كشفت وزارة التربية والتعليم منذ عامين أن عجز المعلمين قد تخطى 300 ألف معلم، وفي صدد إدارة هذه الأزمة اتخذت الوزارة عددًا من الإجراءات، ما بين المؤقتة تارة والدائمة تارة أخرى، ففي الأولى أطلقت الوزارة بوابة إلكترونية لتلقي طلبات التسجيل للوظائف الشاغرة بالمدارس الحكومية والخاصة، بهدف تعيين 120 ألف معلم وإداري في وظائف مؤقتة خلال العام الدراسي 2019/2020، أما الدائمة فقد أعلنت الوزارة في يوليو 2022 عن مسابقة لتعيين 30 ألف معلم وفق شروط محددة. وتشير هذه الأرقام إلى أن أكثر من نصف العجز ما زال قائمًا. هذا إذا ما افترضنا أن الإجراءات المؤقتة والدائمة معًا قد نجحت بالفعل في توفير 150 ألف معلم لسد العجز، لكن الملاحظة الميدانية تشير إلى أن هذه الفرضية غير واقعية. لذا فالسؤال الأقرب لتحليل هذه المعضلة هو: هل معدلات العجز في المعلمين حقيقية؟ وما هي محدداتها وأبعادها؟.
محددات حساب نقص المعلمين
المعلمون هم أحد أهم مدخلات أي نظام تعليمي، ويمثلون المكون الأساسي لجملة من المؤشرات التربوية التي تحدد جودة الأنظمة التعليمية، ويعكس معدل نصيب المعلم من الطلاب جودة العملية التعليمية، فكلما انخفضت نسبة الطلاب إلى المعلمين كلما تحسن الأداء التدريسي، وكان الوقت المخصص لمتابعة وتقييم وتقويم كل طالب أكبر وأكثر فاعلية، بالتالي يقيس هذا المؤشر حجم الفقد التربوي إذا ما ارتفعت المعدلات عن المتوسط العالمي، وبشكل عام لا تبتعد مصر عن هذا المتوسط، والذي يبلغ 26 طالبًا لكل معلم وفق تقديرات اليونسكو عام 2022، وعلى الرغم من إحراز مصر تقدمًا في مؤشر البيئة المدرسية وتحسن في نصيب المعلم من الطلاب بحسب تقرير التنافسية العالمي 2020، حيث احتلت المرتبة 70 من بين 138 دولة بعد أن كانت في المرتبة 92 عام 2019، إلا أن الوزارة لا تنفك تعلن مرارًا وتكرارًا عن نقص في أعداد المعلمين، ربما يعزى ذلك لاستخدام “المتوسط الحسابي” فقط وتحييد أي عوامل أو أبعاد أخرى. فالمتوسط الحسابي مقياس غير دقيق، ولا يمكنه أن يحدد مكمن العجز في المعلمين بصورة صحيحة لأنه يختزل ظاهرة متنوعة ومركبة في بعد واحد فقط، ويؤدي بالتالي إلى إهمال أبعاد متعددة شديدة الأهمية، ونناقش فيما يلي بعضا من هذه الأبعاد.
المرحلة التعليمية والكثافة الطلابية:
تبلغ نسبة الطلاب إلى المعلمين في كافة مراحل التعليم ما قبل الجامعي في مصر نحو 25 طالبًا لكل معلم، وتتفاوت هذه النسبة حسب المراحل التعليمية، وتسجل أعلى معدلاتها في المرحلة الابتدائية بنحو 32 طالبًا لكل معلم، تليها مرحلة التعليم الثانوي الفندقي بنحو 26 طالبًا لكل معلم، وتسجل مراحل التعليم الثانوي الزراعي والثانوي التجاري والمرحلة الاعدادية نسبة قدرها نحو 23 طالبًا لكل معلم، ثم تأتي مرحلة الثانوية العامة في المركز الرابع بنسبة قدرها نحو 20 طالبًا لكل معلم، ويحصد التعليم ما قبل الابتدائي المركز الخامس بنسبة 19.67 طالبًا لكل معلم، بينما تسجل مرحلة التعليم الثانوي الصناعي أقل المعدلات بنحو 12 طالبًا لكل معلم.
يصاحب التفاوت في معدلات الطلاب إلى المعلمين بحسب المرحلة تفاوت في كثافات الفصول، وإذا ما كان الهدف من هذه المتوسطات هو قياس فاعلية الأداء التدريسي، فسيتكون لدينا نسبتين مختلفتين تمامًا، فنصيب المعلم من الطلاب بالمرحلة الابتدائية 32 طالبًا لكل معلم، بينما تبلغ الكثافة الطلابية بفصول ذات المرحلة نحو 52 طالبًا، ولأنه لا يمكن لأكثر من مدرس العمل في نفس الوقت في الفصل ذاته، فإنه يكون مطلوبًا من المدرس في المرحلة الابتدائية العمل مع 52 وليس 32 طالبًا. فقياس قيمة عجز المعلمين باحتساب نصيب المعلم من الطلاب فقط بمعزل عن متوسطات الكثافة الطلابية داخل الفصول الدراسية هو مقياس مضلل إلى حد كبير، شكل (1).
شكل (1): الفرق بين نصيب المعلم من الطلاب وكثافة الفصل بجميع مراحل التعليم ما قبل الجامعي للعام الدراسي 2021 / 2022
المصدر: كتاب الإحصاء السنوي – وزارة التربية والتعليم للعام الدراسي 2021 / 2022
https://emis.gov.eg/Site%20Content/book/021-022/pdf/ch5.pdf
- التوزيع الجغرافي:
تشير بيانات كتاب الإحصاء السنوي الصادر عن وزارة التربية والتعليم عام 2021 إلى وجود تباين في أعداد الطلاب والمعلمين جغرافيًا بحسب المحافظة، يعكس هذا التباين نسب العجز في المعلمين بشكل عام إذا ما تم استبعاد أبعاد التصنيف الأخرى كالتخصص الأكاديمي أو التربوي أو الدرجة الوظيفية، وبشكل عام، ترتفع متوسطات كثافة الفصول ونصيب المعلمين من الطلاب بالمرحلة الابتدائية في محافظات الجيزة، والبحيرة، والفيوم، وأسيوط، وتسجل محافظة القاهرة أعلى معدلات لنسبة الطلاب إلى المعلمين في التعليم الزراعي بواقع نحو 72 طالبًا لكل معلم بمتوسط كثافة طلابية قدرها نحو 32 طالبًا، تليها محافظة مرسى مطروح في التعليم المجتمعي بواقع نحو 66 طالبًا لكل معلم بمتوسط كثافة طلابية قدرها نحو 60 طالبًا/ فصل، تعكس هذه الإحصاءات بيانات هامة يمكن توظيفها لرسم خريطة عجز المعلمين بكل مرحلة في كل محافظة من محافظات مصر بعد مراجعة عدد الفصول ونسب الكثافات بكل محافظة وفي كل مرحلة تعليمية.
- الدرجة الوظيفية والساعات التدريسية الفعلية:
تُحدد الدرجات الوظيفية الساعات الفعلية للتدريس، فلكل درجة وظيفية نِصاب معين من الحصص الأسبوعية بحسب كل مرحلة تعليمية وفق قانون كادر المعلم رقم (155) لعام 2007، وتعديله عام 2013، وتتدرج الأنصبة من 24 حصة وحتى 14 حصة أسبوعيًا بحسب الوظيفة، ويتراوح المدى الزمني بين كل درجة وظيفية والتي تليها من (3-5) سنوات، شكل (2)، (3)، كذلك يحدد القانون استثناءً لكل معلم وُكِل إليه مهام الإشراف بتخفيض نصابه بمقدار حصتين أسبوعيًا، وتبلغ نسبة إجمالي المستثنين 50.06% بالمرحلة ما قبل الابتدائية ونحو 74% بالمرحلة الابتدائية، وفق ما جاء بكتاب الإحصاء السنوي 2021، شكل(4)، وتعكس هذه البيانات حجم العجز الضخم في الساعات التدريسية الفعلية في هذه المراحل ما يستدعي تدقيق بيانات نسبة المعلمين الممارسين للتدريس إلى غير الممارسين، والمدرجة بالباب الخامس من كتاب الإحصاء السنوي لعام 2021، وتوضيح ما إذا كانت هذه البيانات تمثل نسبًا أم معدلات للمعلمين الممارسين للتدريس.
شكل (2): النصاب الأسبوعي (عدد الحصص) للمعلمين بحسب الدرجة الوظيفية لكل مرحلة تعليمية
المصدر: قانون كادر المعلم رقم (155) لعام 2007 ولائحته التنفيذية وتعديلاته عام 2013
شكل (3): أعداد المعلمين بحسب النوع والدرجة الوظيفية لكافة مراحل التعليم ما قبل الجامعي 2021 / 2022
المصدر: كتاب الإحصاء السنوي – وزارة التربية والتعليم للعام الدراسي 2021 / 2022
https://emis.gov.eg/Site%20Content/book/021-022/pdf/ch5.pdf
شكل (4): نسبة المعلمين الممارسين للتدريس إلى غير الممارسين بمراحل التعليم ما قبل الجامعي 2021 / 2022
المصدر: كتاب الإحصاء السنوي – وزارة التربية والتعليم للعام الدراسي 2021 / 2022
https://emis.gov.eg/Site%20Content/book/021-022/pdf/ch5.pdf
- التخصص الأكاديمي والتربوي:
التخصص الأكاديمي محدد هام في حساب عجز المعلمين، ولا توجد بيانات معلنة عن نسب العجز بحسب التخصص الأكاديمي، وبشكل عام تسجل التخصصات العلمية عجز أكبر من التخصصات الأدبية، وعليه تعاني المراحل الابتدائية العليا والمراحل الثانوية بنوعيها العام والفني من نقص في المعلمين ذوي التخصصات العلمية، ومع إطلاق مناهج جديدة متعددة التخصصات ضمن مشروع تطوير التعليم، أصبحت كفايات المعلمين بحسب التخصص لا تفي بمتطلبات تدريس هذه المناهج.
أما على الصعيد التربوي، فقد أسهمت اشتراطات التعيين على وظائف المعلمين بمختلف درجاتها إلزام نسبة كبيرة من المعلمين بالحصول على مؤهل تربوي سواء كشهادة جامعية أولى أو ثانية (دبلومات التأهيل التربوي)، وعلى الرغم من ارتفاع نسب المعلمين الحاصلين على المؤهل التربوي في بعض المراحل التعليمية، شكل (5)، إلا أن هذه الكفايات التربوية أضحت قاصرة ولا يمكنها أن تلبي متطلبات تطور المناهج الجديدة بمشروع إصلاح التعليم.
شكل (5): نسبة المعلمين التربويين بمراحل التعليم ما قبل الجامعي 2021 / 2022
المصدر: كتاب الإحصاء السنوي – وزارة التربية والتعليم للعام الدراسي 2021 / 2022
https://emis.gov.eg/Site%20Content/book/021-022/pdf/ch5.pdf
توصيات لسد عجز المعلمين
في ضوء ما تقدم يتضح أن محددات حساب عجز المعلمين متداخلة، ولا يمكن فصل إحداها عن الأخرى لحساب العجز بدقة، لذلك تحتاج إدارة سد العجز إلى خطوات محددة يمكن استعراضها على النحو التالي:
- التأهيل قبل الخدمة: يستدعي مشروع تطوير التعليم وما تفرضه مناهجه الجديدة من تخصصات علمية وتربوية متقدمة، مزيدًا من التكامل بين كليات التربية واحتياجات الوزارة، وهذا يتطلب مراجعة التخصصات العلمية والتربوية بالكليات، ومراجعة معايير القبول بحسب النطاق الجغرافي انطلاقًا من سياسة تقليل الاغتراب، كذلك مراجعة التخصصات التي بها عجز، بهدف تأهيل الطلاب بأقسام هذه التخصصات في كل محافظة، بعد إبرام تعاون شامل بين كليات التربية والمديريات على نطاق محلي.
- معايير لحصر العجز: يحتاج حصر نقص المعلمين إلى معايير واضحة تراعي المحددات السابقة، وتشتمل على حصر أعداد المعلمين فعليًا وليس الكترونيًا بالاعتماد على قواعد البيانات لعدم كفاءتها، لذلك لابد من حصر المعلمين ممن هم على رأس العمل بكل محافظة، والمنتدبين والمعارين خارجها، والمنتدبين داخل المحافظة، والتربويين، والإداريين، مع مراعاة أن تقترن تلك البيانات بتحديد السن، والتخصص الأكاديمي، والدرجة العلمية والدرجة الوظيفية، وما يقابلها من أنصبة حصص تترجم لخريطة للساعات التدريسية الفعلية بكل مرحلة، وكل محافظة.
- تحليل جغرافي وإحصائي: من المهم توظيف نظم المعلومات الجغرافية Geographic information system لتحليل بيانات عجز المعلمين بما يسهم في حصر العجز الحقيقي مكانيًا واحصائيًا سواء بحسب التخصص، أو الدرجة الوظيفية، وهذا يحتاج إلى تطوير قاعدة بيانات المعلمين الالكترونية لتشمل كافة البيانات والمعلومات.
- إعادة هيكلة حوافز الجذب: مراجعة حوافز جذب العمالة والمكافآت الخاصة لبعض المحافظات (النائية) خاصة التي بها كليات للتربية، حيث أن هذه المحافظات تفرغ محافظات أخرى من معلميها، وترتفع بها نسب المعلمين المنتدبين، فتحدث خلل في التوزيع الفعلي للمعلمين جغرافيًا. يمكن استبدال مسمى حوافز الجذب ببدلات انتقال مالية باشتراطات محددة أهمها أن يكون المعلم من أبناء المحافظة.
- ضبط الترقي الإداري: تتداخل الاختصاصات للعديد من الوظائف الادارية سواء على مستوى المدرسة أو الإدارة التعليمية أو المديريات التعليمية نتيجة لعدم وجود وصف وظيفي لبعض الوظائف وخاصة الإدارية، كذلك تكفل بعض مواد قانون كادر المعلم الترقي من وظيفة تربوية إلى وظيفة إدارية دون اشتراطات تحافظ على سير العملية التعليمية وخاصة أنصبة الحصص (الساعات التدريسية)، فيتحول عدد كبير من المعلمين إلى إداريين لا يمارسون التدريس بعد بضع أعوام من التعيين وفق القانون.