حظيت فكرة المجال العام باهتمامٍ على نطاق عالمي خلال حقبة التسعينيات، خاصة بعد نشر الترجمة الإنجليزية لكتاب الفيلسوف الألماني “يورجين هابرماس”: “التحول البنائي للمجال العام” لأول مرة عام 1989. وقد ارتبط الانتشار العالمي لمفهوم المجال العام بفهمه على أنه الأداة الاتصالية في الممارسة السياسية الديمقراطية، التي تؤدي إلى فتح آفاق لنشر الديمقراطية في شرق أوروبا وفي شمال إفريقيا والشرق الأوسط. وارتبطت المناقشات حول المجال العام بإعادة إحياء فكرة المجتمع المدني.
وفي السنوات الأخيرة، أصبح مصطلح “المجال العام” Public Sphere للمفكر والفيلسوف الألماني “هابرماس” من أكثر المفاهيم تداولًا في مجال الدراسات الإعلامية، حيث يُعد ركيزة من ركائز المجتمعات الديمقراطية. ويفترض “هابرماس” أن فكرة التواصل هي ترجمة حقيقية للديمقراطية، بوصفها التشكيل الحر للإرادة الشعبية، التي تترجم عبر وسائل التواصل المختلفة التي تقود إلى الحوار من دون إكراه وتسلط، وعبر التفاهم المستمر بين (الأنا والآخر) من دون اللجوء إلى العنف، وهو ما يعمل على تكوين “مجال عام” يعتبره “هابرماس” مفتاح الديمقراطية الذي يكون دائرة التوسط بين المجتمع المدني والدولة، ويجمع الأفراد في رأي عام يسمح بتبادل عقلاني للآراء ووجهات النظر، ويوحدهم في رأي عام مفتوح يكون وسيلة للضغط لإعادة بناء ديمقراطية الجماهير التي تختلف عن الديمقراطية الكلاسيكية.
وتؤكد نظرية “المجال العام” التي يطرحها “هابرماس” على ضرورة بناء “مجتمع حواري”، يوجهه مبدأ قبول الآخر المختلف. فالتواصل وإن كان ينطلق من استراتيجية تأكيد الذات، والتأثير في الآخر، إلا أنه يهدف في العمق إلى بناء ما يسميه “هابرماس” “المجال العام” للعلاقات القائمة على الاختلاف والحوار وسيادة روح الديمقراطية والتسامح. ويمكن تحقيق ذلك من خلال “توافق” تتم بلورته من خلال المناقشة بين جميع الأفراد بهدف تحقيق “المواطنة الديمقراطية”. ويؤكد “هابرماس” أن هذا الأمر يسمح بخلق علاقات تشاورية تشكل مستوى أرقى من الديمقراطية (البرلمانية)، لأنها ستؤدي إلى تبادلات أوسع يتم فيها إعادة الاعتبار إلى الذات الفاعلة في فضاء المجتمع.
ويتناول البحث المعاصر لنظرية “المجال العام” عددًا من القضايا المهمة، مثل: اتساع المشاركة السياسية، ووجود مجالات عامة متعددة ومتداخلة، وقضايا حقوق الإنسان، والتحول الديمقراطي، وتدفق رؤوس الأموال والاستثمارات، وتأثير وسائل الاتصال الحديثة.
الوسيط الاتصالي والمجال العام
اعتمدت بعض النماذج النظرية في تعقب تطورات “المجال العام” انطلاقًا من الوسيط الاتصالي باعتباره ناظمًا للاتصال، فقد تطور المجال العام في المجتمعات الغربية وفقًا لخمسة نماذج، هي: نموذج صحافة الرأي، ونموذج “الصحافة التجارية”، ونموذج “الإعلام الجماهيري” (الإذاعة والتليفزيون)، ونموذج “العلاقات العامة الشاملة”، ونموذج “الميديا الجديدة ووسائل الاتصال الحديثة”.
ففي أوائل القرن الثامن عشر، كانت الصحافة تحت وصاية مؤسسات الدولة، ثم بدأت في الانفصال عنها، واستأثر بها مجموعة من رجال الأعمال والمثقفين ورجال الفكر حتى غدت صحافة مستقلة عن الدولة ورقابتها. وقد تم ذلك بعد نجاح الصحف المكتوبة (صحافة الرأي) في استقطاب الرأي العام بالنقد الذي تمارسه في العديد من القضايا إثر توسع الفضاء العام. وقد ذهب “هابرماس” في تتبعه لتطور الصحافة إلى الإقرار بأنها أصبحت بالفعل الجهاز النقدي، وبشكل ما “السلطة الرابعة” لعموم الناس الذين يستعملون السياسة في تفكيرهم، حتى إن تطور “الفضاء العام” أصبح يُقاس بحالة النقاش والمداولة التي تتم بين الصحافة والسلطة.
ويرى “هابرماس” أنه مع التحولات التي شهدها المجال العام، بدأت الوظيفة التجارية تتخذ مكانها في هذا “المجال العام”، وهدفها ترويج الثقافة الاستهلاكية التي تقوم على تمثيل مصالح خاصة لبعض الفئات. وبدأت سطوة “الإعلان” وفق استراتيجيات محكمة للاستحواذ على الرأي العام، والترويج لسلع ومؤسسات، وحتى شخصيات سياسية معينة. وظهر ما يُعرف بالعلاقات العامة ومخاطبة الرأي العام بخطاب عاطفي انفعالي دون الاعتماد على التفكير النقدي العقلاني.
ومع ظهور شبكة الإنترنت، تغيرت البيئة الاتصالية، وفتحت مجالًا كبيرًا للبحث عن المعلومات وتبادلها، وأصبحت منتدى رئيسيًّا لتبادل الحوارات والنقاشات وطرح الموضوعات المختلفة، فقد أصبحت وسيلة اتصال مختلفة واستثنائية، حيث منحت شبكة الإنترنت الفرصة للكثير من الناس للتعبير عن آرائهم ووجهات نظرهم حول أي موضوع. وأصبح بمقدور أي شخص إصدار صفحة خاصة به، أو الاشتراك بأي منتدى إلكتروني حواري على الإنترنت، أو حتى من خلال غرف المحادثة في الإنترنت، من أجل تسجيل مواقفه وآرائه السياسية وغير السياسية. وهذه الأساليب الجديدة للتواصل هي عبارة عن فرص حقيقية لزيادة درجة الحرية، وبخاصة حرية التعبير.
وقد ساعد تطورُ شبكة الإنترنت على ظهور مجال عام اجتماعي جديد يترجم أفكار “هابرماس” إلى حدٍّ كبير، حيث يمارس فيه الكتَّاب والمواطنون حريتهم في مناقشة القضايا العامة، وهو ما يُعرف بالمجال العام الإلكتروني Electronic Public Sphere.
ويعتبر العديد من الباحثين أن الإنترنت أداة تشجيع للمواطنين للمشاركة والاهتمام بالقضايا العامة، والتعبير عن الرأي، وقيام ما يُسمى بالحكم الجيد أو الصالح Governance. فبينما تميل وسائل الاتصال الجماهيري والأحزاب السياسية إلى تعزيز الوضع القائم وما يرتبط به من أنماط تدفق المعلومات؛ فإن الإنترنت من شأنه التخلص من الطرق التقليدية لبناء الأجندة القائمة والمرتبطة بالأوضاع القائمة والدفاع عنها، فالإنترنت يوفر أداة بالغة السرعة والسهولة في تحقيق اتصالات فعالة خلال العملية السياسية رأسيًّا من أعلى إلى أسفل وبالعكس، وأفقيًّا من خلال عملية تفاعل ديناميكية ذات اتجاهين.
ولعل أبرز من دافع عن أطروحة دور الإنترنت في توسيع المجال العام أو تحقيقه بالشكل الذي تصوره “هابرماس”، هو “بيير ليفي” Pierre Levy في كتابه “الديمقراطية السيبرانية”. حيث يقول “ليفي” في كتابه إن “المواطن السيبراني” يكتشف في الشبكة كمًّا هائلًا من الأفكار كما عبّر عنها أصحابها، وليس كما نقلها الصحفي الذي غالبًا ما يكون مجبرًا على تبسيطها أو تشويهها، إما لضيق الوقت أو لعدم الكفاءة. وبناء على ذلك، يعتبر “ليفي” أن ميزة الإنترنت، مقارنة بوسائل الإعلام الأخرى (صحافة، إذاعة، تليفزيون)، تتمثل في تمكين كل راغب في التعبير عن أفكاره ومشاعره دون المرور عن طريق سلطة الصحفي، فالصحفيون أو من يقف وراءهم في وسائل الإعلام الكلاسيكية يقررون -حسب مصالحهم واحتياجاتهم- ما ومن الذي يعبر الحاجز بين الخاص والعام. ونتيجة لذلك، يعتبر “ليفي” أن المجال العام يتوسع ويتنوع وينعقد بشكل فريد. كما يعتبر أن هذا التحول في الفضاء المعلوماتي هو أحد أهم الأسس للديمقراطية السيبرانية.
وعلى جانب آخر، يشكك “جوردان جراهام” Gordan Graham في قدرة الإنترنت على التغيير وتعزيز الديمقراطية. ويرى أنه إذا كان لدى الإنترنت المقدرة في كسر الحواجز، ونشر المعلومات على نطاق واسع، فهذا يزيد من الآراء المنشورة، وبالتالي فإن أي رأي سيضيع بين زحمة الآراء، وبالتالي سيصعب على أي شخص -وقتئذ- التأثير على العملية الديمقراطية. ووفقًا لتحليل “جراهام” فإن انتشار الإنترنت وما يترتب عليه من تخفيض الحواجز أمام عملية نشر المعلومات والآراء الفردية سيؤدي إلى المزيد من إضعاف قدرة الرأي الفردي على التأثير في عملية صناعة القرار، أو صناعة الأحداث السياسية، بسبب التزاحم الشديد بين الآراء الفردية. ويرى “جراهام” أن هذا يدعم ما يسميه “التفكيك” Fragmentation داخل المجتمع، وما يطلق عليه الانقسام المعلوماتي، ما يؤدي إلى تعظيم الدور السياسي للفئات الاجتماعية المثقفة والغنية، دون أن يؤدي بالضرورة إلى التأثير الملحوظ على الفئات الاجتماعية الفقيرة، فضلًا عن خروج الفئات التي لا تزال تعاني الأمية في الدول النامية (أمية القراءة والكتابة، وأمية الكمبيوتر) من معادلة التوظيف السياسي للإنترنت.
الحالة العربية
يتحقق “المجال العام” بحرية تواصل الأفراد عبر الفضاء الإعلامي الذي لا بد أن يكون منفصلًا عن الحكومة، والذي يفسح مجالًا للأفراد المهمّشمين Marginalized People من أجل حرية الحديث عن القضايا السياسية والاجتماعية. ويتطلب ذلك عدة شروط تتعلق بما يلي: “ملكية وسائل الإعلام” Media Ownership، و”التنوع الإعلامي” Media Diversity، و”حرية التعبير” Freedom of Speech().
ويرى “هابرماس” أنه مع انتشار التعليم، وتطور الرأسمالية، وظهور وسائل الإعلام الجماهيرية، وتطور الإعلان؛ تحولت الفضاءات العمومية المختلفة التي تُكوّن المجال العام إلى فضاء للتأثير السياسي وللتسويق والبحث عن الهيمنة والولاء، فتحول الاتصال من وسيلة لتحقيق التفاهم والتوافق والبحث المشترك عن الحقيقة إلى اتصال يسعى إلى تكريس الهيمنة. ويَعتبر “هابرماس” -في هذا الإطار- وسائل الإعلام أنها تستقطب جمهور المشاهدين والمستمعين، ولكنها تسلبهم -في الوقت ذاته- تلك المسافة التحررية، أي إمكانية الكلام والحجاج والنقض، مما يؤدي إلى اندثار استعمال جمهور القراء والمتلقّين للعقل لصالح الآراء حول الأذواق والميول التي يتبادلها المستهلكون. وهكذا يفقد المجال العام جوهره بما أنه وسيلة لإدارة الحياة العامة.
ويرى الباحث التونسي المعروف “الصادق الحمامي”، في كتابه “الميديا الجديدة: الإبستيمولوجيا، والإشكاليات، والسياقات”، أن المجال العام في عالمنا العربي تطور وفق هذه النماذج:
1- نموذج الحلبة:
تكوّن هذا النموذج مع ظهور المطبعة والكتاب والصحافة المطبوعة التي تشكلت حولها نخب جديدة تتمايز عن النخب التقليدية (الفقهاء) التي ارتبطت بمؤسسة المسجد باعتبارها مؤسسة متعددة الأدوار (دينية، تعليمية، تربوية). وكانت الصحافة في تلك الفترة صحافة رأي تحمل مشروعًا حضاريًّا وفكريًّا، وساهمت في ظهور لغة جديدة وأنماط جديدة من النقاشات والجدل الفكري، وقد اعتبرها البعض أداة تنوير. ويمكن القول إن الصحافة كانت النواة الأولى لنشأة المجال العام العربي، وأنها تمثل حلبة الجدال الفكري، حيث المثقفون هم الفاعلون الأساسيون في المجال العام، وتحول الفيلسوف إلى كاتب يتوجه إلى الجمهور العريض. بمعنى آخر، إنه عصر تَشَكّل فيه المثقف العربي.
2- نموذج المجال السلطوي:
تشكل هذا النموذج تدريجيًّا مع بناء الدولة الحديثة، أي دولة ما بعد الاستقلال، حتى بداية التسعينيات، ومع تكون وسائل إعلام جماهيري (الإذاعة والتليفزيون) خاضعة لإدارة سلطوية. وقد تحول الإعلام في هذه المرحلة من حلبة كانت تحتضن المواجهات السياسية والفكرية إلى مشهدٍ تستخدمه الدولة لإبراز سلطتها وهيمنتها، فاستحوذت الدولة والزعيم السياسي على التليفزيون، وأصبح الصحفي موظفًا تابعًا للدولة بعد أن كان مثقفًا حرًّا يتحدث باسم المجتمع. كما اشتغل الإعلام على نموذج عمودي سلطوي غير تفاعلي يعمل على استعراض السلطة وإبراز نفوذها وقوتها وتأكيد قيمة الولاء السياسي، مع حجب تنوع الأفكار، وتقديم الصوت الواحد وهو صوت النظام الحاكم.
3- نموذج المجال العام الوطني متعدد الفضاءات:
تَشَكّل هذا النموذج مع بداية حقبة التسعينيات مع ظهور الإنترنت والقنوات الفضائية التي أضعفت قدرة الدولة على السيطرة على المجال العام، وعلى تحديد ما يشاهده الجمهور. ومع ثورة تكنولوجيا الاتصال انهارت قدرة الأنظمة على السيطرة على الإعلام، واتسع المجال العام عموديًّا وأفقيًّا من خلال ظهور شخصيات وأفكار وأحداث سياسية وقضايا يومية واجتماعية كانت محجوبة لسنوات عن المجال العام التقليدي. وبهذا أصبح المجال العام يتكون من فضاءات تشكلها وسائل الإعلام التقليدية (صحافة، إذاعة، تليفزيون)، والميديا الجديدة (الإنترنت وفضاءاته المتعددة).
جدول (1): نموذج مختصر لتطور المجال العام في العالم العربي
النموذج | الحقبة | الفاعل | الوسائط | التفاعل |
صحافة الرأي | القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين | المثقف | الصحيفة | الجدل الفكري والسياسي |
الإعلام الوطني | من ستينيات القرن العشرين إلى التسعينيات | الزعيم والنخب المرتبطة به | الإذاعة والتليفزيون | التعبئة الأيديولوجية |
المجال العام متعدد الفضاءات | من تسعينيات أواخر القرن العشرين إلى الآن | النخب الفكرية والسياسية والمؤسسات والأفراد والجماعات المنظمة وغير المنظمة | كل الوسائط: إذاعة، صحافة، تليفزيون، إنترنت، هاتف محمول | التعبير الفردي، الاتصال السياسي، الجدل الفكري |
والمتأمل للمشهد الاتصالي العربي اليوم سرعان ما يكتشف أنه من الصعب طرح إشكالية المجال العام دون الأخذ بعين الاعتبار التطور التاريخي للثقافة العربية. فمفهوم “المجال العام” ظهر في المجتمعات الغربية على يد “هابرماس” مرتبطًا بظهور الحداثة التي تؤكد على (مكانة العقل، استقلالية الفرد، تغير أشكال الشرعية)، ونتيجة تراكم خبرات حضارية متعاقبة.
أما بالنسبة للمجتمعات العربية، فإن مشكلة المجال العام تشير إلى الأنساق التي تعمل داخل هذه المجتمعات (أنساق التحديث من جهة، وأنساق التراث من جهة أخرى). وهذه المجتمعات العربية لم تشكل الحداثةُ نموذجها المجتمعي بعد. فمفهوم “المجال العام” كما طرحه “هابرماس” والدراسات الغربية لم يتحقق في عالمنا العربي بشكل واضح. فإذا كان المجتمع الديمقراطي يقوم -كما يرى “هابرماس”- من خلال الحوار والنقاش المفتوح والجدل للوصول إلى الحقيقة، إلا أن هذا الحوار والنقاش يحتاج إلى الشفافية، وحرية تداول المعلومات، وحق كل مواطن في الحصول على المعلومة وفي أي وقت، وهذا الشرط غير متحققٍ -إلى حدٍّ كبير- في عالمنا العربي.
وإذا كان “المجال العام” من إفراز عمليات الحداثة في المجتمعات الغربية؛ إلا أن الصيغ الحداثية التي تخلّقت في العديد من المجتمعات العربية، ومنها مصر، تختلف اختلافًا كبيرًا عن نظيراتها في المجتمعات الأخرى. فإذا كانت تلك الصيغ الحداثية ظهرت بعد تاريخ طويل في المجتمعات الغربية؛ إلا أن عمليات الاستقبال لها في الدول العربية خضعت لانتقائية من جانب الدول والحكومات والنخب السياسية ذات الأهواء المختلفة، وكثيرًا ما كانت تفرض نماذج الحداثة فرضًا، مما أدى إلى إنتاج ثقافة ثالثة هي خليط أو هجين من أساليب السلوك والأفكار والقيم والممارسات الحداثية، والعادات التي تمثل نمطًا من الحداثة الشكلية.
وقد ترتب على هذه الحداثة الشكلية أن تتجسد العديد من التمايزات في المجتمعات العربية في الأنظمة التعليمية والاقتصادية والسياسية والثقافية. وفي ظل ذلك، يتشكل المجال العام، وتصبح ثقافة الكلام داخل المجال العام لا تعتمد على العقلانية وقبول الآخر، وإنما تتأسس على الصوت المرتفع، ونفي الآخر، والتشهير به أحيانًا، وخلط العام بالخاص. وبالتالي يتحول الحوار والمناظرات السياسية داخل المجال العام إلى قوة تخويف حقيقية، تسد أفق الإبداع، وتخلق ضروبًا من عدم الثقة في علاقات التفاعل بين الأفراد.
إلا أنه مع ما يُعرف بثورات الربيع العربي كان لمواقع التواصل الاجتماعي دور محوري فيما يمكن تسميته بصعود جديد للمجال العام في العالم العربي، حيث احتفى الكثيرون بالفيسبوك وتويتر وموقع يوتيوب، وجعلوا منها وسيلة الثورة التونسية والمصرية بامتياز. لكن يبقى هذا المجال الجديد متعثرًا في عالمنا العربي لغياب قيم ثقافة الحوار في مجتمعاتنا، تتجاذبه استقطابات حادة بين الفاعلين فيه، ولا يعكس تنوعًا فكريًّا وسياسيًّا عقلانيًّا كما دعا “هابرماس”، بل تحول إلى فضاء للتفرقة، تستخدم فيه كل أنواع التشهير والشائعات والتخوين. وأصبحنا بصدد مجموعات منغلقة لا تتحاور مع غيرها، واستخدام لأسماء مستعارة للشتم والتجريح والتشهير، وتبادل مضامين لا مصدر لها ذات طابع فضائحي وتشهيري للنيل من الخصوم السياسيين. وتحولت شبكات التواصل الاجتماعي إلى شبكات “للتباغض الاجتماعي” محملة بشحنات من فائض الكراهية لم نعهده من قبل. نرى -مثلًا- بعضًا ممن ينتمون للتيار الديني لا يتواصلون مع الآخرين، ويحذفون من لا يتفق مع توجهاتهم السياسية بدعوى تطهير صفحاتهم من العلمانيين “الكفرة” “أعداء الإسلام”. وعلى الجانب الآخر، يقوم من ينتمي للتيار المدني بتطهير صفحته من “الظلاميين” “أعداء الدولة المدنية”. فالكل يريد أن يتواصل مع من يشبهه فقط، فتتحول الصفحات على شبكات التواصل الاجتماعي إلى مجموعات و”جيتوهات” مغلقة. الكل في حرب مع الآخر، وكأنها ساحات للصراع ومنصات لممارسة “العنف اللغوي” بشتى صوره، وكأننا نعيد إنتاج نفس خطاب الاستبداد القديم في وسائل الإعلام التقليدية الذي عانينا منه كثيرًا، بنفس الآليات (آلية الإقصاء) التي تتمثل في رفض الرأي الآخر المختلف معي والعمل على حجبه، و”آلية التبرير” لكل فعل ورأي سياسي يتفق مع اتجاهي الفكري وأيديولوجيتي السياسية حتى وإن افتقر لأبسط قواعد المنطق. خطاب قديم يعيد إنتاج نفسه، وهذه المرة في حلة جديدة وعبر ميديا جديدة. كما نلاحظ أيضًا شيوع فكرة التحزب والتعصب والقبلية الإلكترونية، إن جاز التعبير. ومن أشكال إعادة إنتاج الخطاب القديم أيضًا ظهور فاعلين من نوع جديد (أدمن الصفحات)، وهو ما يشبه حراس البوابة الإعلامية في وسائل الإعلام التقليدية، هم حراس البوابة الجدد، من يحددون من يشارك ومن لا يشارك، ويقومون بحذف التعليقات التي لا تتوافق مع أفكارهم، وترويج ما يتفق فقط مع اتجاهاتهم. فَما نشهده -إذن- هو تغير على مستوى الوسيلة الاتصالية لم يستتبعه تغيير على مستوى ممارسة الخطاب العقلاني.
لقد تغنّى العديد من الباحثين في علوم الاتصال بأن الإنترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي تحديدًا؛ ستجعل العالم أكثر حرية، فهي كالبيت الجديد لحرية العقل، وأن المجال العام الجديد على الإنترنت خالٍ تمامًا من الاستبداد، ومن أي سبب للخوف من ظهور أي تحيز بسبب الجنس أو العرق أو الدين، أو لقوة سواء كانت اقتصادية أو عسكرية، فأي فرد في أي مكان في فضاء الإنترنت يستطيع أن يعبر عن أفكاره كما يريد. لكن الواقع يختلف عن المثال، ففضاء الفيسبوك ليس فضاءً مثاليًّا وحواريًّا كما تنبأ “هابرماس”. قد يكون فضاءً خاليًا من الاستبداد الخشن القديم، لكن يهيمن عليه “استبداد ناعم” لا يقل عنه خطورة.