تكشف بعض التصريحات الأخيرة للرئيس قيس سعيد عن بداية لتقارب الرؤى مع الاتحاد العام التونسي للشغل بشأن سياسة الدعم، وعن احتمالية انفراجة في أزمة التوتر التي حدثت في العلاقات بين الطرفين على مدار الفترة الماضية في ظل تمسك كل منهما برؤيته الخاصة تجاه الأوضاع التونسية. لكن في 6 أبريل الجاري وفي كلمة للرئيس قيس سعيد خلال الذكرى 23 لرحيل الرئيس الحبيب بورقيبة عبر عن رؤيته تجاه مسألة خفض الدعم، رافضًا أي إملاءات خارجية تفرضها المؤسسات الدولية، مع رفض فقر المواطن وتهديد السلم الأهلي. ومن ناحية ثانية، عبّرت كلمات رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان “بسام الطريفي”، في 4 أبريل 2023، عن دوافع للاتحاد وعدد من المنظمات النقابية لطرح مبادرة للإنقاذ الوطني لخروج الدولة من أزمتها بما قد يحدث انفراجة في المشهد السياسى ستنعكس بطبيعتها على مسار الوضع الاقتصادي، لكن يتوقف ذلك على قبول الرئيس قيس سعيد لهذه المبادرة، وبدء الحوار بين الطرفين. ضمن هذا السياق، تناقش هذه الورقة أسباب توتر العلاقة بين الاتحاد العام التونسي للشغل والرئيس قيس سعيد والمسارات المحتملة.
أسباب التوتر
شهدت العلاقة بين الاتحاد العام التونسي والرئيس قيس سعيد منذ يوليو 2021 مراحل من الصعود والهبوط، ويعود التوتر بين “نور الدين الطبوبي” رئيس الاتحاد والرئيس “قيس سعيد” إلى عدة أمور، أولها: الإجراءات التقشفية التي يجب على الدولة اتباعها للحصول على قرض صندوق النقد الدولي، من حيث خفض أجور القطاع العام، وتقليص الدعم، وخصخصة الشركات المملوكة للدولة، وهي أمور غير مقبولة من جانب الاتحاد، فقد سبق وعبر عن رفضه لهذه السياسات بتنظيم إضراب اعتراضًا على عزم الحكومة آنذاك خفض الأجور في عام 2019.
ويشترط صندوق النقد الدولي موافقة المنظمات النقابية على برنامج الإصلاح لمنح القرض، ومن ثم يحتفظ الاتحاد العام التونسي للشغل بحق النقض كما حدث في السابق في فترة حكومة يوسف الشاهد، وهو ما يعرقل خطط الحكومة لمواجهة الأزمة الاقتصادية، وبالتالي استمرار تدهور الأوضاع، في ظل ضغوط تعاني منها الدولة؛ إذ بلغ الدَّيْن العام وفقًا لتقديرات البنك الدولي نحو 84.5% في عام 2021، ووصلت نسبة البطالة إلى 16.3 % في عام 2021، وبلغ مستوى التضخم نحو 5.7% في 2021، ووصل الدين الخارجي لتونس إلى 41.61 مليار دولار في عام 2021، وأصبحت تونس من بين الدول الأقل احتمالًا لسداد ديونها الخارجية.
ثانيها: المسار الفردي الذي انتهجه الرئيس قيس سعيد في تعديل الدستور بما كرس أغلب الصلاحيات الدستورية لصالحه؛ إذ بدأ الاتحاد ينتقد مسار الحكم الفردي المتبع من قبل الرئيس عقب خارطة الطريق التي أعلن عنها في 13 ديسمبر 2021، والتي تضمنت استمرار تعليق المجلس النيابي إلى تاريخ تنظيم انتخابات جديدة، بالإضافة إلى تنظيم استشارات إلكترونية انتهت في مارس 2022، ثم إجراء استفتاء على التعديلات الدستورية في 25 يوليو 2022، وعقد انتخابات تشريعية وفقًا لقانون انتخابي جديد في 17 ديسمبر 2022. بالإضافة إلى إعلان الرئيس حل المجلس الأعلى للقضاء في 10 فبراير 2022 بما أثار ردود فعل معارضة لتوجهات الرئيس للسيطرة على السلطات في الدولة. وقد سبق هذه الخارطة خطوات أخرى باتخاذ بعض التدابير الاستثنائية في يوليو 2021، ثم مدها مرة أخرى والتي تضمنّت: تجميد اختصاصات المجلس النيابي، ورفع الحصانة عن أعضائه، وإعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي من منصبه، ثم تم تعيين نجلاء بودن لرئاسة الحكومة في سبتمبر 2021. واستكمالًا لهذا المسار أعلنت خارطة الطريق.
جاء موقف الاتحاد متحفظًا على بعض التعديلات الدستورية، إذ دارت ملاحظاته حول غياب الفصل بين السلطات وعدم التوزان الحقيقي بينها، وأن هناك غموضًا يتعلق بالمرأة أو يقلص حدودها مقارنة بدستور 2014، بالإضافة إلى غياب ضمانات دستورية بخصوص منع تنقيح بعض الفصول المتعلقة بالحقوق والحريات. وقد تم بموجب المادة 61 من المشروع منع النائب من القيام بأي نشاط بمقابل أو بدونه، وهذا من شأنه أن يضع حدًا لاهتمام كثير من النواب بأعمالهم، وإهمال العمل البرلماني، بما قد يسبب عزوف المواطنين عن المشاركة في الحياة السياسية، ويثنيهم عن الترشح للمهام النيابية.
كما تمّ إضعاف الدور الرقابي للمجلس التشريعي على الحكومة، حيث لا يمكن توجيه لائحة لوم ضدها إلا بأغلبية نصف أعضاء المجلسين معًا، ولا تتم استقالة الحكومة إلا إذا حازت لائحة اللوم موافقة ثلثي أعضاء المجلسين معًا، وهي بمثابة الاستحالة، وهو ما من شأنه أن يخلق حالة حصانة واقعية للحكومة.
إضافة إلى عدم نص مشروع الدستور على الانتخاب الحر والمباشر لنواب الشعب، وإغفال النص على أداء اليمين للنواب، والنص في المادة 61 على سحب الوكالة من النائب، بما يخشى أن يكون هذا تمهيدًا لنظام البناء القاعدي الذي لا يتمّ وفق الانتخاب المباشر، خاصة مع السكوت عن تحديد مواعيد الانتخاب، وبعث المجلسين. وأن عدم النص على سلطة مجلس النواب في سحب الثقة من رئيس الجمهورية بسبب الخطأ الجسيم ولا حتى بسبب الخيانة العظمى، هو بمثابة إخلال فادح بالتوازن بين السلطات.
كما يعطي الدستور الجديد الرئيس صلاحيات كبرى في كل الوظيفة التنفيذية، بالإضافة إلى تكفله بتعيين أعضاء المحكمة الدستورية، وأعضاء الهيئات والمؤسسات الدستورية، واحتكر الرئيس سلطة تعيين القضاة في المادة 120. كما تمنح المادة 136 الرئيس عرض مشاريع تنقيح الدستور على الاستفتاء، دون ضرورة للمرور بالمجلس التشريعي.
وذهبت رؤية الاتحاد حول الدستور بأنه أقصى مفهوم الدولة المدنية القائمة على الفصل بين الدين والدولة، وفتح مجالًا واسعًا للدين كعنصر أساسي في الحياة السياسية والقانونية، وأضعف صلاحيات التمثيل النيابي في مجلس النواب وأهمها الدور الرقابي على عمل السلطة التنفيذية، فضلًا عن السكوت المتعمّد على طريقة انتخابه وموعده وتركيبته ومدّته النيابية. وأوجد مجلسًا يمثّل الجهات والأقاليم، ومهد لطريقة التصعيد سبيلًا للتمثيل فيه، بما يؤسّس لما يسمّى بالبناء القاعدي وأشركه من حيث الدور والصلاحيات والقوّة التشريعية بمجلس النوّاب، ممّا قد يخلق تنازعًا، ويعيد إنتاج الأزمات والتعطيل.
ثالثها: إعلان رئيس الاتحاد مقاطعة الانتخابات واعتبار أن تونس مقبلة على “انتخابات لا لون ولا طعم لها” بما دلل على استمرار التوتر، وبالرغم من رفض الاتحاد لمسار العودة للوضع ما قبل يوليو 2021 الذي كان يسيطر فيه الإخوان في تونس “حركة النهضة” على السلطة. إلا أن التوتر بين الرئيس والاتحاد بدأ مع رفض الأخير المشاركة في لجان الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل الجمهورية الجديدة والتي ضمت لجنة الحوار الوطني، واللجنة الاستشارية القانونية المنوطة بإعداد الدستور، واللجنة الاستشارية للشئون الاقتصادية والاجتماعية، ودعي الاتحاد إلى حوار جدي وليس صوريًا، إذ طرح بعدها مبادرة للحوار الوطني لكن لم تتفاعل الرئاسة التونسية معها، واتجه الاتحاد إلى الاحتجاجات بتنظيم إضراب عام في ولاية صفاقس في 16 يونيو 2022 اعتراضًا على تردى الوضع الاقتصادي، ولرفض الحكومة مطالب الاتحاد لزيادة رواتب العاملين، علاوة على رفضه خطط الحكومة للخروج من الأزمة المالية.
رابعها: ومن بين مؤشرات أخرى قادت إلى توتر العلاقات بينهما هو اعتقال النقابي “أنيس الكعبي” وبعض الإعلاميين منهم “نور الدين بوطار” مدير عام موزاييك أف أم، و”مهدي الجلاصي” رئيس النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، مما جعل الاتحاد يستمر في تنظيم الاحتجاجات اعتراضًا على قمع وسائل الإعلام في 11 فبراير 2023 ثم أخرى في 4 مارس الماضي اعتراضًا على سياسات الرئيس، وسوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. وزاد من تفاقم التوتر رفض الاتحاد الموازنة العامة للدولة لعام 2023 لحصر مصادر تمويل الميزانية في القروض الخارجية وزيادة الضرائب، والتفاف الحكومة التونسية على حقوق العاملين بعدم الالتزام بالاتفاقيات السابقة ومنها اتفاقية 6 فبراير 2021 أو ما يتعلق بتنفيذ اتفاقية زيادة الأجور الأخير بنحو 3.5 في السنوات القادمة الموقعة بين حكومة نجلاء بودن والاتحاد العام التونسي للشغل برئاسة الطبوبي وعبر عن استيائه في بيان الهيئة الإدارية الوطنية للاتحاد العامّ التونسي للشغل الصادر في 13 مارس 2023.
مسارات محتملة
في ضوء التصريحات الأخيرة للرئيس ومساعي الاتحاد بطرح مبادرة للخروج من الأزمة، يمكن الإشارة إلى مسارين محتملين على النحو الآتي:
الأول: قد نشهد انفراجة في الأزمة بين الاتحاد العام التونسي للشغل والرئيس قيس سعيد في ظل تصريحات لرئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان “بسام الطريفي” في 4 أبريل 2023 بطرح الاتحاد بالتعاون مع منظمات أخرى مثل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والهيئة الوطنية للمحامين، والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية لمبادرة للإنقاذ الوطني الأيام القادمة للخروج من الأزمة التي تشهدها الدولة، لكن يظل ذلك مرهون بتقارب وجهات النظر بينه وبين الرئيس التونسي لحلحة الأزمة بما تقتضيه الأوضاع الاقتصادية للدولة. من ناحية ثانية تؤكد تصريحات الرئيس قيس سعيد خلال الذكرى الـ 23 لرحيل الرئيس الحبيب بورقيبة في 6 أبريل 2023 أن هناك حرص من جانب الدولة على رفض إملاءات صندوق النقد الدولي فيما يتعلق بشروط الصندوق لتقديم دعم لتونس بنحو 1.9 مليار، بما يعني عدم موافقة الرئيس على خفض الدعم ورفض أي سياسات تقود إلى فقر المواطن، إذ أشار الرئيس في كلمته إلى أن خفض الدعم في السابق أدى إلى احتجاجات في 1984، مؤكدًا “أن السلم الأهلي ليس لعبة” بما يبعث برسائل إلى الاتحاد التونسي للشغل لتقارب وجهات النظر حول عدم خفض الدعم وربما إيجاد فرصة ومساحة للتوافق بين الطرفين حول الخروج من الأزمة خلال المرحلة المقبلة.
الثاني: استمرار التوتر في العلاقات ومضيّ الرئيس سعيد في المسار المتبع منذ يوليو 2021، مع مواصلة الاتحاد اتباع النهج الرافض لسياسات الرئيس من خلال الإضرابات في ظل القاعدة الشعبية العريضة والمكانة التي يحظى بها الاتحاد العام التونسي للشغل، ويؤثر هذا المسار على الأوضاع الاقتصادية في الدولة ومن ثم تزداد الأمور سوءًا من حيث تدهور الوضع الاقتصادي، وانخفاض قيمة العملة واستمرار نهج الاحتجاجات والإضرابات في الدولة بما يخفض من حظوظها في الحصول على قرض من الصندوق أو أي استثمارات خارجية في ظل التوتر السياسى وعدم الاستقرار الداخلي، وبما يخفض ثقة المؤسسات الخارجية في قدرة الدولة على الإصلاح، هذا المسار يقود الدولة إلى حالة من الفوضى وعدم الاستقرار لاسيما مع تحديات كبيرة تشهدها تونس من بينها أزمة الهجرة غير الشرعية وتشير التقديرات بأن روما استقبلت نحو أكثر من 32 ألف مهاجر في 2022 من بينهم 18 ألف تونسي. ختامًا؛ تظل هناك ضرورة للتوافق بين الرئيس قيس سعيد والاتحاد العام التونسي للشغل لخروج الدولة من آفاق الأزمة السياسية والاقتصادية التي تعيشها، خاصة أن القضايا متشابكة وأن مصير النمو الاقتصادي مرتبط باستقرار الأوضاع السياسية.