انتزعت مصر تأييدًا وترحيبًا لدورها الرئيسي الخاص بمسار إعادة بناء المؤسسة العسكرية الليبية، وهو ما ظهر من خلال مخرجات مؤتمر باليرمو الذي عقد في إيطاليا في 12 نوفمبر 2018، إذ أقر في بيانه الختامي بدعم جهود مصر في هذا الصدد، وهو ما يُشكّل نوعًا من الدعم الدولي للدور المصري يمكن البناء عليه في اتجاه إعادة بناء الدولة الليبية، لا سيما في ظل انهيار البنية الأمنية. إذ تشير مؤشرات الواقع الحالي الذي تعكسه الخطوط العامة لمخرجات مؤتمرات فرنسا وإيطاليا إلى أن إعادة بناء الدولة الليبية لن يأتي إلا عبر استعادة مقوماتها التي تم استهدافها بفعل التدخل الخارجي، ودفع القوى المحلية إلى التشرذم لتسهيل عملية استقطابها لتنفيذ أجندات تلك القوى التي تنتهج تكتيكات تهدف إلى إطالة أمد الصراع في ليبيا. وقد خرجت مصر من مؤتمر باليرمو بجملة من المكاسب الأساسية؛ لعل أبرزها:
أولًا – الدعم الدولي للرؤية المصرية للتعامل مع الملف الليبي: وذلك فيما يتعلق بالنتائج التي تم التوصل إليها في مسار عملية بناء المؤسسة العسكرية، وإدراك الدول الموقِّعة على بيان باليرمو بفاعلية هذا الدور وقدرته على بلورة خطة عمل منجزة في عملية بناء المؤسسة العسكرية والمؤسسات الأمنية، ونجاح الخطوات التي بذلتها في هذا السياق على مدار العامين الماضي والجاري، وإدراك تلك القوى أفضيلة الخطة المصرية في بناء جيش يُشكِّل نواة لاستعادة الدولة الليبية التي انهارت إثر سقوط نظام العقيد القذافي عام 2011. كما ثبت أن مصلحة القاهرة في الانخراط بالساحة الليبية بُني على أساس مساعي عودة الاستقرار كضرورة أمن قومي مصري، على خلفية تداعيات الانهيار الأمني في ليبيا على مصر وما شكّله ذلك من تحدٍّ أمني. ومن ثم لا يشكل هذا الانخراط ضررًا على مصالح أغلب تلك الأطراف، ولا يتقاطع مع توجهاتها الاستراتيجية العامة.
ثانيًا- قطع الطريق على محاولات عرقلة الدور المصري: ثمة تسريبات عديدة في هذا الاتجاه تعكس مواقف منسقة لدى عددٍ من الأطراف ذات الصلة بالملف الليبي، خاصة التركية – القطرية الداعمة للميليشيات، لا سيما الموالية للإخوان المسلمين في ليبيا. إلى جانب عدم تحمس المبعوث الأممي “غسان سلامة” للجهود المصرية، وهو ما ظهر في خطابه الإعلامي بشكل غير مباشر. فرؤية “سلامة” تتمحور حول أن الجيش الليبي الذي يقوده المشير “خليفة حفتر” يمكن أن يُشكّل نواة لجيش وطني، لكن في ظل عدة ملاحظات بحسب رؤيته، منها أن ثقل المكوّن الرئيسي لا يزال من الشرق، في حين أن الغرب لم يُمثَّل فيه، ويرى أن الطموح السياسي للمشير “خليفة حفتر” قد يُشكّل تحديًا في هذا المسار، وأنه لا يوجد توافق “غربي” في هذا السياق، فضلًا عن مساعيه لفرض ترتيبات أمنية في الغرب كبديل للميليشيات من خلال إعادة العسكريين المتقاعدين بحكم مآلات الوضع الأمني، وما فرضه الواقع الليبي بعد 17 فبراير للانخراط في المؤسسات الأمنية التي يقترحها. لكن في المحصلة الأخيرة، فإن مخرجات باليرمو طرحت مسارين واضِحَيِ الملامح؛ أحدهما سياسي، والآخر أمني، على أن يصبّا في اتجاه إعادة الاستقرار لليبيا، للخروج من مشهد الفوضى الراهنة، وبالتالي الحد من محاولات التدخل المعرقل للجهد المصري.
ثالثًا- إعادة الاعتبار للملف الأمني: على الرغم من أن مؤتمر باليرمو تناول الأبعاد السياسية والاقتصادية والأمنية؛ إلا أن المخرجات التي تناولت ملامح خريطة طريق سياسي ليبي ركزت على أن الآلية الضامنة لهذا المسار هي ضمانة وجود “المؤسسة الأمنية”، وبالتالي فإن هذه المقاربة تُعلي من قيمة الدور الذي تبذله مصر كقِبلة رئيسية لهذا الملف.
وقد يُشكّل باليرمو منعطفًا في الملف الليبي أقلّ من كونه نقطة تحول فارقة على صعيد الملفات التي تناولها. لكن من المتصور أن يشكل نقطة فارقة بالنسبة للقاهرة التي تتسق أغلب المخرجات ورؤيتها نحو الملف الليبي، لكنه أيضًا يفرض عددًا من التحديات في الوقت ذاته، لعل من أبرزها على سبيل المثال لا الحصر:
- عامل الوقت: خاصة إذا كانت المخرجات الخاصة بالشق السياسي في الملف تتوقف على دورٍ فاعلٍ للأجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية، إذ قد يُشكل هذا التوجه قيدًا زمنيًّا في ظل مقترح المبعوث الأممي الخاص بكيان سياسي جامع، وإجراء الانتخابات منتصف العام المقبل، وفي المقابل كان يتعين أن يكون هناك إطار إلزامي فيما يخص عملية توحيد المؤسسة العسكرية.
- تشكيل جبهة دعم دولي: ربما تُعد خطوة الإقرار من جانب أغلب القوى الدولية الفاعلة في الملف الليبي بدور مصري في إعادة بناء المؤسسة العسكرية، هي خطوة أولى وهامة يمكن البناء عليها، لكنها تظل بحاجة إلى مزيدٍ من الدعم الدولي لهذه الخطى في إطار خطة العمل المصرية.
- بقاء الجبهة المضادة كأطراف لاعبة في المشهد: وخاصة تركيا التي ترى أن تغييب دورها يستتبع عرقلة الخطوات القادمة، وهو بحد ذاته دور محبط لمساعي إنقاذ ليبيا بالإبقاء على دور الميليشات ودور سياسي للإخوان المسلمين في صدارة المشهد السياسي، والتكريس لحالة الانقسام. ومن المتصور أن تركيا وقطر وحلفاءهما المحليين سيعملون قدر الإمكان على عرقلة الدور المصري.
باختصار، فإن الدور المصري قد لقي استحسان أغلب الأطراف الدولية الفاعلة في الملف الليبي بالنظر إلى أنه دور داعم لإعادة الاستقرار إلى ليبيا، وهو ما ينسجم مع السياسة الخارجية المصرية عمومًا نحو تهدئة التصعيد الإقليمي في أغلب مناطق الصراعات في المنطقة، وهو ما ظهر من خلال دور القاهرة في وقف التصعيد في غزة بالتزامن مع مؤتمر باليرمو. كما أن الرهان على بناء المؤسسة العسكرية التي لعبت القاهرة دورًا فاعلًا ورئيسيًّا في بنائها ظهرت نتائجه في التعاطي مع الملفات الساخنة في ليبيا، سواء في مواجهة ظاهرة الإرهاب، أو الحد من ظاهرة الهجرة غير المشروعة. الأمر الذي جعل من الدور المصري الدور الأكثر إيجابية في المشهد الليبي. وتشكل كل هذه العوامل فرصًا للدور المصري، لكن أيضًا هناك تحديات يفرضها واقع تطور الحالة الليبية تحتاج إلى آليات مقاومة حتى لا تُشكل عاملًا معرقلًا لفرص إنجاز هذا الدور.