تمثل السياسة الدفاعية الجديدة، التى أعلنتها اليابان مؤخرا وتتضمن تطوير القدرات العسكرية وزيادة حجم الإنفاق العسكرى إلى 320مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة، واللجوء إلى الضربات الوقائية والمضادة ضد التهديدات الخارجية، تحولا مهما فى العقيدة العسكرية اليابانية التى سادت منذ الحرب العالمية الثانية واعتمدت على السياسة الدفاعية فقط فى إطار دستور سلمى، وهو ما سيكون له تداعيات إستراتيجية وأمنية على منطقة شرق آسيا. الخطوة اليابانية جاءت كرد فعل على التصعيد العسكرى من جانب الصين تجاه تايوان وقيام كوريا الشمالية بتطوير برنامجها النووى والصاروخى الباليستى وإطلاق العديد من الصواريخ الباليستية بعيدة المدى تجاه بحر اليابان أكثر من مرة، وهو ما أدى لتزايد الضغوط الداخلية لتطوير القدرات الدفاعية لمواجهة هذه التهديدات فى إطار إستراتيجية الردع.
ولاشك فى أن خطوة اليابان الأخيرة فى زيادة الإنفاق العسكرى سيكون له العديد من التداعيات المهمة على الأمن الإقليمى وعلى خصوم اليابان، خاصة كوريا الشمالية والصين اللتين عارضتا بشدة هذه الخطوة واعتبرتها ضارة وتمثل تهديدا لكل منهما، فى إطار استحضار أجواء الحرب العالمية الثانية وتمدد اليابان فى محيطها الإقليمى.
إن ما قامت به اليابان كان متوقعا فى ظل سياسة العسكرة التى تهيمن على التفاعلات فى شبه الجزيرة الكورية ومنطقة جنوب شرق آسيا خلال السنوات الأخيرة خاصة فى عهد إدارة الرئيس بايدن، والتى اتسمت بالتصعيد والتصعيد المضاد من قبل المحور الذى يضم كوريا الشمالية والصين، وكذلك المحور الذى يضم أمريكا واليابان وكوريا الجنوبية. فقد أدت سياسة أمريكا تجاه كوريا الشمالية والاعتماد على سياسة العصا وفرض مزيد من العقوبات الاقتصادية بعد فشل الدبلوماسية والحوار فى تسوية الملف النووى والصاروخى لكوريا الشمالية، إلى قيام الأخيرة بمزيد من التصعيد وتطوير قدراتها الصاروخية ومنها الصاروخ الوحش هافسونج 17 الذى يصل مداه لأكثر من عشرة آلاف كيلو متر ويستطيع استهداف كل الأراضى الأمريكية، كما قامت، منذ وصول بايدن للبيت الأبيض، بإطلاق حزم من الصواريخ الباليستية تجاه الشرق. وقد دفع ذلك كوريا الجنوبية واليابان إلى الرد بالمثل وإطلاق الصواريخ الباليستية وإجراء المناورات العسكرية المشتركة مع أمريكا. وبالتزامن تبنت إدارة الرئيس بايدن سياسة استفزازية تجاه الصين فيما يتعلق بتايوان عبر تزويدها بالأسلحة الحديثة أو عبر الدعم السياسى لاستقلال تايوان ومنها زيارة نانسى بيلوسى رئيسة مجلس النواب للجزيرة منذ شهور، وإعلان الرئيس بايدن أكثر من مرة عن الوقوف إلى جانب تايوان عسكريا ضد أى تدخل عسكرى صينى فيها، وبالتالى التخلى عن سياسة الغموض الإستراتيجى، وهو ما دفع الصين إلى تبنى سياسة التصعيد والردع وتطوير قدراتها العسكرية حيث تبلغ ميزانية الإنفاق العسكرى الصينى أكثر من 330 مليار دولار هذا العام، مقابل 770 مليارا للميزانية العسكرية الأمريكية، واستطاعت بكين أن تطور العديد من الأسلحة الإستراتيجية الذكية مثل الصواريخ بعيدة المدى والطائرات الشبح وامتلاك حاملات طائرات، وذلك لردع التهديدات الأمريكية ومنع تايوان من الاستقلال باعتبارها جزءا أساسيا من البر الصينى وأن استقلالها يعنى تجاوز الخط الأحمر. وإجراء المناورات العسكرية مع روسيا وتعزيز الشراكة الإستراتيجية.
والواقع أن دعم الولايات المتحدة لعسكرة شبه الجزيرة الكورية وجنوب شرق آسيا يستهدف أولا: تحجيم الصعود الصينى اقتصاديا وعسكريا، فى إطار الصراع الاستراتيجى على النظام الدولى، عبر إنشاء بؤرة صراع جديدة ورفع منسوب التوتر بين دول المنطقة، وبالتالى استنزاف الصين من خلال تسخين جبهة تايوان ومحاولة استنساخ سيناريو أوكرانيا فيها، لكن الصين حذرة من الوقوع فى الفخ الأمريكى. كما أن ترحيب أمريكا بالسياسة الدفاعية اليابانية الجديدة باعتبارها من وجهة نظرها ستعزز التحالف العسكرى الأمريكى اليابانى، تستهدف أيضا استفزاز الصين وكوريا الشمالية ودفعهما إلى مزيد من التسلح والإنفاق العسكرى. وثانيا: اعتبارات اقتصادية تتعلق بزيادة مبيعات الأسلحة الأمريكية لليابان وكوريا الجنوبية وهو ما ينعش الاقتصاد الأمريكى الذى يواجه صعوبات كثيرة مع ارتفاع معدلات التضخم بشكل غير مسبوق وارتفاع تكاليف المعيشة.
هناك مخاطر عديدة لقيام أمريكا بعسكرة هذه المنطقة الحيوية من العالم، أولها: التصعيد والتصعيد المضاد يهدد الاستقرار والأمن الإقليمى وقد يؤدى إشعال مواجهة كبرى فى منطقة تضم ما يقارب نصف سكان العالم وتحتوى على العديد من الأسلحة النووية، خاصة فى ظل تصاعد لغة العداء بين الأطراف المختلفة، وفى كل الأحوال فإن أمريكا لن تنخرط فى أية مواجهة عسكرية وستعتمد على إستراتيجية الحرب بالوكالة كما حدث فى أوكرانيا. وثانيها: هذا التصعيد يشعل سباق التسلح فى المنطقة، بما فيها التسلح النووى، والاتجاه نحو تطوير القدرات العسكرية وهو ما يتطلب تمويلا ضخما مما يؤثر على عملية التنمية فى هذه الدول. إضافة إلى أن العسكرة وإستراتيجية التصعيد تعنى تراجع فرص الدبلوماسية والحوار فى إدارة الملفات الشائكة والخلافية خاصة فيما يتعلق بالتسوية السلمية للبرنامج النووى لكوريا الشمالية او تهدئة الوضع فى تايوان أو تحقيق التقارب بين الكوريتين. ولاشك أن سياسة حافة الهاوية والتصعيد قد تقود لسيناريوهات كارثية وهو ما يتطلب تغليب الحكمة ولغة الحوار والدبلوماسية فى إدارة الخلافات بين دول المنطقة، فالعالم لن يتحمل تكلفة اشتعال جبهة جديدة فى ظل معاناته من حرب روسيا وأوكرانيا.