ظهر مفهوم الحرب النفسية في الولايات المتحدة الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية، وقد شاع تعريفه على أنه “الاستخدام المخطط للدعاية، وغيرها من الإجراءات النفسية للتأثير في آراء، وعواطف، ومواقف، وسلوك الجماعات المعادية بطريقة تدعم تحقيق الأهداف الوطنية”.
وعلى الرغم من أن مفهوم الحرب النفسية هو مفهوم حديث نسبيًا، فإن الممارسة التاريخية لهذا المفهوم قديمة قدم الصراعات والحروب بين البشر.
تعود الجذور التاريخية للحرب النفسية إلى الحضارات القديمة، فقد قامت الجيوش الإغريقية، والرومانية القديمة باستخدام أساليب الدعاية، والتهديدات، والمعلومات المضللة لزعزعة معنويات العدو.
واستمرت هذه الممارسات طوال العصور الوسطى. وكثيرًا ما استُخدمت التكتيكات النفسية في حروب الحصار، والتي تمثلت في إلقاء الجثث المريضة فوق أسوار المدينة لبث الرعب في نفوس السكان المحاصرين. وقد كانت الحرب النفسية حاسمة في تشكيل التصورات، وتبرير الأعمال العسكرية على أسس دينية خلال الحروب الصليبية.
مع تقدم التكنولوجيا في القرن العشرين، شهدت الحرب النفسية أيضًا تطورًا. حيث تم ممارسة الضغط المعلوماتي والنفسي خلال الحرب العالمية الأولى والثانية من خلال الدعاية المطبوعة التي شملت المنشورات، والكتيبات، والملصقات وغيرها. وتعتبر معظم المصادر أن الحرب العالمية الأولى هي بداية العمليات النفسية الحديثة، ويرجع ذلك إلى توافر أدوات الاتصال الجماهيري مثل: الراديو، والمطابع الحديثة التي ساعدت على إيصال الرسائل إلى الجمهور المستهدف.
تتجلى أهمية الحرب النفسية في كل مرحلة من مراحل الصراع، فقبل اندلاع الصراع تُستخدم الحرب النفسية لإقناع الجمهور المحلي بضرورة خوض الحرب. وفي أثناء الحرب، يكون للحرب النفسية ثلاثة جماهير رئيسية مستهدفة؛ الجمهور المحلي، والذي يجب إقناعه بمبررات الحرب، وجمهور العدو، والذي يتم إقناعه بأن فرصه في الانتصار معدومة، إلى جانب عدم جدوى الحرب، والجمهور المحايد والذي يجب استمالته؛ لأن دعمه قد يكون ذا أهمية حاسمة.
وتستمر كذلك وحدات الحرب النفسية العمل حتى بعد انتهاء الحرب، وتكون مهمتها الرئيسية في هذه المرحلة هي مواجهة عداء السكان المحليين تجاه قوات الاحتلال. وتتمثل الرسالة المرغوب إيصالها في أن القوات الأجنبية موجودة في أراضيهم على أساس مؤقت فقط، وليس لديها أي نية لإلحاق الأذى بهم.
مع التطورات التكنولوجية الحديثة، شهدت الحرب النفسية تطورًا جديدًا في أساليبها. فقد تكيفت الحرب النفسية مع العصر الرقمي، وأصبح استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، والأخبار الكاذبة، وحملات التضليل الإعلامي الموجهة من أساليب الحرب النفسية الحديثة.
السياق الذي ظهر فيه مفهوم الحرب النفسية
يُعتقد أن المحلل والمؤرخ العسكري البريطاني “جون فريدريك تشارلز فولر- John Frederick Charles Fuller” كان أول من استخدم مصطلح “الحرب النفسية” في عام 1920 في مناقشته للآثار التي يمكن استخلاصها من التقدم في التكنولوجيا العسكرية في الحرب العالمية الأولى.[1] حيث ذكر: ” إن وسائل الحرب التقليدية قد تُستبدل في الوقت المناسب ”بحرب نفسية بحتة”، لا تُستخدم فيها الأسلحة ولا يتم فيها حتى البحث عن ساحات القتال بل يتم إفساد العقل البشري، وتفكيك الحياة الأخلاقية والروحية لأمة ما بتأثير إرادة أمة أخرى”.
لم تلتفت الدوائر العسكرية البريطانية، والأمريكية في ذلك الوقت لاستخدام هذا المصطلح من قبل فولر، وبعد عشرين عامًا، اعتمدت بريطانيا مصطلح “الحرب السياسية عندما كانت تستعد لجهد دعائي مشابه لذلك الذي توقعه الجنرال فولر. ثم فقط في يناير 1940 دخل المصطلح في الاستخدام الأمريكي، عندما نُشر مقال بعنوان “الحرب النفسية وكيفية خوضها”.
عقب ذلك استخدم مصطلح الحرب النفسية لوصف أنشطة الدعاية التي تدعم القوات المسلحة الأمريكية في أثناء الحرب العالمية الثانية، وخلال الحرب الكورية أنشأ الجيش الأمريكي مكتب رئيس الحرب النفسية (OCPW)، ومركز، ومدرسة الحرب النفسية في ولاية كارولينا الشمالية لتقنين هذه العقيدة، وتدريب الأفراد العسكريين على الحرب النفسية.
كان للتجربة الأمريكية في التعامل مع الحرب النفسية -التي انبثقت عن الحرب العالمية الثانية وخبرة الحرب الباردة- تأثير كبير في تفكير وسلوك الدول الحليفة. فقد حلت المصطلحات الأمريكية للحرب النفسية إلى حد كبير محل المصطلحات التي كانت تستخدمها هذه الدول في السابق. غير أن الأهم من ذلك هو الاعتراف الواسع الانتشار آنذاك بالحاجة إلى وحدات مدربة ومجهزة خصيصى للقيام بعمليات الحرب النفسية في أوقات الأزمات. واستعدادًا للقيام بهذه المهمة، أرسلت العديد من الدول ضباطها إلى الولايات المتحدة لتلقي تدريب متخصص في المدارس العسكرية الأمريكية.
التعريفات المختلفة لتعريف الحرب النفسية
اكتسب مصطلح الحرب النفسية رواجًا واسعًا في النقاشات الشعبية، والعلمية في الولايات المتحدة، وأوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، ولكن على الرغم من ذلك ظل مصطلح الحرب النفسية غير واضح المعالم، إلى جانب وجود وجهات نظر متعددة حول طبيعة ونطاق هذه الحرب.
تضيّق بعض التعريفات نطاق الحرب النفسية، وتحصرها في المجال العسكري فقط، حيث يتم اعتبارها بمثابة نشاط يندرج ضمن اختصاص القوات المسلحة. وتتمحور حول نشر الدعاية لجماهير مستهدفة محددة، بهدف دعم تحقيق مهمة عسكرية معيّنة.
كما يعتبر البعض أن عمليات التلاعب بالشخصية، والتأثير في معتقدات أسرى الحرب عن طريق غسيل الدماغ، والتنويم المغناطيسي، والتقنيات ذات الصلة شكلًا من أشكال الحرب النفسية.
يذهب البعض إلى توسيع مفهوم الحرب النفسية حيث يتم التعامل معها باعتبارها إحدى تقنيات “القوة الناعمة” المستخدمة لتحقيق أهداف استراتيجية عن طريق التأثير في الآخرين من خلال الجاذبية والإقناع، وليس الإكراه أو الدفع. إلى جانب اشتراك الحرب النفسية من حيث أهدافها مع “الدبلوماسية العامة” كوسيلة للتأثير. تشير الدبلوماسية العامة التي تشير إلى الفعاليات التي يقوم بها الدبلوماسيون علانية تجاه حكومات وشعوب الدول الأجنبية لمحاولة التأثير في سياساتها، وتتم ممارستها من خلال استخدام كلمات، وحجج تسهم في إقناع الجمهور المستهدف بالاعتماد على الإعلام للتأثير في الرأي العام الأجنبي.
ولعل هذا التعريف مرتبط بالتطورات الحديثة التي أثرت في مفهوم الحرب النفسية؛ حيث شهدت السنوات الأخيرة في ظل ثورة المعلومات والاتصالات، ونمو النزاعات غير المتناظرة امتداد الحروب النفسية خارج نطاق خفض الروح المعنوية للخصوم ضمن التكتيكات والاستراتيجيات الحربية كي تصبح جزءًا من الاستراتيجيات السياسية والدبلوماسية بشكل عام، وليس فقط في مواجهة الخصوم، أو لخدمة أهداف الحرب. حيث يتم توظيف المعلومات من أجل تحسين موقف أحد الأطراف لدى الآخرين أو على حسابه.
وتجدر الإشارة إلى أنه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، تشكل إجماع في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية حول طبيعة واستخدام الحرب النفسية ودورها في العلاقات الدولية الحديثة، وتم التوصل إلى الاستنتاج الأساسي القائل بأنه “لا يمكن اعتبار الأسلوب المستخدم حربًا نفسية إلا إذا كان ينطوي على تلاعب متعمد بالرأي من خلال استخدام وسيلة اتصال واحدة أو أكثر“.
في هذا الإطار، يمكن القول إنه بغض النظر عن الآراء المختلفة حول الأنشطة التي تقع ضمن إطار الحرب النفسية، ثمة أمور رئيسية لا بد من توفرها لكي تُعتبر هذه الحرب حربًا نفسية. تأتي في مقدمة هذه الأمور “وسائل الاتصال” فهي الوسيلة الأساسية التي تتم من خلالها العمليات النفسية حيث تتيح إيصال الرسائل بفاعلية، ومن ثم التأثير في التصورات، والعواطف لدى الأفراد. كذلك وجود تلاعب مُتعمد يتمثل في استخدام استراتيجيات نفسية، ووسائل وآليات الدعاية المختلفة كالتخويف، والتأطير، إلى جانب استراتيجيات الإقناع والاستمالات العاطفية من أجل إيصال رسائل معينة بالشكل المرغوب فيه.
الحرب النفسية بمفهومها الحديث
تختلف الحرب النفسية الحديثة اختلافًا ملحوظًا عن العمليات الدعائية التي كانت تجرى في الماضي وذلك لعدة أسباب:
أولًا: أصبح هناك اعتراف رسمي بأن عنصر الحرب النفسية، بمعناه الواسع، هو إحدى القوى الرئيسية التي تستخدم في السلم والحرب على السواء لإعطاء أقصى قدر من التأييد للسياسات من أجل زيادة احتمالات النصر، ونتائجه المواتية، وتقليل فرص الهزيمة. وهكذا، فإن العامل النفسي في العلاقات الدولية يؤخذ في الاعتبار في المجالس العليا للحكومات إلى جانب العوامل السياسية والاقتصادية والعسكرية في اتخاذ القرارات الرئيسية للسياسة الخارجية.
ثانيًا: أتاح التقدم التكنولوجي في علم الاتصالات للدعاية الحديثة مجموعة متنوعة من الوسائل للوصول إلى الجماهير التي لم يكن من الممكن الوصول إليها في السابق. فأجهزة الإرسال والاستقبال اللاسلكي، والأفلام، التلفزيون، وتوافر المطابع عالية السرعة، ووسائل التواصل الاجتماعي؛ كل ذلك يتضافر ليزيد من احتمال تعرض أي جمهور معين يُرغب في وصول الرسالة إليه.
ثالثًا: إن التطورات الحديثة في استطلاعات الرأي العام، والتحليل الاستخباراتي، والتقنيات الجديدة لتقييم السمات الثقافية للجماعات الأجنبية تمكن من وضع تنبؤات أكثر دقة لسلوك الجماعات والجماهير. وبالتالي من الممكن لعمليات الحرب النفسية الحديثة أن تكون أكثر قابلية للإدارة والتنبؤ بها أكثر مما كانت عليه في الماضي.
رابعًا: أدى التوسع في تكنولوجيا المعلومات، والرقمنة، والأهمية المتزايدة للشبكات الاجتماعية إلى تنفيذ العمليات الدعائية النفسية بشكل أسرع، وأبسط، وبتكاليف أقل أكثر من أي وقت مضى في التاريخ، إلى جانب الوصول إلى عدد أكبر من الجمهور المتنوع سواء أكان مستهدفًا بالفعل أم لا.
خامسًا: تُنفذ الحرب النفسية بمساعدة وحدات خاصة متخصصة، ولكن في كثير من الأحيان يتم أيضًا استخدام خدمات بعض الشركات المتخصصة ودور الإعلام وما شابه ذلك؛ ويمكن أن يكون للحرب النفسية آثار كبيرة نتيجة لذلك. كما تتيح تقنيات “المحاكاة” الجديدة إمكانية تنظيم أحداث وهمية ينظر إليها جزء كبير من السكان على أنها حقيقية؛ والهدف هو إيصال معلومات ومؤشرات معينة إلى الطرف المتصارع أو جمهور مختار، من أجل التأثير في مشاعرهم ودوافعهم.
سادسًا: لم يعد استخدام أساليب الحرب النفسية مقصورًا على الدول وحدها؛ حيث اتجه العديد من الفاعلين من غير الدول كالجماعات المسلحة في الانخراط في استخدام هذه الأساليب لكسب مؤيدين من جميع أنحاء العالم.
[1] Narula, Sunil , “Psychological Operations (PSYOPs): A Conceptual Overview“,Strategic Analysis, vol. 28, no. 1, Jan. 2004, p.2, https://doi.org/10.1080/09700160408450124