سواء في الداخل السوري، أو على المستوى الدولي، لكن رد فعل الفصيل الكردي المدعوم أمريكيًّا ضمن “قوات سوريا الديمقراطية” كان هو الأبرز، حيث اعتبر هؤلاء قرار الرئيس الأمريكي بمثابة “طعنة في الظهر، وخيانة لدماء آلاف المقاتلين”.
ومن الجدير بالذكر أن قوات سوريا الديمقراطية تمثل القوة الثانية بعد النظام السوري من خلال سيطرتها على مساحة تتجاوز 28% من إجمالي الأراضي السورية. وتتمركز بالأساس في الشمال الشرقي السوري. وتتكون تلك القوات من فصائل متعددة أبرزها: “التحالف العربي السوري”، “جيش الثوار”، “قوات الصناديد”، “المجلس العسكري السرياني”، إضافة إلى “وحدات حماية الشعب” الكردية، و”وحدات حماية المرأة” الكردية، وهما قوات عسكرية تابعة لحزب “الاتحاد الديمقراطي الكردي”، وتعد العمود الفقري لقوات سوريا الديمقراطية.
وقد تَمَثَّل الدعم الأمريكي لتلك القوات مجتمعة، في: تقديم أسلحة ثقيلة من بينها مدافع هاون، ورشاشات ثقيلة، إلى جانب الذخيرة. بالإضافة إلى الدعم الجوي أثناء المعارك التي خاضتها ضد تنظيم “داعش”، وتقديم الاستشارة على جبهات القتال.
الوضع الكردي قبيل إعلان الانسحاب الأمريكي
يمثل الأكراد السوريون 15% من مجموع سكان الدولة السورية، ويتمركزون بشكل أساسي بمناطق الشمال السوري. ويُعبِّر عنهم سياسيًّا أكثر من ثلاثين حزبًا. ويعد حزب “الاتحاد الديمقراطي الكردي” أحد أهم تلك الأحزاب؛ لما له من شعبية، إضافة إلى امتلاكه ذراعًا عسكرية تتمثل في “وحدات حماية الشعب”، التي أصبحت فيما بعد ممثلًا لجيش الأكراد في سوريا. وقد شهد عام 2012 مواجهة بين قوات النظام وتلك الوحدات بمدينة كوباني وما يحيط بها من مناطق. وبعد مفاوضات انسحبت قوات النظام لتسيطر هذه الوحدات على مناطق كوباني وعامودا وعفرين.
وهناك ثلاثة ملامح أساسية ميزت التفاعل الكردي مع القوى الدولية والإقليمية خلال الفترة السابقة على إعلان الولايات المتحدة تخطيطها للانسحاب من سوريا، نشير إليها فيما يلي:
1- الدعم الأمريكي: فقد شهد عام 2015 بداية التحالف الأمريكي – الكردي، وذلك من خلال تقديم الولايات المتحدة الدعم الجوي لعمليات وحدات حماية الشعب الكردية ضد تنظيم “داعش”؛ بغرض إنهاء ما فرضه التنظيم من حصار على مدينة كوباني. وقد أصبحت تلك الوحدات منذ ذلك التوقيت الشريك المحلي الأول لواشنطن في المعارك البرية ضد “داعش”. ودخلت هذه الشراكة في مسار جديد تمثل في إعلان الإدارة الأمريكية، في أكتوبر من العام ذاته، عن استعدادها لدعم الآلاف من مقاتلي المعارضة السورية بهدف طرد التنظيم الإرهابي من منطقة الحدود التركية عن طريق إرسال أسلحة، ووسائل اتصال، وذخيرة، إضافة إلى الدعم الجوي أثناء العمليات العسكرية.
وأعقب ذلك الإعلان عن تأسيس “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، باعتبارها “قوة عسكرية وطنية موحدة لكل السوريين، تجمع العرب والكرد والسريان وكافة المكونات الأخرى”. وقد صاحب ذلك توجيه الولايات المتحدة لدعمها ومواردها بشكل مركز إلى تلك القوات، إلا أن هذا الدعم لم يَلْقَ ترحيبًا تركيًّا، ما أدى إلى نشوب خلاف أمريكي – تركي.
2- التهديد التركي: فقد صنفت تركيا حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وجناحه العسكري ممثلًا في وحدات حماية الشعب الكردية، تنظيمًا إرهابيًّا، على خلفية علاقة الحزب مع “حزب العمال الكردستاني” الذي تصنفه أنقرة تنظيمًا إرهابيًّا. وترفض أنقرة المسعى الكردي لإنشاء منطقة حكم ذاتي بالقرب من حدودها الجنوبية، ولذلك وجهت ضربات عسكرية لمواقع الوحدات الكردية، وهو ما قوبل بطلب أمريكي مفاده تجنب قصف مواقع الأكراد، والتركيز على قصف مواقع تنظيم “داعش”. لكن القيادة التركية استمرت في قصف المواقع الكردية، وطالبت الولايات المتحدة بوقف دعمها للأكراد.
وعليه، ظلت المطالبات الأمريكية لا تتعدى حدود التصريحات الكلامية، مع التأكيد على استمرار تحالفها مع تركيا، إلى جانب التأكيد على أن ما تقدمه من دعم للأكراد يأتي في سياق محاربة تنظيم “داعش”، ويضمن الحفاظ على أمن الحدود التركية.
3- التنسيق الروسي: فقد استمرت الولايات المتحدة كداعم رئيسي لقوات سوريا الديمقراطية بشكل عام، وللأكراد بصفة خاصة، وذلك بالتوازي مع موقفها الحذر حيال التهديدات التركية المستمرة ضد الأكراد، إلا أن ذلك لم يمنع الجانب الكردي من التواصل مع أطراف دولية أخرى، وفي مقدمتها روسيا. وقد تجلى ذلك في التنسيق بين الجانبين، إضافة إلى التحالف الدولي في عملية تحرير ريف دير الزور الشرقي في ديسمبر 2017، وما سبق ذلك من اتفاق على دخول قوات روسية إلى مدينة عفرين الواقعة تحت السيادة الكردية حينها، بهدف وقف التصعيد العسكري التركي الذي تمثل في قصف المواقع الكردية.
بدائل ما بعد الانسحاب الأمريكي
أحد العوامل الأساسية في تعقّد الأزمة السورية هو تعدد الفاعلين المحليين والدوليين، واختلاف تصورات كل منها بشأن تكييف طبيعة الأزمة السورية وطريقة تسويتها. لكن تظل تحركات الفاعلين الدوليين هي المحدد لمسار الأزمة، وكذلك لمدى تمدد أي من الفاعلين المحليين، وهو ما برز سابقًا في الدعم الروسي للنظام السوري، والدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية. لذلك بات على الأكراد دائمًا البحث عن حليف دولي لدعم تحركاتهم في محاربة تنظيم “داعش”، ومواجهة التهديد التركي، وضمان وجودهم الفاعل في مسار الحل السياسي السوري، خاصة بعد قرار الرئيس “ترامب” سحب القوات الأمريكية من سوريا، وما قد يتبعه من تراجع الولايات المتحدة عن دعمها المباشر لقوات سوريا الديمقراطية.
في هذا الإطار، هناك ثلاثة بدائل رئيسية لتحرك أكراد سوريا بعد القرار الأمريكي الأخير:
البديل الأول: إقامة تحالف كردي مع النظام السوري برعاية روسية، ويدخل في نطاق ذلك ما سيحدده هذا التحالف من وضع سياسي مستقبلي للأكراد، متمثلًا في قيام فيدرالية سورية مع تمتع المناطق الكردية بالحكم الذاتي داخل نطاق الدولة السورية، إلى جانب ما سيكون عليه وضع وحدات حماية الشعب الكردية، أو بشكل عام قوات سوريا الديمقراطية، سواء من ناحية اندماجها داخل الجيش الوطني النظامي، أو من ناحية بقائها داخل نطاق المناطق الكردية مع تبعيتها للجيش السوري، إضافة إلى تسوية مسألة السلاح الكردي بما يتفق مع مصلحة النظام ووفقًا للرؤية الروسية.
وبالرغم من وجود مناوشات بين قوات النظام و”قسد” من حين لآخر، إضافة إلى تصريحات الرئيس “بشار الأسد” المنتقدة للأكراد؛ إلا أن الجانب الكردي سبق وأعلن عن بادرة استعداده التفاوض والاندماج تحت مظلة النظام السوري. فمنذ دخول تركيا عفرين طالب مجلس سوريا الديمقراطية من النظام التحرك للدفاع عن وحدة الأراضي السورية. وفي ظل استعداد النظام للقيام بعملية عسكرية واسعة بإدلب، أعلن الأكراد عن استعدادهم لمساندة النظام السوري في معركته. كما أعلن الرئيس المشترك لمجلس سوريا الديمقراطية “رياض درار”، في يوليو الماضي (2018)، عن إمكانية “إعادة المناطق المسيطر عليها إلى النظام السوري” بعد التوصل إلى حلٍّ سياسي.
ومع التهديدات التركية الأخيرة، أعاد الأكراد مطالبتهم للنظام بتقديم الدعم والتحرك لمواجهة هذا التهديد، بل دعت وحدات حماية الشعب الكردية قوات النظام إلى دخول منبج. وفي ظل تضارب الأنباء حول دخول القوات السورية منبج بالفعل أو عدم دخولها، يظل الإعلان الكردي وإعلان الجيش السوري بالاستجابة أمرًا داعمًا نحو إمكانية التوصل إلى اتفاق جديد بين النظام السوري والأكراد.
ولا شك أن تحقُّق هذا البديل قد ينتج عنه توتر بين الحليفين الروسي والتركي، يستتبعه عقد اتفاقيات جديدة تفضي إلى إعادة تقسيم النفوذ، يضمن بها الجانب التركي أمنه الحدودي، وابتعاد الأكراد عن مناطق سيطرته، في مقابل ترحيل المزيد من فصائل المعارضة المسلحة من مناطق مثل: التنف، وجسر الشغور، إلى المناطق الخاضعة للسيطرة التركية.
البديل الثاني: استمرار الدعم الأمريكي للأكراد، لكن بشكل مختلف عما كان في السابق. ففي حال تحقق الانسحاب الأمريكي الكامل بالفعل من سوريا، فقد يقتصر الدعم الأمريكي على تقديم غطاء جوي للعمليات الكردية الموجهة ضد تنظيم “داعش”، وذلك من خلال تمركز قواعدها العسكرية بالعراق. وقد يتمثّل الدعم أيضًا في استمرار احتفاظ الأكراد بالأسلحة الأمريكية في إطار ما أوصى به مسئولون بوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)، وذلك لشبه استحالة تحديد أماكن كل الأسلحة حتى يتم استعادتها، فضلًا عن أنه لا يمكن نزع السلاح في ظل استمرار الحرب.
وسيُثير تحقيق هذا البديل الخلاف التركي-الأمريكي مجددًا، نظرًا لاستمرار التحالف الأمريكي-الكردي، إلى جانب تخوف أنقرة من استخدام تلك الأسلحة ضد قواتها.
البديل الثالث: تقديم فرنسا وبريطانيا الدعم للقوى الكردية، خاصة مع ما أبداه الطرفان من معارضة للقرار الأمريكي بسحب القوات من سوريا لعدم تحقق الانتصار الكامل بعد على تنظيم “داعش”، وما أعلنه الأكراد عن قدرة الأطراف الأخرى في التحالف الدولي على سد الفراغ الأمريكي، خاصة مع تأكيد باريس ولندن دعمهما لعمليات التحالف.
ختامًا، يظل تحقق أي من البدائل الثلاثة السابقة أو جميعها مرهونًا بما قد يتوصل إليه الفاعلون الدوليون المؤثرون في الأزمة السورية من اتفاقات ومساومات، إلى جانب ما قد يقدمه الجانب الكردي من تنازلات أو مقدِرة على كسب حلفاء جدد، في الداخل أو الخارج، بما يُمكِّنه من تجاوز التهديد التركي، إلى جانب فرض وجوده ورؤيته، سواء من الناحية الميدانية أو من الناحية السياسية.