حملت الساعات الأخيرة نهاية حكم نظام الرئيس السوري “بشار الأسد”، الذي دام لمدة 24 عامًا، إذ تمكنت فصائل المعارضة المسلحة المشاركة بعملية “ردع العدوان“، بقيادة “هيئة تحرير الشام”، من التقدم وتحقيق السيطرة على عدة محاور، بدءً من مدينة حلب التي أحكموا السيطرة عليها خلال يومين فقط من بدء العمليات، تلاها السيطرة على مدينتي حماة وحمص، وصولًا إلى التقدم في اتجاه العاصمة دمشق. توازى ذلك مع تمكن فصائل “غرفة عمليات الجنوب”، والتي تأسست يوم السادس من ديسمبر، من السيطرة على محافظات درعا والقنيطرة والسويداء، وذلك وسط انسحابات متتالية لقوات الجيش السوري من هذه المناطق. وبذلك، بدأت فصائل المعارضة بالدخول إلى دمشق، في الوقت الذي ترددت فيه الأنباء بشأن مغادرة الرئيس السابق البلاد، وإبلاغ قادة الجيش لجنودهم بسقوط نظام الحكم وأنهم لم يعودوا في الخدمة.
مسببات السقوط
أدت مجموعة من الدوافع إلى سقوط النظام السوري، وهو ما يمكن رؤيته على النحو التالي:
أولًا- طبيعة الأوضاع الداخلية؛ حيث تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية للمواطنين، وهو ما دفع العديد منهم للخروج في تظاهرات منددة منذ العام الماضي بالمناطق الخاضعة لسيطرة النظام لا سيما في الجنوب بمحافظتي السويداء ودرعا.
ثانيًا- تراجع فرص التسوية السياسية؛ وذلك في ضوء عزوف النظام السوري عن الاستجابة لأي مبادرة عربية أو إقليمية من شأنها تحريك الملف السياسي والمضي نحو استئناف عمل اللجنة الدستورية والتوصل لحل سياسي بما يتماشى مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254.
ثالثًا- محاولة المعارضة تهدئة مخاوف المجتمعات المحلية؛ إذ تمكنت الفصائل المسلحة من توظيف حالة السيطرة “الهشة” للنظام وافتقاره للدعم الشعبي لصالح طرح نفسها كبديل “آمن” يسعى إلى تلبية المتطلبات الأساسية للمواطنين، بما في ذلك ضمان أمنهم، وحق الأقليات في ممارسة شعائرهم الدينية، الأمر الذي تجلى في تداول صور لتأدية المسيحيين لصواتهم في الكنائس، مع الإشارة إلى أنها “تحت حماية إدارة العمليات العسكرية”.
رابعًا- تراجع جاهزية الجيش السوري؛ إذ أحالت العديد من التقارير أسباب عدم قدرة الجيش السوري التصدي لتقدم المعارضة، ومن ثم انسحاباته المتتالية، إلى حالة الإنهاك التي يعاني منها الجيش نتيجة انخراطه في نزاع على مدار ما يزيد عن 13 عامًا، هذا فضلًا عن مزيج من الخسائر البشرية والانشقاقات والتهرب من التجنيد الإجباري بما أدى إلى خسارة الجيش لنحو نصف قوته البالغة 300 ألف جندي.
خامسًا- عنصر التوقيت؛ فعلى مدار السنوات الماضية، أدت التدخلات الروسية الإيرانية الحاسمة في الصراع إلى زيادة اعتماد النظام وجيشه على التعزيزات البشرية والعسكرية المقدمة من جانب حليفيه، والتي مكنته من الحفاظ على مواقع سيطرته، وفي بعض الأحيان من توسيعها، الأمر الذي أسهم بمرور الوقت في تراجع الجاهزية العملياتية للجيش السوري، نظرًا لاعتماده المتزايد على الدعم العسكري الروسي الإيراني، وذلك وصولًا إلى التوقيت الذي حددته فصائل المعارضة لشن عملياتها والذي تناسب مع انشغال الحليفين بأزماتهما الخاصة.
فقد أدى الانشغال الروسي بالحرب في أوكرانيا إلى تراجع أولوياتها العسكرية في سوريا، وهو ما تجلى في توجهها نحو إعادة نشر القوات والمعدات العسكرية الروسية بالخارج لصالح القتال على الجبهة الأوكرانية. وقد تزامنت العمليات في سوريا مع تطورات جدية على صعيد الجبهة الأوكرانية والتي تمثلت في التوغل الأوكراني المفاجئ في منطقة “كورسك” الروسية، منذ أغسطس 2024، ومؤخرًا سماح الولايات المتحدة لأوكرانيا باستهداف العمق الروسي باستخدام الصواريخ طويلة المدى، وهو ما أدى إلى تراجع الاهتمام الروسي بما تشهده الساحة السورية من تطورات مرتبطة بتحول أراضيها إلى ساحة من ساحات المواجهة الإيرانية الإسرائيلية.
في المقابل، أدى تواتر وارتفاع حدة الضربات الإسرائيلية على مواقع الميليشيات الإيرانية في سوريا إلى لجوء هذه الميليشيات إلى تقليص أعدادها بشكل مستمر وإعادة الانتشار، الأمر الذي أدى إلى تراجع فعاليتها القتالية داخل سوريا، يضاف إلى ما تقدم حجم الاستنزاف والخسائر التي مُنيت بها هذه الميليشيات في القدرات والقيادات العسكرية خلال مواجهتها الدائرة منذ ما يزيد عن عام كامل مع إسرائيل.
ترتيبات ما بعد الأسد
أسس نجاح المعارضة عبر عملية “ردع العدوان” في بسط سيطرتهم على العاصمة دمشق عدد من الترتيبات، والتي من شأنها أن تؤثر بشكل مباشر على مسار الأزمة السورية.
أولًا، محاولة قائد “هيئة تحرير الشام” طمأنة المجتمع الدولي: فعلى مدار الأيام الأنثى عشر من العمليات العسكرية، عمد “أحمد الشرع”، المتعارف عليه باسم “أبو محمد الجولاني”، إلى تقديم نفسه كسياسي مدني، في محاولة لنفي صفة “الإرهاب” اللصيقة بجماعته. فخلال مقابلته مع قناة CNN الأمريكية، رفض “الجولاني” وصف الهيئة كمنظمة إرهابية، مشددًا على أنها سياسية في المقام الأول. كما أوضح معارضته لبعض “الممارسات الإسلامية المتطرفة، والتي خلقت انقسامًا بين الهيئة والجماعات الجهادية الأخرى، الأمر الذي أدى إلى قطع علاقاته معهم. كما تحدث خلال المقابلة عن خطط تشكيل حكومة قائمة على المؤسسات و”مجلس يختاره الشعب”.
وفي خطابه الأول بعد السيطرة على دمشق، أصدر أمرًا يمنع “اقتراب قواته من المؤسسات العامة التي ستظل تحت إشراف رئيس الوزراء السابق، حتى يتم تسليمها رسميًا، كما يُمنع إطلاق الرصاص في الهواء”.
ويبدو أن محاولاته قد أتت بثمارها، إذ كشفت صحيفة نيويورك تايمز أنه خلال الأيام الأخيرة، نقلت الولايات المتحدة رسائل عبر الحكومة التركية إلى الهيئة لتحذيرهم من التعاون مع تنظيم “داعش”، وجاء رد الهيئة مؤكدًا على عدم نيتهم السماح للتنظيم بأن يكون جزءً من حركتها. وخلال الوقت الراهن، أشارت الصحيفة، نقلًا عن مسؤولين أمريكيين، إلى أن الرئيس الأمريكي “جو بايدن” يتناقش مع كبار مستشاريه حول مدى المشاركة المباشرة مع الهيئة في المستقبل. وفي ذات الوقت، أشار موقع “الحرة” نقلًا عن مسؤول رفيع في البيت الأبيض إلى اعترام الولايات المتحدة “الانخراط” مع الهيئة كمظلة لمجموعات معارضة متنوعة، بما يخدم مصلحة الأمن القومي الأميركي. فيما أوضح الوزير البريطاني “بات ماكفادن” دراسة الحكومة البريطانية لما إذا كان “ينبغي الاستمرار في تصنيف هيئة تحرير الشام الإسلامية المتشددة كمنظمة إرهابية”، وذلك بعد نجاحهم في قيادة العمليات التي أسقطت نظام “بشار الأسد”. كما أعلنت ألمانيا والاتحاد الأوروبي عن اعتزامهما إعادة تقييم “هيئة تحرير الشام” بناء على أفعالها مستقبلًا.
ثانيًا، تطورات سيطرة الفاعلين المحليين: بينما مضت فصائل المعارضة ضمن عملية “ردع العدوان” في طريق إتمام السيطرة على مناطق نفوذ النظام بالجنوب والساحل السوري، أعلن الجيش الوطني المدعوم من تركيا عن إطلاق عملية موازية أسماها “فجر الحرية” ضد قوات النظام السوري ووحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية. ومنذ ذلك الحين، أعلنت عناصر الجيش الوطني عن تمكنها من بسط سيطرتها على مدينتي “تل رفعت” و”منبج”.
ومن جانبها، ونظرًا للانسحابات المتتالية لقوات الجيش السوري، عمدت قوات “قسد” إلى فرض سيطرتها على كامل مدينة “دير الزور” شرق سوريا، علاوة على تعزيز مواقعها في الحسكة والرقة.
في المقابل، شهدت فترة العمليات العسكرية تقدمًا لمقاتلي “جيش سوريا الحرة”، المدعوم من الولايات المتحدة، والذي يتخذ من قاعدة “التنف” تمركزًا له، إذ تمكن المقاتلون من السيطرة على نقاط وعتاد عسكري تابع لقوات الجيش السوري بمنطقة البادية السورية داخل الحدود الإدارية لمحافظة ريف دمشق، هذا إلى جانب سيطرتهم على نقاط في منطقة جبل غراب، فضلًا عن عدة حواجز تقع على طريق دمشق- بغداد.
ثالثًا، تحولات معادلة سيطرة الفاعلين الخارجيين: أسفرت عملية “ردع العدوان” عن تحولات في نسب سيطرة الفاعلين الدوليين داخل سوريا، الأمر الذي قد يحمل انعكاسًا مباشرًا على مستقبل حضورهم بالأزمة. فبينما شكّل الحضور الإيراني الميداني والسياسي والديموغرافي الحضور الأبرز داخل سوريا على مدار السنوات الماضية، لضمان الإبقاء على ارتباط دمشق ضمن دائرة النفوذ الإيراني بالمنطقة، بما يخدم مشروعها الإقليمي الهادف إلى تيسير تحركات وكلاءها واستمرارية تدفق الإمدادات بين إيران والعراق ولبنان عبر سوريا، أدت التحولات المرتبطة بسقوط النظام السوري وانسحاب الجيش من أنحاء البلاد، فضلًا عن استمرارية الضربات العسكرية في سوريا إلى ارتفاع احتمال تقوّض، إن لم يكن انحسار، النفوذ الإيراني في سوريا. ومع ذلك، تشير أحدث تصريحات المسؤولين الإيرانيين، والتي نقلتها وكالة رويترز، إلى قيام طهران بفتح “قناة مباشرة مع القيادة الجديدة في سوريا بهدف “منع مسار عدائي” بين البلدين، فيما يبدو وأنها محاولة من جانب طهران للحفاظ على دور لها في سوريا الجديدة، برغم محاولات التقويض الأمريكية الإسرائيلية الجارية.
وفي ضوء موقعها القيادي الذي اكتسبته منذ عام 2015، يحمل سقوط نظام “بشار الأسد” تداعيات مباشرة على الدور الروسي بالأزمة السورية، إذ لم يتضح بعد مستقبل العلاقات بين فصائل المعارضة مع موسكو، وانعكاس ذلك على المصالح الاستراتيجية الروسية في سوريا ووضع قاعدتيها الجوية والبحرية المطلة على الساحل السوري. وفي هذا الصدد، أفادت تقارير روسية بوجود اتصالات بين المسؤولين الروس وممثلي المعارضة السورية المسلحة، “التي أكد قادتها ضمانهم أمن القواعد العسكرية الروسية والمؤسسات الدبلوماسية في سوريا”.
فيما يُنظر إلى تركيا باعتبارها من أبرز الداعمين لعملية ردع العدوان، فعلى الرغم من نفي وزير الخارجية التركي في بداية العمليات انخراط بلاده، أعرب الرئيس التركي لاحقًا عن أمله في مواصلة فصائل المعارضة المسلحة تقدمها نحو دمشق، خاصة في ضوء عزوف الرئيس السابق “بشار الأسد” عن عقد محادثات مع أنقرة بشأن مستقبل العلاقات بين البلدين. في الواقع، توفر العمليات الراهنة مكسبًا لأنقرة متمثل فيما تشكّله علاقاتها مع فصائل المعارضة من ضمان لاستمرار الحضور التركي كفاعل رئيسي بأي مناقشات حول مستقبل سوريا. هذا فضلًا عما حققه فصيل الجيش الوطني من سيطرة على مدينتي “تل رفعت” و”منبج”، اللتين شكلا في وقت سابق هدفًا تركيًا في مخطط تعميق منطقتها الأمنة بشمال سوريا، الأمر الذي يتيح لأنقرة، في الوقت الذي ترتأيه مناسبًا، إمكانية التدخل العسكري المباشر لحماية مصالحها في هذه المنطقة.
في المقابل، أسفرت “ردع العدوان” عن فرض إسرائيل لأمر واقع جديد على الحدود السورية الإسرائيلية. فإلى جانب استمرارها في تنفيذ غارات جوية ضد قواعد ومنشآت عسكرية سورية، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”، يوم الثامن من ديسمبر الجاري، عن انهيار اتفاق “فض الاشتباك” لعام 1974 مع سوريا والاستيلاء على المنطقة العازلة ومواقع القيادة المجاورة لها. وفي هذا الصدد، أوضح وزير الدفاع الإسرائيلي “يسرائيل كاتس” أن الهدف من هذه العملية يكمن في “خلق مجال أمني خالٍ من الأسلحة الاستراتيجية الثقيلة والبنى التحتية الإرهابية التي يمكن أن تهدد إسرائيل”، ولمنع تهريب الأسلحة من إيران إلى لبنان عبر سوريا.
ختامًا، يظل من غير الواضح ما قد تسفر عنه الأوضاع الراهنة من تداعيات من شأنها إما إعادة الاستقرار إلى سوريا، أو إثارة موجة جديدة من الفوضى التي قد تحمل بدورها ارتدادات سلبية على منطقة الشرق الأوسط. من جانبها، تسعى القيادة السورية الجديدة نحو إبراز حرصها على إعادة الاستقرار سريعًا، وهو ما يتجلى في المناقشات الجارية حول تشكيل الحكومة الجديدة، وكذا في تصدير مشهد محاولة السيطرة على الفوضى اللاحقة لسقوط النظام، وعودة أنشطة المؤسسات المحلية، ومن ثم عودة الحياة الطبيعية إلى سوريا.
ومع ذلك، لا زال هناك مجموعة من الإشكاليات المُحددة لمسار الوضع الراهن. يرتبط أولها في استمرار الوفاق ووحدة الهدف بين فصائل المعارضة وقبولهم لقيادة “هيئة تحرير الشام” وقدرتهم على تكوين جيش نظامي موحد، بما يحول دون التحول نحو الفوضى أو حرب أهلية فيما بين تلك الفصائل، أو انقسام المناطق تبعًا لنفوذ كل فصيل.
وتنصرف الإشكالية الثانية إلى مدى قبول الأقليات في سوريا لحكم وسلطة “هيئة تحرير الشام” التي لم تنفي اعتزامها تطبيق نموذج من الحكم الإسلامي “المعتدل”، بحسب ما تروج له. فيما تدور الإشكالية الثالثة حول “هيئة تحرير الشام” في حد ذاتها، وما إذا سيتجه بالفعل مؤسسها إلى حلها لتجاوز تصنيفها الإرهابي، أم قد تعلن الدول الغربية، في مرحلة ما، عن رفع الحظر عن الهيئة، خاصة في ضوء إعلان العديد من القوى الغربية عن دراستها الحالية لهذا الأمر.