تُطلّ فصائل إسلاميي ليبيا بين فينة وأخرى بمشاهد متناقضة وبراجماتية تبلغ حد صعوبة التفرقة بين ما هو سلمي وعنيف في تفاعلاتها التنافسية على السلطة والثروة والهوية في هذا البلد. لكن ذلك قد يفسر -على الجانب الآخر- أحد العوامل المغذية للتعثر المستمر للأزمة الليبية منذ قرابة ثماني سنوات.
هنا، يبرز مشهدان لافتان في الآونة الأخيرة؛ الأول يكتسب دلالة سلمية، فبعدما أسهم الإسلاميون في إقصاء أنصار القذافي، عادوا اليوم بخطابات تتحدث عن “المصالحة”، حتى إننا نجد القيادي الإخواني “علي الصلابي” لا يمانع في ترشح “سيف الإسلام القذافي” لانتخابات الرئاسة، ويدعو لبنان للإفراج عن “هنيبعل القذافي”، وعدم محاسبته على أخطاء والده في قضية اختفاء الإمام “موسى الصدر”. بل ويتحرك بموازاة ذلك كله لنسج تحالفات إسلامية مع بعض أنصار “القذافي” عبر المنصة التركية.
المشهد الثاني يأخذ سمتًا مرتبطًا بالعنف، يظهر عندما أمر النائب العام الليبي في أوائل يناير الجاري (2019) باعتقال قيادات إسلامية، من بينهم “عبدالحكيم بلحاج” (جهادي سابق ورئيس حزب الوطن)، و”علي الصلابي”، و”شعبان هدية” (سلفي من غرفة ثوار ليبيا)، بتهمة التورط في هجمات مسلحة في تمنهنت والهلال النفطي في ليبيا. وبرغم أن “بلحاج” نفى تلك التهمة، إلا أن وضع الرجل مع “الصلابي” على قائمة الإرهاب التي وضعتها دول المقاطعة العربية لقطر، قد يشي باحتمال تطابق قرائن الداخل والخارج حول ارتباط هذه القيادات بالعنف على الساحة الليبية.
ويُثير هذان المشهدان استفهامًا حول التفرقة الشائعة في الدراسات الغربية، خاصة الأوروبية، لخارطة الإسلاميين الليبيين، إذ عادة ما يتم تقسيمهم إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية: أولها: تنظيمات تكفر العملية السياسية والدولة برمتها، وتمارس العنف والإرهاب ضد الآخر (مثل: داعش، والقاعدة، ومستنسخاتهما المحلية).
ثانيها: تنظيمات تلجأ للعمل السلمي وتقبل الديمقراطية، مثل: جماعة الإخوان المسلمين وحزبها العدالة والبناء، والحركة الإسلامية للتغيير (الجماعة الليبية المقاتلة سابقًا)، والأحزاب السلفية (مثل: الوطن، والأمة الوسط).
ثالثها: جماعات السلفيين المداخلة الرافضين بالأساس للعمل السياسي، أو الحركات الصوفية ذات الثقل التاريخي والثقافي في المجتمع الليبي.
وعلى أساس ذلك التقسيم، تنطلق السياسات الأوروبية والأممية تجاه تسوية الأزمة الليبية من نهج مفاده أن دعم استيعاب الإسلاميين المسيسين في العملية الديمقراطية يكبح نظراءهم العنيفين والتكفيريين. لكن ذلك المنطق -على وجاهته نظريًّا- يواجه تعقيدات في الواقع الليبي، ذلك أن تقسيم الإسلاميين إلى فريق سلمي وآخر عنيف قد يملك حجية أكثر على مستوى الخطابات (نصوص ومواقف فكرية)، لكن هذه الحجية ليست بهذه الدقة على مستوى الممارسات الفعلية عند محاولة أولئك الفاعلين تحقيق أهدافهم السياسية.
تلاقٍ براجماتي
يمكن القول إن هنالك حالة من التهجين hybrid أصابت التيارات الإسلامية في ليبيا على اختلاف مشاربها في مرحلة ما بعد إسقاط “القذافي”، بمعنى وجود تلاقٍ براجماتي أكثر منه أيديولوجيًّا بين الأحزاب والقوى الإسلامية المشتبكة مع العمل السياسي السلمي، والميليشيات والتنظيمات الجهادية التي تستخدم العنف، وترفض مؤسسات الدولة الوطنية.
ويأخذ ذلك التهجين للإسلاميين عدة أشكال يمكن استقراؤها من تفاعلات الأزمة الليبية، ومن أبرزها:
1- بناء تحالفات داخلية سياسية مسلحة، على غرار لجوء حزب العدالة والبناء (الذراع السياسية للإخوان) إلى التحالف مع نواب كتلة الولاء السلفي التي قادها “عبدالوهاب قايد” في المؤتمر الوطني العام (2012-2014) ومصراتة لدعم تشكيل تحالف “فجر ليبيا” بكتائبه المسلحة في يوليو 2014، والذي خاض حربًا أهلية في مواجهة عملية “الكرامة” بقيادة المشير “خليفة حفتر” في شرق ليبيا.
بل إن جماعة الإخوان صاغت علاقات وثيقة مع كتائب جهادية مسلحة في بنغازي (17 فبراير، وراف الله السحاتي) والتي تحالفت بدورها مع جماعة أنصار الشريعة المرتبطة بالقاعدة (تم حلها في عام 2017)، ضمن مجلس شورى ثوار بنغازي، بغرض عرقلة استراتيجية الجيش الوطني الليبي لمكافحة الإرهاب في شرق ليبيا. وحتى لو برر البعض هذه التحالفات الهجينة التي تجمع متناقضات فكرية، تحت بند التكيف مع انتشار القوة الميليشياوية؛ إلا أنها تعطي دلالة جوهرية تتعلق بعدم ممانعة حركات الإسلام السياسي في استخدام العنف، ولو بشكل غير مباشر من خلال آخرين لتحقيق أغراضها السياسية، حتى لو بدا أحيانًا أنها ترفض ذلك علنًا في خطاباتها.
2- إقصاء الخصوم السياسيين عبر التهديد بالعنف، فرغم أن حزب العدالة والبناء جاء في الترتيب الثاني في انتخابات المؤتمر الوطني العام في 2012، والتي تصدرها تحالف القوى الوطنية ذو التوجه الليبرالي، إلا أنه استطاع عبر التحالف مع كتلة الولاء السلفي ونواب إسلاميين مستقلين، وبدعم وتهديد من ميليشيات الدروع المسلحة آنذاك، قلب المعادلة بإصدار قانون العزل السياسي في مايو 2013 (ألغاه لاحقًا مجلس النواب في 2015) لتحجيم تحالف القوى الوطنية، والذي كان عدد من رموزه ينتمي لنظام “القذافي”.
ولم تُفلح تلك الاستراتيجية مرة أخرى بعد أن جاء حزب العدالة والبناء مجددًا في المرتبة الثانية في انتخابات مجلس النواب في 2014، إذ بدا غير قادر على ممارسة لعبة التحالفات الإقصائية، خاصة أن بنية المستقلين في مجلس النواب طغت عليها تيارات مناطقية وفيدرالية. ويفسر ذلك -إلى حد كبير- لجوء العدالة والبناء إلى دعم تحالف “فجر ليبيا” آنذاك.
3- اللجوء للخيار السياسي تحت ضغط الميدان، فبعدما غير الجيش الوطني الليبي معادلة الموازين العسكرية في الشرق في السنوات الثلاث التي تلت عملية “الكرامة”، خاصة مع تحرير بنغازي ودرنة؛ مال حزب العدالة والبناء أكثر نحو الخيارات السياسية لتعويض عملية انحساره السياسي، وضعف حلفائه الميليشياويين أمام صعود قوة “حفتر”. فقد دعم الحزب اتفاق تسوية الصخيرات في ديسمبر 2015، ومن بعده مبادرات التسوية الأخرى الأممية في سبتمبر 2017، ثم اجتماع باريس في مايو 2018، وباليرمو في نوفمبر من هذا العام. بل إن البراجماتية السياسية بلغت ذروتها عندما وصف “محمد صوان” (رئيس حزب العدالة والبناء) عملية “الكرامة”، في تصريح شهير له في أبريل 2018، بأن قتلاها شهداء، وأنها تكافح إرهابًا بالفعل في بنغازي.
ومع إعلان المبعوث الأممي “غسان سلامة” خطة أممية بديلة تشمل عقد مؤتمر وطني جامع في يناير 2019، وانتخابات في ربيع هذا العام؛ عاد الإسلاميون -خاصة الإخوان- ليراهنوا على ذلك المؤتمر بغية تأمين عودتهم، والاستعداد للانتخابات القادمة لمواجهة خصمهم “حفتر” إن سمحت الظروف أساسًا بعقدها. ويُفسر ذلك سعيهم إلى بناء تكتل وطني مع أنصار “القذافي” عبر اجتماعات تجري حاليًّا في إسطنبول، وإن كانت بعض قيادات النظام السابق قد رفضت ذلك، في ظل إدراك قدرة الإخوان على التلاعب بالأوراق السياسية لصالحهم.
4- التحول إلى “وكلاء عنف” لقوى خارجية، إذ تحول بعض القوى الإسلامية في ليبيا إلى وكلاء لتغذية العنف في ليبيا لصالح قوى خارجية، خاصة المحور القطري – التركي الذي ظل حاضرًا في مختلف تفاعلات الأزمة، عبر “بلحاج” و”الصلابي”. ويواجه الرجلان اتهامات بأنهما جسّرا للدعم الخارجي لمختلف فصائل الإسلاميين وكتائبهم المسلحة شرقًا وغربًا، مثل: راف الله السحاتي، و17 فبراير، أو دروع ليبيا ومصراتة، أو حتى نقل مقاتلين من ليبيا إلى سوريا. وهكذا، فقد أسهم انكشاف إسلاميي ليبيا للاختراق الخارجي في دعم اختلاط الأطر السياسية للإسلاميين بكتائب مسلحة عنيفة.
5- عسكرة تيار السلفيين المداخلة، فقد تمددت الحالة الهجين لفصائل الإسلاميين إلى تيار السلفيين المداخلة الذين برزوا إبان حكم “القذافي” كقوة تعطي أولوية لطاعة ولي الأمر، وعدم الخروج عليه، وتواجه طروحات جماعات الإخوان. لكن ذلك التيار تعرض للانقسام والعسكرة الميليشياوية في سنوات ما بعد الثورة، إذ ينخرط بعضهم ضمن الجيش الوطني الليبي في الشرق، بينما ينتمي البعض الآخر إلى ميليشيات مسلحة داعمة لحكومة الوفاق الوطني، خاصة قوة الردع الخاص وقوة الأمن المركزي في طرابلس.
مغذيات التهجين
يُعزَى ذلك الطابع الهجين للإسلاميين، حيث المراوحة بين السلمية والعنف، إلى خصوصية البيئة الليبية بعد القذافي، والتي أفرزت عوامل متعددة غذت تلك الظاهرة، ومنها:
1- هشاشة البيئة السياسية: فمع انتشار القوة في ليبيا بين فاعلين كثر (ميليشياويين، وأحزاب، وقوى مناطقية، قبلية وغيرها)؛ باتت البيئة السياسية والمؤسسية هشة وتسمح بتنفيذ الأهداف السلمية للفاعلين الليبيين، ومن بينهم الإسلاميون، بأدوات ميليشياوية عنيفة، وهو ما أدى إلى الفشل في توحيد الحكومتين في غرب وشرق ليبيا، ثم تعثر اتفاق تسوية الصخيرات في ديسمبر 2015، ومن بعدها المبادرات الأممية والدولية حتى اللحظة الراهنة.
2- الانتقال عبر الأيديولوجي: بمعنى بروز تسربات في انتقال الأعضاء بين حركات وأحزاب الإسلام السياسي في ليبيا، مثلما الحال مع حزب الوطن السلفي الذي يضم في بنيته أعضاء من الإخوان المسلمين. بل إن هذا الحزب ذاته الذي يقوده “عبدالحكيم بلحاج” وإن عبر عن اتجاه سلفي للانخراط في اللعبة السياسية، فلا يمكن فصله عن ظهيره الميليشاوي المسلح، كون “بلحاج” ذاته كان قائدًا للمجلس العسكري في طرابلس، قبل أن يغادر منصبه إلى العمل الحزبي. كما أن “بلحاج” نفسه انتقل إلى العمل السياسي بعد ممارسة العمل الجهادي المسلح في أفغانستان، وخرج قبل الثورة ضمن عملية المراجعات الدينية التي توسطت فيها جماعة الإخوان منذ 2007.
3- المزاج الإسلامي العنيف: فقد أسهم نظام “القذافي” خلال حكمه على مدار أكثر من أربعة عقود في خلق بيئة عامة يغلب عليها المزاج الجهادي العنيف للتيار الإسلامي في ليبيا بفعل السياسات الاستئصالية الحادة. لذا، لم يكن غريبًا أن تكون الجماعة الليبية المقاتلة، التي رفعت خيار العنف المسلح، هي الأعلى صوتًا في تسعينيات القرن الماضي مقارنة بالفصائل الإسلامية الأخرى، وامتد ذلك إلى مرحلة ما بعد “القذافي”، حيث تحولت منطقة الشرق الليبي من موطن للسنوسية الصوفية المعتدلة إلى حاضنة للجماعات الجهادية المسلحة التي استهدفت الأضرحة في مناطق ليبية في السنوات الماضية.
4- ضعف القاعدة المجتمعية: حيث لم ينجح التيار الإسلامي في ليبيا على مدار العقود الماضية في تشكيل نواة اجتماعية صلبة، ليس فقط لأن القبلية تشكل محددًا أساسيًّا لسلوكيات أفراده، ولكن بسبب الطبيعة الريعية للدولة الليبية المعتمدة على النفط، حيث عادة ما تتقلص فرص الإسلاميين في توظيف الفقراء لبناء رأس مال اجتماعي يمثل مرتكزًا للتأثير السياسي، وهو ما يفسر نسبيًّا فشل الإسلاميين في تصدر الانتخابات العامة في ليبيا.
خلاصة القول، إن واقع الإسلاميين في ليبيا بات أكثر تعقيدًا من مجرد فهمه على أنه معادلة حدية، طرفاها إما سلمي أو عنيف، فبينهما تظهر حالة هجين متداخلة الممارسات تسهم -من جانب- في توفير بيئة حاضنة لبروز أنماط داعشية، كما جرى في عام 2015 قبل أن تتعرض للهزيمة نهاية 2016، وتُسهم -من جانب آخر- في تعثر مزمن للمرحلة الانتقالية. فإذا كان ممكنًا دمج أو نزع سلاح ميليشيات مسلحة، حال توافرت قوة أمنية مركزية؛ فإن الأمر قد يصبح أكثر صعوبة عند استيعاب إسلاميين لديهم ممارسات هجينة توظف حينًا العمل السياسي السلمي، وأحيانًا أخرى القوة العنيفة، بحسب طبيعة توازنات القوى المتحركة في الأزمة الليبية.